في ( العروبة و الإسلام ).. البَدَيهي و الإشكاليّ في تحديد الأولويّات المعاصرة

                               الحلقة الأولى  

1▪︎ يعتقد كثيرون من المسيحيين ، و من غير المسيحيين ، بدافع و بآخَر ، أنّ المسيحيّة اليوم قد أصابها الكثير من التّحريف التّاريخيّ ، و الاستثمار السّياسيّ الإمبرياليّ ، و ذلك منذ العهد الأوّل مع ( بولس الطرسوسي ) ، مروراً ببداية عهد النّظم الاستعماريّة الكولونياليّة العالمية المبكّرة في الغرب في مشروعها الاحتكاريّ للثّقافات و الاقتصادات و الحريّات العالميّة ، و هو ما تركّز مع أوّل بوادر رأس المال التّجاريّ و رأس المال الرّيعيّ منذ ما قبل عصر النّهضة الأوروبيّ ، ليتجذّر هذا المشروع نهائيّاً مع الثّورة الصّناعيّة في بريطانيا في القرن الثّامن عشر الميلاديّ ، مع ما كان قد سبقها من تحوّلات ثقافيّة و سياسيّة دينيّة واسعة و عميقة منذ القرن السّادس عشر الميلاديّ ، ارتبطت بالإصلاح المسيحيّ البروتستانتيّ و بدوره التّالي في تكريس مفاهيم الليبيراليّات الاجتماعيّة و الدّينيّة و الاقتصاديّة و السّياسيّة ، ما أسّس لثقافة مسيحيّة غربيّة معاصرة ؛ و حتّى في ردّ الفعل الكاثوليكيّ على ” الإصلاح ” الدّينيّ البروتستانتيّ بإصلاح آخر ، كاثوليكيّ..
بحيث صار يُنظر إلى الثّقافة المسيحيّة الحديثة و المعاصرة على أنّها بعيدة جدّاً عن الجذر الأوّل المسيحيّ بصورتها في تعاليم السّيّد المسيح ؛ و هو ما يرتكز إليه أولئك الذين ينظرون بذلك اليوم و منذ فترة من الزّمن تعود إلى أكثر من قرنين.. في الحدّ الأدنى ، و يعني منذ ثورة الحداثة الفكريّة العالميّة ، هذا إن لم نجد ذلك في ما هو أقدم و أعني عند فلاسفة و مفكّري الحداثة و التّنوير ، و عند أسلافهم المؤسّسين منذ كانط إلى هيغل.
2▪︎ و في غمار الرّؤى النّقديّة التي تتبنّاها الثّقافة العالميّة التي ليس لها أطر نهائيّة أو متّفق عليها ، تندرج النّظريّات على الدّين ، على الأديان ، بقدر بُعدها عن جذر واقعتها التّاريخيّة الأولى ، فإذا بها متحوّرات فكريّة و معرفيّة و أيديولوجيّة تُحتسب كذلك بحسب المشروع السّياسيّ و القوميّ و الاجتماعيّ الذي ترتبط فيه ، حتّى لَيُخيّل إلى المتابعين العاطفيين و غير المتخصّصين بتاريخ النّظم و الأفكار و الأديان و القوميّات.. إلخ ؛ أنّ ما يربط الأسباب بالنّتائج إنّما هو أوهى من أن يشكّل دليلاً تاريخيّاً قيّماً و قمينا بالاعتبار ، مع أن فصول و أجزاء هذه الصّورة ، إنّما هي من التّداخل و التّوالف و التّعضّي ، بما لا يقبل الانفصال أو الانفصام .
