هكذا دفعت الامة العربية كلها ثمن الردة عن ثورة ٢٣ يوليو

ارفع رأسك، ايها العربي، فانت اليوم في ضيافة جمال عبد الناصر، لتحتفل معه بذكرى ثورة ٢٣ يوليو الخالدة، ووثبة العرب الكبرى، وقومتهم الوجودية العظمى، وانطلاقتهم النهضوية الرائدة والواعدة بالحرية والمستقبل الافضل والامثل والمبني للمعلوم.
ارفع رأسك، ايها العربي، فانت اليوم بين يديّ “ام الثورات” التي كلما تجددت ذكراها تعددت مزاياها، وتأكدت ضرورتها وجدواها.. بوصفها الثورة التي ولدت عملاقة، وانبثقت من قلب المفاجأة، وقفزت من فوق المستحيل، وشكلت انعطافة استراتيجية هائلة زلزلت الحيز العربي من الماء الى الماء، وسارعت لتلبية نداء المقهورين والمظلومين والمنكسرين العرب، حين اطلقت اول شعاراتها المدوية: “ارفع رأسك يا اخي، فقد زال عهد الاستبداد”.
في مثل هذا اليوم من مسافة ٦٨ عاماً تبارك الفعل والفاعل، وتعانق المبتدأ والخبر، وتسابق السؤال والجواب، واشرق الفجر قبل صياح الديك.. فقد نهض الجيش المصري بمهمة جليلة، وتفتق ليل القاهرة عن ثورة مظفرة، وتفاجأ العالم بما لم يكن في الحسبان، وفتح التاريخ صفحة جديدة ومجيدة لقائد المسيرة القومية العتيدة.. جمال عبد الناصر.
منذ بداية عهدها عرّفت ثورة ٢٣ يوليو على نفسها، وقدمت للشعب العربي كله اوراق اعتمادها، وطرحت على الملأ فلسفة مشروعها الثوري التحرري المتمثل في دوائر عملها الثلاث، وهي الدائرة العربية، والاخرى الاسلامية، والثالثة الافريقية.. ثم ما لبثت، بعد اكتناز الخبرة ومراجعة التجربة، ان جددت وبلورت في اهدافها وعناوين مشروعها، ورفعت شعارات: الوحدة والحرية والاشتراكية.
كانت الامة العربية تبحث عن ذاتها، وتتلمس دروب خلاصها، وتتوق الى فارس شجاع يقود خطاها، ويرفع معنوياتها ويحقق آمالها، ويبلسم جراحها المثخنة بطعنات نكبة فلسطين، وغدر سايكس وبيكو، ووعيد بلفور، ومجزرة ميسلون.. فكان ان اكرمها التاريخ بثورة ٢٣ يوليو، وانعم الله عليها “بابي خالد” الذي بادر من فوره الى صياغة وحدة شعبية عربية عابرة للحدود القُطرية، وتأجيج حالة قومية شاملة وحماسية قلبت كل المعادلات السائدة آنذاك، وحققت خلال بضع سنوات ما يشبه المعجزات من النجاحات والانتصارات.
عَظَمة هذه الثورة تمثلت، اولاً وقبل كل شيئ، في قدرتها السحرية على الالتحام الواسع والسريع بالسواد الاعظم من الشعب العربي، ليس بقوة طروحاتها وطموحاتها وشعاراتها الثورية فقط، بل ايضاً عبر استنفار مخزون الذاكرة القحطانية السرمدية، وبعث صليل سيوف الفتوحات الاسلامية، وايقاظ الروح التاريخية التليدة للامة العربية.. ذلك لان للامم العريقة والمسكونة بعبق التاريخ جوهرها الخاص، وموروثها الاصيل، وضميرها المستتر، وطبائعها ومزاياها وسجاياها وقوانين حركاتها وسكناتها، المختلفة تماماً عن الامم والدول والكيانات الطارئة والملفقة والمصطنعة، والمفتقرة للعراقة والسؤدد والارومة الثابتة، والجذور الضاربة عميقاً في احشاء الارض.
شأن كل الثورات الزلزالية الكبرى، حصدت ثورة ٢٣ يوليو الكثير من النجاحات، كما مُنيت بعدد من الاخفاقات.. غير ان “مشكلة” هذه الثورة “ونقاط ضعفها” وكل ما يأخذه المرجفون عليها، يكمن – كما ارى – في افضل وانبل واسمى ما عندها.. فهم يعيبون عليها فضائل لا نقائص.. استقامة لا اعوجاجاً.. طهارة لا فساداً.. وطنية لا تبعية.. مصداقية لا افكاً وزيفاً.. مبدئية وثباتاً لا تذبذباً وتقلباً وتلوناً وقائياً.. سداداً ورشاداً وصواب بوصلة، وليس اغلاطاً وسلبيات وهمبكات دونية، حيث يحضرني، في هذا المقام، المثل الشعبي المصري المعروف: “ما لاقوش في الورد عيب، قالوا له يا احمر الخدين”.