3▪︎ نريد في نزع البداهة المتسلّطة بين “الدّين” و العالَم ما من شأنه أن يقودَنا في مدخل إلى علاقة العروبة بالإسلام. هنا تضخّمت العلاقة كثيراً أكثر ممّا هي عليه بين المسيحيّة و القوميّات الغربيّة ، لما للارتباط الجذريّ الأوليّ بين العروبة و الإسلام ، في صراحة النّصوص “القرآنيّة” التي لا تحتمل التّأويل و لا التّفسير ، فهي قيمتها مستمدّة من مباشريّة الخطاب القرآنيّ الذي ربط بين الإسلام كدين ، و بين العروبة ؛ و بين الرسول محمّد النّبيّ بوظيفته العربيّة المباشرة ؛ و كذلك بين “القرآن” نفسه الذي جاء خطاباً عربيّاً خصّ به العرب أوّلاً و قبْل الجميع ، و كذلك في تحديد المجال الجغرافيّ الثّقافيّ لممارسة الدّعوة الإسلاميّة المحمّديّة ” بأمّ القرى و من حولها ” ، و هو ما لا يحتمل الكثير من التّوسّع الدّلاليّ لظرف المكان ..
مع أنّه ليسَ لأحد ادّعاء محدوديّة دين الله بإطار جغرافيّ محدّد أو محدود ، و لكن في الوقت نفسه لا يمكن تصور تلك المساحة الجغرافيّة الأرضيّة لضرورة انتشار دين الإسلام أو “.نشره “.. في اتّجاه نزعة أيديولوجيّة أمميّة كوسموبوليتيّة إسلاميّة ، تُعتبر فَخّاً من أسوأ المطبّات التي قاد بها “الإسلام السّياسيّ” الدّين الإسلاميّ المزيّف إلى “أمّة إسلاميّة” هي الأخرى مزيّفة و لا يعضُدها عقل اجتماعيّ في ظلّ نموّ و تناميّ الحركات القوميّة العالميّة الغربيّة منذ القرن التّاسع عشر الميلاديّ ، و أهمّيّة ذلك في نظريّة سيادة الأمّة القوميّة من خلال إنجاز الدّولة القوميّة.
و لقد تلا ذلك عبر أقلّ من قرن من الزّمن ظهور النّزعات الثّقافيّة القوميّة العربيّة مع الرّواد الأوائل المعروفين. كان الأمر هذه المرّة في تطاحن و تناقض مع الوعي الدّينيّ المركزيّ الإسلاميّ الذي احتكره العثمانيّون المحتلّون ، فيما أقصي العرب عنه نتيجة العسف و الظّلم الاستعماريّ التّركيّ – السّلجوقيّ.
4▪︎ المشهد السّابق هو أوّل المشاهد التي دفعت بالإشكاليّة بين العروبة و الدّين الإسلاميّ إلى أوجها ؛ هذا مع أنّه كان لتك الإشكاليّة تاريخ أقدم من ذلك يعود إلى الدّولة الأمويّة في دمشق حينما بدّلتْ المُلكَ بالدّين ، ثمّ إلى نهايات حكم الدّولة العباسيّة في بغداد ، عندما انحسر العنصر العربيّ من الدّولة الإسلاميّة ، و ظهرت دويلات أخرى عربيّة و غير عربيّة استقلّت بالقرار السّياسيّ عن جسد و مشروع الدّولة ؛ ثمّ و إلى نهاية الحكم الأمويّ في الأندلس ، عندما لم يجتمع العنصر العربيّ الإسلاميّ على قرار سياسيّ قويّ كانت دولة الأندلس في أمسّ الحاجة إليه في مواجهة النّزعات الاستقلاليّة عن جسد الدّولة ، من جهة ، و في مواجهة الإمارات و الطّوائف العربيّة الإسلاميّة في ما بينها بحثاً عن الشّهوة و المال و السّلطان في إطار التّلاشي.
5▪︎ هكذا لم يعد من الممكن قراءة الثّقافة العربيّة الإسلاميّة قراءة بديهيّة.. و ربّما لم تكن يوماً كذلك ، إذا أخذنا بالاعتبار الثّقافات “العربيّة” الأولى المُحيطة و المتمرّدة على إسلام النبي العربي محمّد بن عبدالله ، و ما تلاها من انقسامات قبليّة و جاهليّة و أعرابيّة ( بالمفهوم الأيديولوجيّ ) ارتكاسيّة ، جعلت لها ، في ما بعد ، تطوراتٍ في نظم و دول و إمبراطوريّات !
6▪︎ و يُرجِع البعض نشوءَ ” الإسلام السّياسيّ” إلى زمن ” الخوارج ” في حقبة متأخّرة من الخلافة الرّاشديّة. و في هذا تجاهل لظروف البعثة النّبويّة نفسها ، ناهيك عن الملابسات ” السّياسيّة ” القبَليّة التي أحاطت ظروف غياب الرسول محمّد نبيّ الله ، و انتقاله إلى الرّفيق الأعلى.
و يترتّب على هذا العسف النّقديّ التّاريخيّ “للإسلام السّياسيّ” مجموعة من النّتائج الثّقافيّة و السّياسيّة المعاصرة اليوم في فهمنا للإسلام السّياسيّ ، نفسه. فالإسلام السياسي ، ليس ظاهرة بدأت في “عشرينات القرن الماضي [ عندما ] ظهر في العالم الإسلاميّ [ كـ ] مفهوم للإسلام ، كان قد برز في عهد الخوارج ، تحديداً لهويّته و تفريقاً له عن الإسلام المستنير “. ففي هذا ” الخطاب الأيديولوجيّ و السّياسيّ” ثمّة مغالطات يجب تنقية “الخطاب المعرفيّ” الموجّه إلى عصرنا ، منه.
7▪︎ ارتبط مفهوم “الإسلام السّياسيّ” في القرون الوسطى الإسلاميّة بنزع التّعضّي ما بين ” العروبة ” و ” الإسلام ” ، تحت ضغط الاحتلال العثمانيّ على الثّقافة العربيّة الإسلاميّة ، استمراراً لنزعات قديمة تحوّلت إلى قراءات متناقضة للإسلام. و في غمار ذلك عمّق الاحتلال العثمانيّ الهويّة الطّائفيّة للملل و النّحل ، الدّينيّة و العقليّة ، الأكثر شهرة في تاريخ الإسلام القديم يومَ كان “الإسلام” لم ينفصل عن ” العروبة ” ، بعد.
8▪︎ في ظروف الكولونياليّة العالميّة و استهدافها لثقافات الشّعوب التي انحسرت من محيط التّأثير العالميّ و الإنسانيّ ، و اعتباراً من القرن التّاسع عشر و بدايات القرن العشرين الميلاديين ، تطوّرت النّزعة ” الإسلامويّة ” السّياسيّة ، و انتظمت و دخلت في نُظم و تنظيمات و أطر سياسيّة معروفة و معلنة ، بابتكار و بدعم و تشجيع من المخابرات البريطانيّة التي كانت تشكّل مظلّة عالميّة في حينه ، فعرفت المجتمعات العربيّة الإسلاميّة شكلاً سياسيّاً جديداً من “الإسلام السّياسيّ” في ما سمّي “جماعة الأخوان المسلمين”، بعد تمهيد ثقافيّ و أيديولوجيّ كان وراءه دعاة ما سمّي ” اليقظة الإسلاميّة ” التي كان وراءها ( جمال الدّين الأفغانيّ ) و ( محمد عبده ) و ( أبو الأعلى المودودي )و، و هي ما شقّت الطّريق لعملاء الاستعمار البريطانيّ من “الأخونجيين”، في القرن العشرين من “الإسلاميين السّياسيين” مثل ( رشيد رضا ) و ( حسن البنا ) و ( سيّد قطب ) و ( مصطفى جاموس ) ، و آخرين ؛ إلى ما وصل إليه تنوّع ” الإسلام السّياسيّ” اليومَ ، و الذي يقوم كلّه على إرث ” الإخوان المسلمين “.