فضائل وشمائل هذه الثورة، وسلامة نهجها، وشموخ رأسها، وجلال دورها، وشمولية مشروعها القومي الوحدوي، وقوة حضورها وتأثيرها مصرياً وعربياً وافريقياً وعالمياً، هي التي ارعبت الغرب الاستعماري منها، والّبت الاسلام الاخواني عليها، كما استعدت عليها دهاقنة الامبريالية الامريكية، والصهيونية اليهودية والانجليكانية، والرجعية السعودية الوهابية، الذين استماتوا في مشاغلتها وارهاقها واستنزاف قواها، عبر شن الحروب العسكرية، وحبك المؤامرات الاستخبارية، وفرض القيود والضغوط والحصارات الاقتصادية.
وبمثل ما اجهز هؤلاء الدهاقنة الماكرون على ثورة عبد الناصر بالامس البعيد، فقد اجهزوا على ثورة تيتو وفككوا الاتحاد اليوغسلافي، وعلى ثورة لينين وفككوا الاتحاد السوفياتي بالامس القريب، وها هم يسيرون اليوم على ذات النهج الوسخ، فيداورون ويهددون ويحاصرون ايران وفنزويلا بغية اطاحة ثورتي الخميني وشافيز، لا قدّر الله.
وعليه، فحين ارتد المقبور انور السادات عن ثورة يوليو ، وخان مبادئها ومواقفها واخلاقياتها، وجنح للسلم مع الاعداء وللحرب على الاشقاء والاصدقاء.. خسرت مصر وزنها النوعي، وفقدت دورها الطليعي، وترجلت عن صهوة القيادة القومية للامة العربية، التي لم تلبث، هي الاخرى، ان بدأت بالتراجع والتهاوي والسقوط التدريجي، حتى وصلت الى ما نحن عليه من خسران لانفسنا، وافلاس لموجوديتنا، وهوان على الناس، ومكابدة لتعاسة واقعٍ ابشع من كل وصف، واقبح من اي ذنب، واحط من ادنى مستوى.
ازعم، وربما اجزم، ان الردة الساداتية المبرمجة امريكياً وصهيونياً وسعودياً، هي التي حلّلت المحرمات السياسية، وشرّعت للفسق والفجور “وزنى المحارم” في العلاقات العربية البينية، واوصلت الكينونة العربية كلها الى هذا الدرك الاسفل من العار والانكسار… فلولاها لما كرّت المسبحة العربية، وتقاطرت علينا الويلات والرزايا والنكبات من كل جانب.. لولاها لما حصلت زيارة القدس التي انجبت – سفاحاً- معاهدة كامب ديفد، واخرجت مصر من حلبة الصراع العربي – الصهيوني، ولما تجرأ شارون على احتلال بيروت، وتنصيب رئيس دولة عربية، وتهجير المقاومة الفلسطينية الى تونس، وبعدها الى اوسلو، ثم رام الله حيث انزلقت منظمة التحرير تحت السقف العبراني، وباتت “سلطتها” الداجنة والمهادنة تدور في افق المشروع الصهيوني، شأنها شأن احزاب وحركات المعارضة الاسرائيلية المرخصة والمحكومة بالنشاطات والممارسات السلمية والسياسية والمدنية فقط لا غير .
مخرجات الانقلاب الساداتي وافرازاته السامة لم تقتصر على اعتقال مصر ، واختلال موازين القوى والعلاقات والمعادلات الاستراتيجية في الشرق الاوسط، بل اجتاحت البيت العربي من داخله، واشعلت حرب ابادة سياسية واعلامية وايدلوجية ضارية على الفكر القومي، والانتماء العروبي، والثقافة الوحدوية، والتوجهات الاشتراكية، وكل ما يمت الى المشروع الناصري بصلة.. وذلك بغية استبدال الذي هو شر بالذي هو خير.
ففي منتصف عقد السبعينات من القرن الماضي دقت ساعة “الصحوة الاسلامية” بتوقيت المخابرات المركزية الامريكية، ومباركة ومشاركة الحليفين الساداتي والسعودي، لكي تشكل قاعدة شعبية عريضة للمخطط “الجهادي” المزيف، وبديلاً للخط القومي العربي، والاطروحات اليسارية والراديكالية.. ولم يكن غريباً او مفاجئاً ان تباشر قوى وحركات وجماعات الصحوة اياها “جهادها المقدس”، بقيادة تنظيم القاعدة ضد الجيش السوفياتي الاحمر في افغانستان، ثم تتمدد زماناً ومكاناً حتى تقارف “العشرية الدامية” في الجزائر، قبل ان تحط الرحال في ضيافة تنظيم داعش المعروف جيداً بدون ال التعريف، والموصوف تماماً “بالرحمة والرأفة واحترام حق الحياة”.
لم يحمل القرن الحالي لامتنا بشائر خير، ولا بوادر توفيق ونجاح وارتياح، بل جاء محمّلاً بنُذر الوعيد والتهديد، ومدججاً باكداس الويلات والفظائع والنكبات، نظراً لتغول الرأسمالية وتوحش امريكا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وحماس بوش الابن ودعمه السخي لاسرائيل التي كان قد هزمها وعرّاها للتو حزب الله اللبناني، واثبت ان جيشها قابل للكسر والقهر، خلافاً لما كان يزعم ويتوهم الكثيرون.