9▪︎شكّل “الأخوان المسلمين” في القرن العشرين الميلادي في مصر و المشرق العربيّ ، نواة صلبة للإسلام السّياسيّ الذي عرف في ما بعد أشكالاً من التّطرّف المحلّيّ و الإقليميّ و العالميّ انطلقت من جذور ” الإخوان المسلمين ” مدعومة من دول الخليج العربيّ النفطيّ بشل أساسيّ ، بحيث شهدت نهايات القرن العشرين تحوّلات و تبادلات في المواقع القياديّة ” الإخونجيّة ” في المنطقة لتتسلّم ( تركيا ) المعاصرة قيادة حركة ” الأدإخوان المسلمين ” ، و لتعمل على تكريس الفجوة التي كانت تتأسّس ، في الإطار ” العثمانيّ ” ، ما بين ” العروبة ” و ” الإسلام “.
10▪︎ بدأت ( تركيا ) ، و بشكل منظّم و مدروس ، و بدعم من المخابرات الإمبرياليّة المعاصرة ، تعمل على تعميق الفجوة الأيديولوجيّة بين ” العروبة ” و ” الإسلام ” ، مدعومة من دول عربيّة رجعيّة و منظّمات سياسيّة و عسكريّة راديكاليّة عربيّة رجعيّة تحمل “رايات” النّضال الكاذب لتحرير المغتصب في الجغرافيا العربيّة و بخاصّة في فلسطين.
و جاءت ظاهرة ” الإسلام السّياسيّ ” ، منذ بداياتها الرّسميّة الحديثة ، منذ أواخر القرن التّاسع عشر الميلاديّ ، كردّ سياسيّ و ثقافيّ و عسكريّ مباشر على علامات النّهوض اليقظويّ القوميّ العربيّ ضد ” الاحتلال العثمانيّ ” . كان يومها لتركيا أهدافها الأبديّة في استدامة النّير العثمانيّ فوق رقاب العرب و ” العروبة “.

                                 الحلقة الثانية والأخيرة 

11▪︎ يمكن رسم الصّورة المكثّفة التّالية لكرونولوجيا الأحداث و الأفكار في القرن التّاسع عشر و العشرين الميلاديين . إنّه بقدر ما بدأ الوعي القوميّ العربيّ بتلمّس طريق انعتاقه من ربقة خرافة ” الطّاعة الدّينيّة الإسلاميّة ” الأبويّة – الإقطاعيّة للمحتلّ العثمانيّ ، ظهرت بالتّوازي مسألة ” العروبة ” و ” الإسلام ” في الثّقافة السّياسيّة المعاصرة ، بوصفها ” مشكلة ” أو ” إشكاليّة ” نزعت ” البداهة ” عن علاقة العروبة بالإسلام.
ساهم في ذلك ارتجاليّة البرامج السّياسيّة و الأفكار التي اعتمدتها أو انتحلتْها بعض الأحزاب و الحركات العربيّة ذات التّوجّهات “القوميّة” و “الوطنيّة” ذات النّزعة العلمانيّة المقلِّدة للأوساط الفكريّة الغربيّة ، بحيث استطاعتْ الأفكار “الإخونجيّة” و الأيديولوجيّات الدّينيّة الرّجعيّة أن تؤلّب الحساسيّة الإسلاميّة الشّعبويّة ضدّ تلك “الحركات” الحداثيّة التي ظهرت كردّ فعل على سياسات الاستغنام العثمانيّ للعرب و العروبة ، و في سياق ذلك ما حملتْه تلك ” الحداثات ” السّياسيّة و الثّقافيّة من عداء للدّين السّياسيّ ( الإسلام السّياسيّ ) الذي مثّله الاحتلال العثمانيّ للعرب طيلة مئات السّنين.
هنا تمكّنتْ “القوى الدّينيّة الرّجعيّة” بين “العرب” ، و بدعم و تأييد من قبل امبراطوريّة الاحتلال العثمانيّ و بقاياها و آثارها الأيديولوجيّة في الأوساط الاجتماعيّة و السّياسيّة العربيّة الرّجعيّة ، و المتعصّبة و السّاذجة ، و من قبل الاستعمار البريطانيّ ، من استغلال النّزعة العلمانيّة التّحرّريّة بشكلها الجنينيّ و غير النّاضج ، إذ جعلت منها بسهولة نقيضاً لكلّ شكل من أشكال “الدّين” أو “الإيمان” ، فزرعتْها في الأذهان العامّة كعدوّة للإسلام.. و هو ما أسّس نهائيّاً لتناقضات ثقافيّة و سياسيّة غزت المخيال الاجتماعيّ و أحالتْه إلى عدوّ للعروبة نفسها و لكلّ شكل من أشكال النّضال التّحرّري الوطنيّ و القوميّ ، بوصفه وعياً ” كافراً ” و ” ملحداً ” و ” غربيّاً “.. فاستقرّت إشكاليّة ثنائيّة العروبة و الإسلام ، و احتلّتْ قواعد واسعة للتّفكير و الثّقافة و السّياسة و السّلوك ، و تداخلتْ مع ” تابوات ” قبليّة و جاهليّة.. و قد ظهرت ، من جديد ، من التّواصل الأيديولوجيّ مع مُثُلٍ تعود في تاريخها إلى الإسلام الأوّل و إلى ما قبل الإسلام.
12▪︎ و على أنّ التّاريخ الواقعيّ كان قد قدّم حقائق مغايرة ، فقد حافظ الإسلام على أرفع ما كان في ” الجاهليّة ” من قيم و مثل ، و بطبيعة الحال فقد شذّب ما كان منها مرتبطاً بجلافة العيش الجافّ الخالي من ” روح ” جامعة ، على رغم ثراء الواقع الرّوحيّ للعرب قبل الإسلام.
و على اعتبار أنّ ” الدّين ” واحد عند الله.. فلقد حافظ ” الإسلام ” نفسه على جملة من الطّقوس التي كانت سائدة في العهد الوثنيّ و الجاهليّ ، و هي طقوس في حقيقتها و منها ما يعود إلى نبيّ الله إبراهيم و إبنه إسماعيل، و منها ما يعود إلى نبيّ الله إدريس نفسه ، فهي غير وثنيّة على كلّ حال ؛ و لكن و من منطلق أن حقيقة الدّين حقيقة عريقة بوصفها رسالة السّماء إلى الأرض ، و بوصفها عابرة للزّمان و الشّعوب و الأقوام ، فقد جُعلت في الدّين الجديد ( الإسلام ) كأركان أساسيّة و صلبة من أركانه.
13▪︎ من المخاطر التي استشعرتْها الثّقافات ” الإسلاميّة ” غير العربيّة ، كما هو واقع الحال مع الثّقافة السّلجوقيّة التي ناصبت العداء للعروبة مبكّراً ، و منذ القرن العاشر و الحادي عشر الميلاديّين ، و قبيل نهاية ” الدّولة العبّاسيّة “.. أن توسّعت في إلهام المتعصّبين لدين الملّة العثمانيّ ، تعصّباً عنصريّاً و طائفيّاً ، أسباباً عديدة و متعدّدة لافتعال تناقض نهائيّ مزعوم بين العروبة و الإسلام ، فيما انصبّت في ما بعد الجهود السّاذجة لإثبات عكس ذلك ، بينما كان حريّاً احتقار مثل هذه الطّروحات و زيفها و عدم الاكتراث لها أو العناية بها ، إذ أنّ إيلاء الخرافة أهميّة أكثر مما يجب ، يجعل منها شيئاً واقعيّاً.