كان واضحاً كعين الشمس ان اجندة بوش وتشيني ورامسفيلد وغوندليزا والمحافظين الجدد، صهيونية بامتياز، وعدوانية متنمرة تتحين الفرص لازهاق بقية الروح القومية، عبر نشر “الفوضى الخلاقة” في عموم البيت العربي.. وقد جاءتها هذه الفرصة فوق طبق من ذهب يحمل توقيع ابن لادن، الذي استبد به الغضب لان وكالة المخابرات اياها استغنت عن خدماته.
الوقائع والفجائع بعد ذلك معروفة، فهي ما زالت طازجة وحاضرة في الاذهان.. فقد هوجمت العراق وقُصفت عظام الخلفاء العباسيين بالفسفور الابيض واليورانيوم المنضّب، وحوصرت سوريا واخرج جيشها من لبنان ضمن ملعوب اغتيال الحريري، ثم استُبيحت رام الله واغتيل عرفات لافساح المجال الرئاسي امام افخاي عباس، ثم غُزيت غزة وقذفتها طائرات العدو بشواظ “الرصاص المصبوب” بذريعة الرد على اطلاقات حماس والجهاد، كما استُهدف حزب الله في جُنبات شهر تموز، على ايقاع رقصة التانغو بين كوندليزا الغندورة وفؤاد السنيورة.
غير ان حريق “الفوضى الخلاقة” ما زال في حاجة الى المزيد من الخشب والحطب، وهو ما حدا باحفاد ابالسة بني النضير وقريظة لتأجيج السعير الجهنمي الذي انتحل اسم “الربيع العربي “، واطلق اعتى موجات الطاقة السلبية والقوة التخريبية والغرائز الدونية والدموية لدى الجموع والجماعات الهائجة بلا وعي، والهائمة على وجوهها في كل الاتجاهات.
وعليه.. ها قد وصلنا الى هنا، وها نحن نقف اليوم على خرائب واطلال وطن عربي ممزق ومهان ومفترى عليه من دول الجوار، ومراكز الاستعمار والاستكبار على حد سواء.. فهل كان كل هذا البوار والدمار والحطام والركام ممكناً ومُتاحاً، لو بقيت مصر على عهد ثورة يوليو القومية التقدمية، ومشروع “ابي خالد” التنموي والنهضوي، ونداء العروبة القادم من جنبات الازهر؟؟
اخي العربي، انظر حولك، واقرأ خرائط مستقبلك ومصير وطنك، ولسوف تدرك بسهولة ان امريكا التي ترهلت وتبهدلت وشاخت وتراخت سريعاً – بعدما غاب نقيضها وغريمها السوفياتي – تُعد العدة وتمهد السبل لاستخلاف اسرائيل وتركيا على مقدرات العالم العربي، لدى انسحابها القريب من الشرق الاوسط.. شأن ما حدث عند منتصف القرن الماضي، حين قامت بريطانيا باستخلاف واشنطن على هذه المنطقة، ولكن جمال عبد الناصر ورفاقه من احرار الشرق وقفوا سداً منيعاً، وقاتلوا بجبروت الابطال لمنع هذا التوريث الاستعماري، ولانتزاع حق الحرية والسيادة والاستقلال التام.
لكي لا يستعيد العرب وحدتهم، وهي الشرط الاول والاساس لقوة وجودهم، وحماية حدودهم، وعزة انسانهم، وازدهار اقتصادهم، وانتشار لغتهم وثقافتهم.. سوف تعمد وتجهد امريكا الآفلة والآيلة للرحيل، الى تأبيد انقسامنا وفرقتنا وتشرذمنا، عبر توريث نفوذها في بلادنا لتركيا بدعاوي احياء دولة الخلافة العثمانية/ السُنية، والى اسرائيل بادعاء حماية دول الخليج وارض الرافدين من اطماع ايران/ الشيعية.. وهكذا بين حانا ومانا ضاعت لحانا !!
غير انني ازعم، وربما اجزم، في كلمتي الاخيرة برسم الاختتام، ان الثورات العظيمة، كثورة يوليو، يمكن ان تغيب او تغوص وتجد من يخونها وينقلب عليها، ولكنها حتماً لا تفنى وتتلاشى وتذهب مع الريح في واد، بل غالباً ما تعود لتفرض حضورها – ولو باشكال اخرى – بمجرد بروز الحاجة اليها، وتوفر شروط انقيامها وانبعاثها.
وكل عام وثورة ٢٣ يوليو المجيدة بالف خير !!

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. تحية لكم عمنا واستاذنا الكبير فهد الريماوي صاحب القلم الشامخ والقلم الحقيقي والحي والنابض في حب العرب ومجدهم وانتم المجد بذاته شكرا لهذه الكلمات الصادقة في هذا الزمن الكاذب شكرا لهذا العطاء في زمن الخذلات شكرا من القلب

زر الذهاب إلى الأعلى