و على العكس ، فإنّ من استجاب إلى ذلك بتفنيد مثل تلك الخرافات انساق بدافع أو بآخر إلى نسقين ثقافيّين سطحيّين راحا يعملا على إثبات العكس ، فدخلا مع الآخرين في جدالات تاريخيّة عقيمة ضيّعت المغزى من المواجهة المعرفيّة السّياسيّة ، أو أنهما عملا تحت وطأة الشّعور بالنّقص و الإقرار بالذّنب ؛ فبدأت التّنازلات ” الدّينيّة ” السّياسيّة ، في شكل آخر من ” الإسلام السّياسيّ ” ، تقدَّم للرّجعيّة الدّينيّة و المتديّنين الرّجعيين ، سواء على مستوى الفكر و الثّقافة.. في مشاريع فكريّة ” وطنيّة ” و ” قوميّة “.. هجينة و محدودة من الدّين و السّياسة ، أو في مستوى السّياسة المباشرة فظهرت الدّول الوطنيّة و القوميّة العربيّة الأسيرة للإسلام السّياسيّ ، أو بالأحرى ظهر ما يُسمّى بدين الدّولة أو دولة الدّين..
في حين أنّ الدّولة لا دين لها ، و أنّ الدّين لا دولة له . و هو ما يُثبت تاريخ العرب المسلمين منذ العهد الرّاشديّ و حتّى اليوم.
14▪︎ شكّل هذا الواقع حالة إشكاليّة انطلاقاً من بديهيّات ، بينما نَزَعَ هذا الواقع نفسه الأشكلة عن رجعيّات و مرجعيّات في السّياسة و الدّين و حوّلها إلى بديهيّات و ربّما إلى فروض و واجبات و مقدّسات. نحن ننظر بعين الجدّيّة إلى سخافة خلق إشكاليّة حول علاقة العروبة و الإسلام.
و ما الكلام الإنشائيّ ” الخُطبويّ ” في هذه الأيام ، حول الدّفاع عن عروبة الإسلام أو إسلام العروبة.. و حول التّلازم الصّنوويّ.. “الأكيد” بين العروبة و الإسلام ، سوى فصل واحد من تعميق ” الإشكاليّة ” التي افتعلها أعداؤنا ، أعداء العروبة و الإسلام ، و تكريس لها بفتحها على ” المجاهيل ” المستمدّة إمّا من ضعف الحُجّة و هواية الانتماء الكاذبة إلى سياق التّاريخ الطّبيعيّ بدوافع خطرة و مبطّنة ؛ و إمّا بتنفير الوعي من كلا العروبة و الإسلام جرّاء الصّفعة الموجعة و المؤلمة و المُخزية التي تقدّمها “الأيديولوجيا” للوعي المعرفيّ المعاصر الذي صار يحتاج إلى أكثر من “المعرفة” لوعي ذاته و العالم ، ناهيك عن سخافة خُطب الأيديولوجيّات التي شوّهت كلّ حقيقة معرفيّة أو علميّة في هذا العالم ، اليوم.
و يبدو لنا أنّ الجواب الفعليّ على مختلف تلك السّخافات و الخزعبلات ، على مستوى المعرفة و العلم ، إنّما هو يكمن في سلوك الأفراد و الجماعات و المشاريع و النّظريّات و الدّول.
الأخطر من كلّ هذا هو ذلك الخلط المُفجع بين الحقيقة الواقعيّة و الإعلام ، و أعني أن يُصبح ” الإعلام ” هو البديل عن تقديم البرهان لإثبات الحقائق . و بديهيّ أنّ الإعلام ، رغم أهميته الكبرى ، غير قادر على ذلك ، مهما بلغت قوّته و احترافيّته و تمويله و فنيّته و أباطرته.
15▪︎ الظّاهرة الأكثر خطورة هي تلك التي تمثُلُ في استسهال تناول “المشكلة” التي نتحدّث عليها ، و كأنّها مشكلة أو إشكاليّة مطروحة بين ألعاب الأطفال.. هذا إن لم يكن هذا السّلوك موظّفاً أصلاً من أجل تتفيه هذه “القضيّة” و خلط أوراق “الإشكاليّة” ، و جعلها عُرضةً للسّخريّة و الاتّهام و التّنكيل من قبل القراءات و الفهوم المختلفة.
إنّ صياغة “الإشكاليّة” نفسها ، أمر يأتي متقدّماً على صياغة “مفاهيمها” و أدواتها. و أمّا اعتماد رجالاتها فيتقدّم على الجميع!
16▪︎و لا نجد ، مسوّغاً ، اليومَ ، لإعادة اجترار مفاهيم من مثل ” ثوريّة الإسلام ” أو ” الإسلام الثّائر ” ؛ فهذا ممّا يُسوّغ إعادة احتكار الإسلام ، في ظروف عالميّة معقّدة ، من قبل وكلاء حصريين على الإسلام ، ربّما هم “أقوى” من العرب ، اليوم.
ليس للدّين الإسلاميّ ، أو لغيره من الأديان أصحاب ممهور بهم الدّين أو ممهورة بهم الأديان .
رابطة العروبة و الإسلام رابطة تاريخيّة و جينالوجيّة و تأسيسيّة و مستمرّة ، لا تحتاج إلى إعادة تأكيد في وسط عالميّ تجاوز ذاته في “حداثات” متوالية و متعدّدة. و على رغم ذلك ليس لأحد من العرب أن يدّعي احتكاره للإسلام ، إذ أنّ هنالك من العرب من هم من غير المسلمين. و إذا كان الحديث يدور على رابطة العروبة و الإسلام من باب الثّقافة العربيّة الإسلاميّة على مبدأ غلبة العصر الأوّل العربيّ في ما كان يُدعى “صدر الإسلام”، فهذا ممّا لا يخضع في عصرنا الحاضر للنّقاش.
و أمّا عندما يوحي الاجتهاد الثّقافيّ أو السّياسيّ بجامعة أخرى ” إسلاميّة ” ، فهو ليسَ أكثر من باب شطب التّاريخ في حين أنّ التّاريخ لا يمكن شطبه بزعم ” سياسيّ ” ، إن لم يكن العكس هو الصّحيح من أنّ السّياسة نفسها لا يمكن لها أن تأخذ بعداً واقعيّاً و عقلانيّاً ما لم تُؤسّس هي على التّاريخ.
17▪︎ في المعالم السّابقة التي أتينا عليها من ” الإشكاليّة ” التّقليديّة للعروبة و الإسلام ، وجدنا أنّ كثيراً من البديهيّات قد انعكست إشكاليّات و مشكلات ، فيما كان يجري ” العمل السّياسيّ ” على العكس ، و أعني على تبسيط جملة من المشكلات التّاريخيّة التي واكبت النّزعة القوميّة العربيّة الحديثة و المعاصرة ، و جعلها بحكم المنتهية بواسطة تسخيف شأن الهويّة القوميّة العربيّة في إطار الإسلام ، و هو بالضّبط ما نجمت عنه مشكلة ” الإسلام السّياسيّ ” المعاصرة. و في جدليّة البداهة و الإشكاليّة هذه فإنّه من الضّروريّ الخروج من هذا المأزق بأفكار تحرّريّة على العروبة و الإسلام ، و ذلك بتضمين السّياق المعاصر لحلول قالها التّاريخ و قالتها الثّقافة التّاريخيّة ، و لم تُبقِ لأيّ اجتهاد آخر من باب “الإسلام السّياسيّ” دوراً في تجربة التّكريس ، و ذلك خروجاً من نفق التّقليد إلى رحاب المعاصرة و التّوليد.
18▪︎ يجب على العقل العربيّ المعاصر تجنّب الوقوع في فخّ الإيحاء. فعندما يُقفر الواقع العربيّ في شوط منه ، بما فيه الواقع الرّاهن، من أسباب و إمكانيّات التّقدّم و التّحرّر و التّنمية و العدالة الاجتماعيّة و تجاوز التّخلف و الأمراض و البؤس و العبوديّة الحضاريّة.. إلخ ؛ فليس ذلك بسبب مشكلة في العروبة أو في الإسلام ، أو في العلاقة ما بينهما.
هذا ما تعمل أوساط ثقافيّة و فكريّة و سياسيّة ، بما فيها أوساط عربيّة و إسلاميّة ، على الإيحاء به لصناعة الوعي العربيّ المعاصر. و من المفهوم أنّ ذلك إنّما هو مجرّد نفاق تاريخيّ يعمل النّظام العربيّ الرّسميّ على تأبيده في الثّقافة الاجتماعيّة و السّياسة و الإعلام ؛ و معه تعمل ، أيضاً ، أوساط خارجيّة ثقافيّة و سياسيّة على تكريسه في صناعة المُريدين من السّذّج و المأجورين.
إنّ كلّ ما في الأمر هو واقع العجز الاجتماعيّ السّياسيّ عن الاعتراف بالأهداف و الغايات العامّة التي من أجلها وُجدت و نشأت الدّولة في التّاريخ. هكذا لن يُفيدنا ، مثلاً ، البحث عن الحلول في ظلام الواقع و التّاريخ. و لن يُفيدنا معه اختلاق المشكلات و الأزمات.
و كذلك لن يُفيدنا ، مع هذا و ذاك ، نزع البداهة عن البديهيّات و لا كذلك تبسيط المشكلة أو المشكلات بخفضها إلى مستوى التّفاصيل و اليوميّات ، و المحاولة بها عن طريق ما يُسمّى بإدارة الأزمات.
19▪︎ في رأينا ، لسنا ، نحن ، كعرب أو مسلمين ، و كعرب و مسلمين ، واقعين في خطورة هذه المشكلة الكاذبة : مشكلة ” العروبة و الإسلام ” و تناقضهما أو تلازمهما أو جدليّة العلاقة بينهما. هذه ليست مشكلتنا. إنّها ليست مشكلة ، اليوم ، و ربّما كانت قد تبلورت كمشكلة حقيقيّة في تاريخ سابق قضى منذ قرن.
و الحقّ أنّنا واقعون اليومَ في جملة من ” المشكلات ” التّاريخيّة الثّقافيّة و الحضاريّة في وقت واحد . و هنا ، ليسَ الآنَ وقت تعداد تلك المشكلات الضّارية ، على الإجمال أو بالتّفصيل . غير أنّه من الكافي لإدراك ” مشاكلنا ” الحقيقيّة ، أن ننظرَ إلى واقعنا الصّعب.. و نفهم أبعاد ذلك ، و نسمّي الأشياء و الوقائع و الظّواهر بصراحة ، بعد أن صارتْ متاحةً معرفة هذا الواقع للجميع ؛ هذا إلّا إذا كان لا بدّ من أن نُبقي على أدمغتنا في حالة اجترار المآثر و المآسي ، سواء بسواء.
20▪︎ باختصار فإنّ جذر جميع المشكلات التي تعانيها مجتمعاتنا العربيّة الإسلاميّة ، ينحصر في ضرورة بناء وترسيخ الدّولة الوطنيّة المعاصرة.. بعد أن صرنا مهدّدين ، فعلاً ، بالحصار التّاريخيّ الشّامل الذي يمنعنا من بناء الدّولة و المجتمع ، و تحقيق العدالة الاجتماعيّة و التّحرير ، بما هو في جانب كبير منه منعة للعروبة و حرّيّة في الإسلام .
و هكذا فقط يكون الرّدّ على جميع المتربّصين بتاريخنا من خلال تهديدنا بواقعنا و حاضرنا و مستقبلنا عندما نأخذ ما نحن فيه على محمل الجِدِّ و المسؤوليّة السّياسيّة التّاريخيّة و الأخلاقيّة.
نحن نحتاج ، بالفعل ، إلى بيئة معاصرة نقرأ فيها حاجاتنا الفعليّة بوضوح. و أمّا غير ذلك فهو خلق للمشكلات من عدم.. و قفز حرّ لهواة الكلام في المؤامرات التي تُطبّق تباعاً على البشر ، أو في الأوهام و الإعلام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى