■ د . عبد الحي زلوم : باحث وكاتب وخبير دولي ، جدير بالتقدير والاحترام .. ومواقفه في السنوات الأخيرة موضع فخر واعتزاز . والخلاف معه في الرأي أحيانا ، لا يعني أننا لا نتعلم منه غالبا ..
وهو كاتب موسوعي ، ومنذ عدة سنوات يدافع عن خيار المقاومة في مواجهة العدو الصهيوني وداعميه .
و لكنه في مقاله الأخير بعنوان :
( هل هناك تناقض بين الفكر الإسلامي والفكر القومي ؟ مهاجمة الإسلام تتم تحت غطاء أكذوبة “ الإسلام السياسي” ) ..
و رغم صحة الكثير مما جاء فيه ..لكن المشكلة في مثل هذا النوع من المقالات ، أنه يجري توظيفها للقول بأنه كانت هناك مؤامرة على الإسلام ، من خلال المؤامرة على ( السلطنة العثمانية ) !! ..
وكأن السلطنة العثمانية كانت حامية حمى الإسلام !! .. وكأنها لم تمتط الإسلام والمسلمين لقرون عديدة واستغلتهم ونهبت ثرواتهم ومقدراتهم ، وتمكنت بواسطتهم من استعمار قسم كبير من العالم، لصالح الدولة العثمانية حصرا، وعلى حساب العرب وباقي المسلمين ■
1▪︎ تظهر مجدّداً في هذه الأيّام الأخيرة من الحرب على سورية و ” المنطقة ” ، جملة من ” الفتاوى ” السّياسيّة المُلغَزة ، و المبطّنة بردّة دينيّة إلى عهد ” الخلافة الإسلاميّة الجامعة ” ، و تزداد شدّة و تيرتها طرداً مع التّغيّرات السّياسيّة في مشهد الحروب الدّائرة من أقصى مغرب الجغرافيا العربيّة إلى أقصى مشرقها ، مع ما تحمل معها هذه الحروب من إضافات جديدة لعناصر تدخل علانيةً في حروب لا تعنيها إلّا بوصف أصحابها مقاولي حروب و مستثمري قتل و دماء و وحشيّة ، في سياق ما تُثيره هذا الحروب من أوهام هؤلاء لاستعادة ” الأمجاد ” البائدة ؛ و مثال ذلك الأهمّ هو ما يقوم به ( أردوغان ) العثمنليّ من محاولة التفافيّة على مشاعر عرب و ” مسلمي” المغرب و المشرق ، و العمل على كسب تأييدهم في مشروعه الإمبراطوريّ الجديد ، الذي يَعِدُ به هؤلاء بنصرة جديدة لعهد السّلطنة العثمانيّة المنقرضة ، لاعباً بذلك على الحميّة الضّيّقة و المحدودة لبقايا الإقطاع الدّينيّ ” الإسلاميّ ” بوجهه العثمانيّ و ثقافاته المنتشرة حتّى اليوم ما بين العرب المسلمين في المشرق و المغرب ، و في كلّ مكان.
2▪︎ و كنّا نرجو أن لا يندرج في قائمة تلك “الفتاوى”، ما كتبه الباحث والمستشار المرموق ” د. عبد الحي زلوم ” في مقاله المعنون بعنوان استفزازي لمشاعر “حماة الدّين” و “الغيورين على الشّريعة” بما هي “الأيديولوجيا السّلفيّة الإسلاميّة” و حماتها المأجورين من أصحاب و جماهير الحركات الدّينيّة السّياسيّة الإسلاميّة المعاصرة. و المقال بعنوان: “هل هناك تناقض بين الفكر الإسلامي والفكر القومي ؟ مهاجمة الإسلام تتم تحت غطاء أكذوبة “الإسلام السياسي”. “.
و ما كنّا لنجد مناسبة جدّيّة للتّعقيب النّقديّ على ما كتبه ( د. زلوم ) ، لولا أنّ شاب حديثه بعض المتناقضات و التّناقضات و الملابسات التّاريخيّة الأيديولوجيّة ، إضافة إلى كونه حديثاً في عمق الأيديولوجيا الإسلامويّة ( أي الأيديولوجيا الإسلاميّة السّياسيّة! ) ، و الدّفاع عن أنساق ثقافيّة إسلاميّة منقرضة تمثّلها أنماط من الدّول و الإمبراطوريّات التي ادّعت في يوم من الأيّام أنّها تمثّل “مظلّة إسلاميّة جامعة” للعرب و غير العرب ، و هو ما يُثيره ( د. زلوم ) على نحو مباشر و بحرفيّة هذه العبارات.
3▪︎ أوّل ما يسوقه د. زلوم هو عودته إلى النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر الميلاديّ في المشرق العربيّ و مصر ، و تشكيكه بالظّاهرة السّياسيّة العربيّة التّحرّريّة في تلك الأيّام مع ” الحركة القوميّة العربيّة ” التي قاد أفكارها كلّ من ( إبراهيم اليازجي ) و ( بطرس البستاني ) ، بدعوى ارتباطهم بالمبشّرين البروتستانت الأميركان و غيرهم ممّن أسماهم بالدّخلاء.. مؤكّداً ارتباطهم بالماسونيّة العالميّة و حملتها ” الدّخيلة ” لشقّ الرّابطة الإسلاميّة الجامعة المتمثّلة بالإمبراطوريّة العثمانيّة.
ويظهر ، في سياق ما قاله ( د. زلوم ) هنا ، استخفاف مباشر بالعقل العربيّ القارئ لتاريخ المنطقة ، ودفاع مباشر و ” عصبيّ ” عن ” الدّين الإسلاميّ ” بطبعته ” العثمانيّة ” الاستعماريّة البربريّة ، و مبرّر و مسوّغ لبراءة ” السّلطان العثمانيّ” الذي يشهد تاريخه ، و بخاصّة في القرن التّاسع عشر الميلادي ، زمن بداية تاريخ أفول الإمبراطوريّة العثمانيّة ، بتواطئه مع جميع القوى الغربيّة العالميّة ، ضماناً لاستمرار ملكه و خنقه لشعوب منطقة المشرق العربيّ على التّحديد ، أمام النّزعات القوميّة العربيّة الوليدة آنذاك.
4▪︎ فالسّلطان العثمانيّ ، و فق ( د. زلوم ) ، كان عاجزاً ببراءة و إخلاص عن ” مواجهة المبشّرين البروتستانت ” ، فيقول ( د . زلوم ) :
” تحول بعض المارونيين الى مذهب المبشرين ، أثار البطريرك الماروني والذي طلب من السلطان طرد هؤلاء الدخلاء. الا ان المبشرين كانت تساندهم وزارة الخارجية الامريكية والاسطول الامريكي المتعاظم في البحر الابيض المتوسط “. ذلك أنّه – كما يقول ( د . زلوم ) – ” كان على الحركات التبشيرية ان تبعد الحضارة العربية الاسلامية عن المجتمع لأنها حضارة عابرة للقوميات والتي تسمح لها ان تتفاعل ايجابيا عند وجود مظلة ايديولوجية كهوية جامعة وتتصارع عند غيابها “.
و من الواضح أنّ ( د. زلوم ) لم يُوفق في ربط ” المقدّمة ” مع ” النّتيجة “. فهو يبدأ مدافعاً عن ” السّلطان العثمانيّ ” و حزيناً عليه.. لينتهي إلى أنّ هدف المبشّرين إنّما كان محدّداً بوظيفة “الحركات التبشيريّة أن تُبعد الحضارة العربيّة الإسلاميّة عن المجتمع.. إلخ ” ؛ و كأنّ ” الإمبراطوريّة العثمانيّة ” هي إمبراطوريّة عربيّة إسلاميّة.. و في هذا خلط للدّليل الذي يعتمده في الإثبات المستحيل ، كما أنّه استخفاف بعقول الجميع اليوم و في الماضي كذلك.
5▪︎و لكن ، و من جانب آخر ، فهل تحتاج ” حضارة ” كالحضارة العربيّة الإسلاميّة إلى ” هويّة جامعة ” – كما يقول ( د. زلوم ) – ” مُلحقة بها ” أو ” محمولة عليها “.. لتكون حضارة حقيقيّة ؟ و ماذا يبقى بعدها من هذه ” الحضارة العربيّة الإسلاميّة ” حينذاك؟
بل و ماذا يعني على الحصر بقوله ” مظلّة أيديولوجيّة ” ؟
ألا تعني هنا هذه ” المظلّة ” أكذوبة خارجيّة تُضاف إلى ” الحضارة العربيّة الإسلاميّة ” ، من أجل أن تكون ” حضارة ” مزعومة ؟
أليست هذه “المظلّة” هي إحدى خرافات الإسلام السّياسيّ العثمانيّ ، على التّحديد ، عندما روّجت لمصطلحات مثل ” الجامعة الإسلاميّة ” لاستدامة استعباد العرب و الشّعوب الأخرى التي دخلت ” الإسلام ” ، في عصر كانت فيه الإمبراطوريّة العثمانيّة امبراطوريّة استعماريّة و توسّعيّة لا يعنيها من العالم سوى السّلطان الإقطاعيّ الباذخ و السّيادة و التّألّه و ظلم العرب و الآخرين من غير العرب ، ممّن أخضعتهم ” الإمبراطوريّة ” في حروب متوحّشة كشعوب مثل شعوب البلقان و الصرب و البلغار و اليونان و الألبان.
6▪︎ الإسلام يعترف بالقوميّات ؛ صحيح ! و لكنّ الإسلام لم يَدعُ العرب المسلمين أصحاب أوّل حضارة عربيّة إسلاميّة في تاريخ العرب و تاريخ الإسلام ، إلى الائتمار بغيرهم من الشّعوب. و أقصى ما هنالك فإنّ الإسلام قد حضّ على مساواة الشّعوب الأخرى بالعرب المسلمين مبدعي هذه ” الحضارة ” الأصليين.
و هذا ليسَ تعصّباً ، و إنّما هو كتابة حقيقيّة و واقعيّة للتاريخ ، يتساوى فيها ” العرب ” مع غيرهم من ” الشّعوب ” في ميدان إنجاز الحضارة البشريّة الجامعة ، و كلّهم بحسب قيمة و قسط هذا الإسهام!
و لكن ( د. زلوم ) يقول قالباً المقصود بالآية القرآنيّة رأساً على عقب ، بحيث تأتي النتيجة خدمة لتوريةٍ ساذجة :
” فالاسلام يعترف بالقوميات بل ويعتبرها اساسا للتعارف والتآلف اذ قال تعالى : ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ “.
فقوله ، في ذلك ، هو قولّ يستخدم فيه ” القرآن ” لغرض مديح ” الشّعوبيّة ” في التّاريخ العربيّ الإسلاميّ ، و هي التي كانت ” الإسفين ” الأوّل في وَهَنِ و دمار هذه ” الحضارة ” ، و تمهيداً لغزوها و تحطيمها نهائيّاً في اجتياح السلاجقة و المغول و التّتار ، أصل الأتراك المعروفين ، و القضاء نهائيّاً على الحضارة العربيّة الإسلاميّة في المنطقة في عام 1258م.
7▪︎ لا يعني وجود الشّخص المسلم و غير العربيّ في “حضارة ” عربيّة – إسلاميّة لها من الجذور و الأسباب و المقدّمات و الطّاقة و الدّيناميّات ، ما جعلها سيّدة على العالم القديم في وقت من الأوقات ، أنّ جنسيّة ذلك “الشّخص” المسلم و غير العربيّ ، هي التي تركت أثر التّزاوج الحضاريّ ، في استمرار الحضارة العربيّة الإسلاميّة ، إن لم يكن ذلك يُشير ، تماماً ، إلى العكس ، أي إلى بداية أفول نجم ” الحضارة العربيّة الإسلاميّة “، و هو ما يقترن بتواريخ موحية و صحيحة على التّأكيد.
غير أنّ ( د. زلوم ) يعود ليكرّر مؤكّداً نغمة ” الهويّة الرئيسية الإسلامية الجامعة عن المجتمع..” كسبب وراء ” التّبشير ” ، متجاهلاً للمرّة الثّانية القول بالحضارة العربيّة الإسلاميّة ، مكتفياً بقوله ” بالهويّة الرئيسية الإسلامية الجامعة” ! .. و لو أنّه يسوق صياغته بصورة تشتيتيّة جديدة.
يقول :
” لذلك اعطى تزاوج القوميات أبهى العصور انسانية فأصبح سيبويه الفارسي ابا اللغة العربية واصبح البخاري من اواسط اسيا من فقهاء الامة واسترجع الكردي صلاح الدين القدس من الصليبيين وهزم قطز القوقاسي التتار والذين ما لبثت الحضارة العربية الاسلامية ان غلبتهم فأسلموا وجاهدوا من اجلها ، بل ساد العالم عولمة حميدة قبل عولمة الانغلو ساكسون الخبيثة بقرون. اصبح إبعاد الهوية الرئيسية الاسلامية الجامعة عن المجتمع هو الهدف الاساسي للمبشرين وكانت القومية هي اداتهم للوصول الى مبتغاهم “.
و يختم هذه ” الاختراقة ” التّورويّة ، بأنّ ” القوميّة ” كانت أداة المبشّرين للوصول إلى مبتغاهم ؛ مغفلاً عقل ” القارئ” ، بل و مؤدياً إلى وضع ” القوميّة ” العربيّة في مقابل ( تضادّ ) مع ” الهويّة الإسلاميّة ” التي أسماها ” جامعة ” ؛ و واضح من هذا الدفاع المباشر عن ” السّلطنة العثمانيّة ” في مقابل ” القوميّة العربيّة ” ؛ و هذا حيدانٌ بيّنٌ عن منهج البحث التّاريخيّ الرّصين ، يُفصح في طيّاته عن تعاطف مع ” الهويّة الإسلاميّة الجامعة ” ضدّ هويّة ” القوميّة العربيّة ” ، بتحريض ” المسلمين” على مسيحيين من ” الشّرق ” كاليازجي و البستاني ، لضمان تأثير ” الخطاب ” السّياسيّ و فعاليّته ما بين ” المسلمين ” المناصرين لهويّته الإسلاميّة الجامعة و التي تعني هنا ، و حسب ، ” العثمانيين “.
8▪︎ و من الطبيعيّ أن تنشأ ” الحركة القوميّة ” العربيّة ” الحديثة ” تحت عنوان مناهضة ” السّلطة العثمانيّة ” و الاحتلال العثمانيّ للعرب و الأراضي العربيّة ، و من الطّبيعيّ كذلك أن تتناغم حينئذ مع الأجنبيّ في الوقت الذي لم يكن فيه للعرب أيّ حول أو قوّة ذاتيّة بعد مئات الأعوام من القهر العثمانيّ و سلب الممتلكات و الأرواح و المصائر.
و من الطبيعيّ أن تبدأ تلك الحركة نشاطاتها بين ” الأقلّيّات ” و أن يكون أعضاؤها من هؤلاء ، في وقت استطاع فيه ” العثمانيّون ” المحتلّون بإسم ” الدّين الإسلاميّ ” و ” الهويّة الجامعة ” التي يدافع عنها ( د . زلوم )، أن يغسلوا أدمغة “المسلمين” و غير المسلمين من الطّوائف الأخرى بحرفهم عن مفهوم أو مبدأ المواطنة بتطبيق قانون ” الملّة ” العثمانيّ ، و الذي يُكرّس غربة جميع أبناء الأقليّات و الطّوائف الدّينيّة غير ” الإسلاميّة الرّسميّة ” عن مبدأ المواطنة المدنيّ.
9▪︎ ويقول :
“ الكلية البروتستنتينية السورية ” في بيروت التي اسسها سنة 1866 القس البروتستنتي الاميركي دانيال بليس وغيرت اسمها الى الجامعة الاميركية في بيروت سنة 1920 فكان نظامها الاساسي يدعو لنشر الفكر القومي العربي . ولقد حققت نجاحاً باهراً في هذا المضمار حيث ان اكثر قيادات الجماعات القومية كانت من خريجيها ومن الاقليات.
اسس قلة من خريجيها جمعية قومية سرية كانوا جميعا من الاقليات و الماسون. وحين اكتشف العثمانيون امرهم ، تفرق هؤلاء وهاجر بعضهم الى مصر. وهنا نستحضر ان الجمعيات السرية لنشر القومية العربية كان اغلبها من الماسون . فوثائق وزارة الخارجية البريطانية تضم رسالة من السفير البريطاني لوثر في اسطنبول الى وزارته في لندن يقول فيها ان حركة الاتحاد والترقي والتي قادت الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني كانت حركة يهودية ماسونية لها فروع في كافة ارجاء الدولة العثمانية “.
10▪︎ غير أنّه من المعروف ، لكلّ متتبّع ، في تاريخ ” الفكرة القوميّة ” العالميّة و النّظريّات القوميّة المتعدّدة ، أنّ الفكرة القوميّة بالذّات قد بزغ فجرها كاحتجاج على السّلطة الكنسيّة المسيحيّة و تقتيلها للناس و الشّعوب في ” القرون الوسطى “. لذلك كان من الطّبيعيّ أن تتجدّد الفكرة القوميّة بأدوات شبيهة لتلك التي كانت في “الغرب”.
و إذا كان وراء هذه الفكرة ( القوميّة ) من سمّوا ب( الماسون ) – كما يقول ( د . زلوم ) – فلقد أكّد التّاريخ – سواء أعجبنا ذلك أم لم يعجبنا – أنّ ” اليهوديّة ” نفسها ، في طور من أطوار التّاريخ الأوربيّ ، في ألمانيا و روسيا و فرنسا ، و حتّى في بريطانيا ، إنّما كانت حركة أقلّيّات ثوريّة ضدّ الاضطهاد و الظّلم الإقطاعيّ الكنسيّ و محاكم التّفتيش.. و أنّ ما سُمّي ب ( المنورين ) إنّما قد بدأوا كحركة ” ثوريّة ” في الغرب، ليتحوّلوا في ما بعد في الطّور المتقدّم من الرّأسماليّة إلى حركات محافظة و رجعيّة لخدمة نظام الاستعمار البورجوازي الكولونياليّ العالميّ ، بمعنى أنهم انتهوا إلى عكس ما بدؤوا فيه .
و على القياس نفسه ، ينبغي أن نفهم الحركة القوميّة العربيّة ضدّ الظّلم و الاضطهاد الإقطاعي الدّينيّ العثمانيّ . إن أيّ فهم ليس في سياقه التّاريخيّ يجعل حقائق التّاريخ مشوّهة ، إذ يجري قياسها بمنظور الوقت الرّاهن و هذا تشويه متعمّد للتّاريخ يُخفي أيديولوجيّة رجعيّة ، كما جرى مع ( د . زلوم ) ، من شأنها الدّفاع بمفعول رجعيّ عن الاحتلال العثمانيّ المتوحّش البغيض.
و هذا مع العلم أنّ ثمّة من ” الماسونيين ” المعروفين في تاريخنا الحديث مثل ( عبد القادر الجزائريّ ) قد دافع عن ” الرّابطة الدّينيّة العثمانيّة الجامعة ” في وجه التّحديث في النّصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي ، حفاظاً على سطوة ” العثمانيين ” في مقابل تخييره ” الأوربّيّ ” تنصيبه على دولة عربيّة مستقلّة عن الإمبراطوريّة العثمانيّة.
و الأمر نفسه ، من جانب آخر ، ينطبق ، أيضاً ، على ” حركة الاتّحاد و التّرقّي ” التّركيّة ، التي كانت في وقتها حركة قوميّة ناضلت ضدّ خرافة ” الإمبراطوريّة ” العثمانيّة التي كانت تستثمر الإسلام لتوطيد نظام إقطاعيّ دينيّ واسع و قارّيّ..
وليس الأمر ولن يكون دفاعا عن الماسونية ولا تبييضا لتاريخها ، الذي لا يمكن تبييضه ، بل الأمر هو عرض لذلك التاريخ كما هو ..
والأمر الأهم ، ليس هو كيفية بدء الحركة القومية العربية وسبب بدايتها.. بل المهم هو سيرورتها و صيرورتها ، وجدواها الراهنة للأمة العربية .
11▪︎ و لا يأتي ( د . زلوم ) بجديد عندما يعود ليكرّر أنّ أسس “النّهضة الاجتماعيّة” الحديثة ، في الصّحافة و الإعلام و الفن و الموسيقا و الغناء.. إلخ ، إنّما كان وراءها ” ماسونيّون ” و ” يهود ” ، في وقت جعلت فيه ” الإميراطوريّة العثمانيّة ” البائدة ، منطقة المشرق العربيّ و مصر ، كلّها ” إسطبلات ” لانكشارييها تحت شعار ” الجامعة الإسلاميّة ” الذي اشتغل عليه العثمانيّون لتسويق استعمارهم بين السّذّج من العرب و المسلمين ، و كانوا يومها كثر.. وحتى اليوم .
هذا واقع طبيعيّ و هو تاريخ معروف لدى كلّ مهتمّ و مثقّف و وطنيّ و قوميّ عربيّ. فما هو الذي يُريد قوله ( د . زلوم ) من استعادة أسماء ” الأجداد ” و ” أجداد الأجداد ” في عوائل كان لها في العصر الحاضر خيارات سياسيّة غير وطنيّة ، كعائلة ” الجميّل ” و غيرها ؟
و كم من الخونة بين العرب و المسلمين قد ضمّت عوائلهم في التّاريخ أحراراً و أشرافاً؟
و هل يجري الحساب هنا على ” الهويّة ” و ” الكنية ” و ” العائلة ” ، أم نعود إلى البيولوجيا السّياسيّة لنصنّف عائلات بقضّها و قضيضها على أنّها عملاء ، بينما نصنّف أخرى بالجملة على أنّهم ثوار ؟!
و هل ( د . زلوم ) نفسه ، يُريد إلغاء التّاريخ الذي بطبيعته في سيرورة نضوج و تفتّح و ازدهار ، لا يمكن وقفها ، في تطوّره و جلاء حقيقة الأوطان و الشّعوب ، و ذلك مهما تخلّلها من مصادفات ، أو غير ذلك ، كان وراءها أهداف سامية و نبيلة ، في سبيل رفع الظّلم الدّينيّ و القوميّ عن شعوب واسعة في منطقتنا و من بينها العرب و المسلمون أصحاب الحضارة الأمّ؟
ألم يمثّل ” الاحتلال العثمانيّ” لمنطقتنا العربيّة أكبر حيف تاريخيّ عانته شعوبنا من العرب و المسلمين؟
و هل يجرؤ أحدٌ عاقل بقول خلاف ذلك إلّا في “توريات” غير بريئة الأغراض و الأهداف كما تبدو في الدفاع عن ” الهويّة الجامعة “؟
و سواء أراد ( د . زلوم ) بالهويّة الجامعة ( تركيا ) أو ( العثمانيين ) أو حتّى ( إيران ) المعاصرة ، فقد شكّل حديثه ، هنا ، نقضاً مباشراً لروح النّضال العربيّ القوميّ ، اليوم ، من أجل التّحرّر و الاستقلال و الحرّيّة و التّنمية ، لا يمكن التّعويض عنه بأيّ “خطاب” سياسيّ بديل.
12▪︎ و بجرّة قلم ” أثنوغرافيّة” يصل ( د . زلوم ) إلى مغالطات تاريخيّة هدفها الظّاهر هو الدّفاع عن ” الإسلام “، و لكنها تؤديّ إلى تتفيه اللغة العربيّة ، لغة القرآن ، و لغة القوميّة العربيّة.
يقول :
” كان يعيش في شبه جزيرة العرب في الجاهلية شعبان : احدهما كان معظمه من القبائل الرحل ، وكانت تتنقل ما بين الحجاز ونجد حتى نهر الفرات لرعاية ابلها باختلاف المواسم . وكان الشعب الاخر يعيش حياة مستقرة في بلاد اليمن وحضرموت .وكانت لفظة العرب تطلق في معناها السلالي ( الاثنوغرافي ) الضيق على الشعب الاول وحده . واصبحت لفظة العرب وعبارة العالم العربي تستعملان في مجال اوسع كثيرا نتيجة الانتشار الاسلامي .اذن فالعالم العربي جاء نتيجة الفتح الاسلامي فهو توأمه ، اما العرب بدون اسلام فهم اعراب “.
13▪︎ و هنا مغالطة نأمل أن لا تكون متعمّدة ، يلجأ إليها ( د . زلوم ) سنعمل على توضيحها من خلال نقدها و النّقض.
حسب اجتهاد ( د . زلوم ) ، الأثنوغرافيّ ، ينتج لدينا أنّ شعوب اليمن و حضرموت لم يكونوا عرباً قبل الإسلام. لماذا ؟ لأنّ لفظة ” العرب” كانت تُطلق على ” القبائل الرّحّل ” التي تعيش نمط حياة الرّعي و التّنقّل ما بين ” الحجاز و نجد حتى نهر الفرات “..!!؟ و الغريب أنّ هؤلاء هم ” العرب ” فقط – حسب ( د . زلوم ) – دون غيرهم من سكان اليمن و حضرموت.. ليقفز – بالاستنتاج – إلى تقرير أنّ سكّان اليمن و حضرموت هم ” الأعراب ” و إلى أنّ القبائل الرّعويّة العربيّة التي كانت تتنقّل بين الحجاز و نجد و حتى نهر الفرات هم وحدهم العرب.
و باعتبار ذلك ، و بأفظع المغالطات التّاريخيّة ، فإنّ ” العالم العربيّ” – حسب ( د . زلوم ) – قد ” جاء نتيجة الفتح الإسلاميّ فهو توأمه ، أما العرب بدون إسلام فهم أعراب”. و أكثر من هذا ، فإنّ تقريرات ( د . زلوم) البعيدة عن الصّحّة التّاريخيّة و عن جميع أشكال التّوثيق ، تصل بنا إلى أنّ ” قريشاً ” نفسها لم تكن عربيّة ، و أنّ ” محمّداً ” لم يكن عربيّاً ، باعتباره قرشيّاً ، كون ” قريش ” لم تكن عند ” البعثة النّبويّة ” تشتغل بالرّعي و التّنقّل و التّرحال ، و إنّما كانت قارّة و مستقرّة و متمدينة و متحضّرة و تعمل بالتّجارة و اللغة و الأدب و الفنّ أيضاً ، على غرار ” العرب ” المتمدينين في اليمن و حضرموت.
و هنا مع ( د . زلوم) نصبح أمام استنتاج أو فرضيّة و ” تقليعة ” ثقافيّة – تاريخيّة لم يقل بها أحدٌ غيره قبل ( د . زلوم) ، مع أنّ ( د . زلوم ) ليس مؤرّخاً ، و تدحض هذه الأقوال جميع براهين التّاريخ و المؤرّخين.
14▪︎ و نستطيع التّوثيق طويلاً بما يخالف غير الموثّق عند ( د . زلوم ) ، فنقول :
أجمع المؤرّخون و الّلغويّون ، من (سيبويه) إلى غيره ، على أنّ ” الأعراب ” – بالأصل – هم ” سكّان البادية خاصّة ” و أنّ النّسبة إلى ذلك هي ” الأعرابيّ”. و أنّ ” الأعرابيّ” هو ” البدويّ ” و جمعه ” أعراب “. و أنّ ” الأعرابيّ ” هو ” البدويّ “. و أنّ ” الأعرابيّ ” هو ” لزيم البادية “. و قال ( إبن عاشور ) في ” التّحرير و التّنوير “: ” الأعراب : هم سكّان البوادي”. و قال ( الشوكانيّ ) في ” فتح القدير ” : ” الأعراب : هم من سكن البوادي ، بخلاف العرب “. و في ” المعجم الوسيط ” ، أنّ ” الأعراب من العرب ” هم : “سكّان البادية خاصّة ، يتتبّعون مساقط الغيث و منابت الكلأ ؛ الواحد : أعرابيٌّ “. و في ” مختار الصّحاح ” ، أنّ ” العَرَبُ جيل من الناس والنسبة إليهم عَرَبِيٌّ وهم أهل الأمصار ؛ و الأَعْرَابُ منهم سكان البادية خاصة و النسبة إليهم أعْرَابيُّ ؛ و ليس الأَعْرَابُ جمعاً لعرب بل هو اسم جنس و العَرَبُ العاربة الخُلَّص منهم أكد من لفظه كليل لائل وربما قالوا العَرَبُ العَرْباءُ و تَعَرَّبَ تشبه بالعرب و العَرَبُ المُسْتَعْرِبَةُ بكسر الراء الذين ليسوا بخلص وكذا المُتَعَرِّبَةُ بكسر الراء وتشديدها و العَرَبِيَّةُ هي هذه اللغة…”. و في “القاموس المحيط”: “عُرْبُ وعُرَبُ: خِلاف العَجَمِ ، مُؤَنَّثٌ ، وهُمْ سُكَّانُ الأمصار . و أَعْرابُ منهم : سُكَّانُ الباديةِ”…؛ إلخ.
وطبعا هذا من ناحية الأصل اللغوي والتاريخي . وأما تمييزنا المعهود بين ( العربي ) و ( الأعرابي ) فهو يتعلق بالموقف السياسي والوطني والأخلاقي ، عندما تحدثنا في السنوات الماضية عن ( الفرق بين العرب والأعراب ) وقلنا :
《 ( الفَرْقُ بين العرب والأعراب ، حالياً ) هو : 》
1 – هو الفرق بين سوريّة الأسد ورجال الله .. وبين الملتحقين بالعم سام الأمريكي والمتهافتين للتطبيع مع الإسرائيلي ..
4 – هو الفرق بين عروبة بلاد الشام والرافدين من جهة ..وأعرابية الربع الخالي من جهة ثانية …
5 – هو الفرق ببن مَنْ يدافع عن الأمة العربية ويُضَحّي مِنْ أجلها .. وبين مَنْ يفرِّط بها ، بل ويقف مع أعدائها ضد أبنائها .
6 – هو الفرق بين الرسالة الإسلامية التي نزلت على رسولٍ عربيٍ وبقرآنٍ عربيٍ ..
وبين ما أوضحه الله تعالى في قرآنه الكريم عندما جاء فيه بأن ( الأعراب أشَدُّ كفراً ونفاقاً )
وجاء فيه ( قالت الأعرابُ آمَنَّا قُلْ لم تؤمنوا ولكن قولوا أسْلَمْنا وَلَمَّا يدخل الإيمانُ في قلوبكم ) …
7 – أخيراً يبقى الميزانُ الذي لا يخطئ ، وهو :
يتجلى معيار العروبة في هذا الزمن ، بالوقوف ضد الصهيونية و” اسرائيل ” …
ومعيار الأعرابية هو الوقوف مع ” اسرائيل ” وحلفائها . 》
15▪︎ يتبيّن لنا من خلال ما تقدّم و من غيره أنّه لا أصل عند ( د . زلوم ) اعتمد عليه في التمييز التاريخي ل ” العرب ” عن ” الأعراب “، و أنّ سكّان “الحضَر” و “المدن” التّاريخيّة القديمة ، و منهم سكّان “اليمن” و “حضرموت” و “قريش” أيضاً ، هم “العرب”، و أنّ “الأعراب” هم سكّان “البدو” و القبائل الرّحل ، على النّقيض ممّا قد تهيّأ للدكتور ( زلوم ). و يتبيّن أيضاً ، و هو الثّابت في جميع تواريخ العرب و العجم أنّ “العرب” قومٌ وسع الجغرافيا و التّاريخ ، و أنّهم قد سبقوا ” الإسلام ” بآلاف من السّنين ، سواء في نجد و الحجاز ، أو في اليمن و حضرموت ، و في سائر منطقة ” الجزيرة العربيّة ” بالمفهوم الجغرافيّ الطّبيعيّ الأصليّ .
و أنّ قوله إنّ العرب و العالم العربيّ قد رافق انتشار الإسلام ، لا قيمة و لا معنى له في هذا المقام ، إذ أن انتشار العرب كان ثابتاً في جميع أرجاء “الجزيرة العربيّة” ، و التي عرفنا في مناسبات لنا سابقة و موثّقة أنّها كان المقصود بها جغرافيّاً من سواحل المحيط الهندي العربيّة جنوبيّ الحجاز و اليمن ، جنوباً ، و حتّى حدود الأناضول ، شمالاً، إلى جبال زاغروس شرقاً ، و حتّى البحر الأحمر و سيناء غرباً ، بما في ذلك جميع ماهو معروف بإسم “بلاد الشّام” .. و كنّا قد أثبتنا ذلك في بحث سابق مستقلّ ، و بالتّوثيق التّامّ..
و إنّما كان قد تعزّز انتشاراً “حضاريّاً ” بقوّة ” المشروع الحضاريّ الجديد ” للعرب المسلمين ، و الذي هو مشروع العهد النّبويّ الجديد . و هذا لا يؤيّد ما ذهب إليه ( د . زلوم ) ، و إنّما يدحض ، على العكس ، جميع مزاعمه.
16▪︎ و نضيف ، بأنّ ” القرآن الكريم ” قد استخدم ، في أكثر من موضع ، مفردة ” الأعراب” للدّلالة على ” البدو ” الرّحّل ، على عكس حَضَر ” الجزيرة العربيّة ” و أقوامها المتمدينة و ” الحضريّة ” بما فيها ” قريش” العربيّة ، و التي لم تكن ” بدويّة ” تنتقل وراء الكلأ و الماء !
و نضيف أخيراً أنّ ” القرآن الكريم ” قد حمّل لفظة ” الأعراب ” دلالة “أيديولوجيّة” – بلغتنا اليوم – تفيد تخلّفهم عن الدّعوة و الالتزام بفروضها و الإيمان بدين الإسلام و الولاء التّام له ؛ بل و حتّى أنّ ” القرآن ” قد ضمّ إلى “الأعراب” ، بالبعد الأيديولوجيّ ، جزءاً من ” العرب ” أنفسهم، ممّن هم حول النبي الأعظم محمّد بن عبدالله نفسه ، عندما قال الله تعالى في ” سورة التّوبة ” :
” وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ “( التوبة – 101 ) ؛ إذْ ساوى ” القرآن ” في ” النّفاق ” بين بعض مّن كانوا ” حول النّبيّ ” ( و هم من القريبين و المقرّبين ) و بين من هم من ” أهل المدينة ” ، و نعتهم نعتاً أيديولوجيّاً مجازيّاً بالأعراب.
17▪︎ إنّ إطلاق الكلام على عواهنه أمر يشوبه المقاصد الخاصّة غير المعلنة في الكلمات ، عندما يطرح فيه صاحبه نفسه كموسوعيّ و عالم بحقائق الأمور و حصيف ! إذْ يحمل مثل هذا الحديث استخفافاً بالعقول و الثّقافة و المعرفة.. و كلّ ذلك دفاعاً عن فكرة في الأساس هي فكرة ضعيفة و واهية تفترض ضرورة قيادة العرب المسلمين من قبل ” هويّة ” أيديولوجيّة جامعة..!! ؟
و أمّا أنّ ” العرب بدون اسلام فهم اعراب ” ، كما يقول ( د . زلوم ) فهذا رأي شخصيّ له ، كما أوضحنا عدم مرجعيّته التّاريخيّة ، يُريد منه حماسة تبشيريّة جديدة خاصّة سندركها بعد قليل.
18▪︎ إنّ أمر كون أنّ العرب قد استمدّوا طاقة من ” الإسلام ” – و هنا يوحي ( د . زلوم ) وكأنّه لم يكن للعرب وجود أو قوّة قبل الإسلام ؛ إذْ ما من قوّة تأتي على ضعيف أو على ميّت أو على من ليس له وجود ! . و أنّه، كما يقول ، ” قد عرف المبشرون والمستعمرون مصدر هذه الطاقة فاصبح فصل الطاقة الاسلامية عن العربية هو الهدف لاعداء الامة ” ، مدافعاً ضدّ ما أسماه ” أكذوبة الاسلام السياسيّ ” ، قائلاً : ” لعل اهم نقطتين ركز المبشرون والاستعماريون عليهما هي ان علينا أن نختار بين الحضارة العربية الاسلامية او القومية العربية مع انهما لا يتعارضان ، و اكذوبة الاسلام السياسي جاءت لمحاربة العقيدة والايديولوجية الإسلامية “..
و لكنّ ( د . زلوم ) هنا لا يقول الحقيقية بل يؤلّف ما يتراءى له أنّه يخدم تبشيريّته الفاقعة بالجامعة الإسلاميّة الجديدة ، مع أنّ ” المبشّرين ” المسيحيين الذي ذكرهم و غيرهم من الأقلّيّات.. و اليهود و الماسونيين ، ضمناً ، لم يتناولوا شأن ” الدّين الإسلاميّ” عندما تناولوا التّبشير بالقوميّة العربيّة ، جرياً على تقليد ” غربيّ ” حداثيّ لم يجعل ” الدّين” عنصراً من عناصر ” القوميّة ” الحداثيّة في ” عصر القوميّات ” المعروف ، إذ أنّ الواقع الحداثيّ الغربيّ الذي جاء بعصر القوميّات في القرن التّاسع عشر ، إنّما كانت منطلقاته مختلفة جدّاً عن تصوّرات ( د . زلوم ) لذلك الواقع آنذاك ..
حيث انطلقت فكرة القوميّة هناك من منطلقات وطنيّة و عرقيّة و أثنوغرافيّة و طبقيّة و سياسيّة و تحرّريّة من ربقة الإقطاع و الدّين المؤسّسيّ ، و عليه – كمثال حيّ – كانت ، بالضّبط ، دعوات المبشّرين العرب في الحركة الفكريّة القوميّة الحداثيّة العربيّة الأولى ، فنادوا بوضع حدّ لمؤسّسة الدّين ” العثمانيّة ” الإقطاعيّة الظّالمة و دعاواها الكاذبة بنصرة دين الإسلام ، في ممارسات قاتلة لجماهير الأقليّات القوميّة ( و منها العربيّة ) و العرقيّة و الطّائفيّة ، المعروفة حتّى للأمّيين من سكّان هذه المنطقة المقهورة في التّاريخ ..
و هو أوّل عهد من الأكاذيب الذي أسّس لما يُسمّى اليوم ” الإسلام السّياسيّ ” و الأيديولوجيّ المنافق ، و التي ما تزال ترعاه ( تركيا ) نفسها على كلّ حال ، و هو ( الإسلام السّياسيّ ) ما كان ، مع معاضديه من رجعيّات العرب المسلمين ، وراء المجازر العربيّة التي دخلتها الشّعوب العربيّة مؤخّراً منذ عقد من الزّمن ، و في سورية على نحو خاصّ.
و لا يخضع الأمر لآراء شخصيّة كما يُقرّر ( د . زلوم ) بمزاج أو رغبة أو بخلفيّة أيديولوجيّة كنّا قد تتبّعناها أعلاه.
19▪︎ يُهمل ( د . زلوم) حقائق لا يُمكن تجاوزها ، عندما يعمل على محاولة مسح عبارة ” الإسلام السّياسيّ ” من الأذهان ، في صياغة نهائيّة ” إرهابيّة ” و تحقيريّة و احتقاريّة لكلّ من يقول بها ؛ و ذلك بتبشيريّة فظّة لا تقلّ مباشريّة عن التّبشيريّات العثمانيّة و الاستعماريّة الأخرى بخصوص ” جامعة الدّين “.
و يتجاهل ( د . زلوم ) عدم إمكانيّة الحديث ، اليومَ، و منذ ” الهجرة المحمّديّة ” ، و ربّما ممّا قبلها ، أيضاً.. و بخاصّة بعد انتقال محمّد النّبيّ الأعظم إلى رفيقه الأعلى.. و منذ ذلك الحين الشّهير في التّاريخ، عن ” إسلام” واحد.. إذ لطالما بدأ الإسلام تحوّلاً دراماتيكيّاً إلى ” السّياسة ” ، و معه انتقلت النّبوّة و الإمامة إلى سلطة دولةٍ زمنيّة ، كانت كفيلة بإحداث الشّرخ التّاريخيّ الخطير الذي أسّس عليه تاريخاً من الغصب و العنف و القتل و الجريمة السّياسيّة في الإسلام ، و قد عزّزه في ما بعد ، و في جواره ، القراءات التّالية و المختلفة للقرآن ، حتّى يُمكننا الوقوف فيها على خمس أو ستّ قراءات للإسلام و للقرآن معاً ، و هو ما فتح، تالياً ، باب التّمذهب و القراءات الغزيرة و العقائد المتناقضة ، ناهيك عن التّفسير و التّأويل الذي لا يُمكن عدّه بعدد معروف.. دخلت فيها الأبعاد العرقيّة و الشّعوبيّة و الثّقافيّة الأخرى ، و بالتالي الأيديولوجيّة..
و بعد كلّ هذا ، ألا يلاحظ ( د . زلوم ) أنّه حينما يقول إن عبارة ” الإسلام السّياسيّ ” هي المسؤولة عن شقّ العروبة عن الإسلام ، اليومَ ، إنّما يختار المسير بلا دليل في عتمة ثقافيّة وحيداً لا يؤنسُه في هذا الادّعاء نصير؟
و هل لا يُسمّى كلّ ما ثبّتناه من استقطابات و انحيازات و فُرقة و تقاتل و اغتيالات و تصفيات جسديّة للأئمة و الخلفاء.. و حروب مسلّحة و دمويّات جماعيّة و صراعات دامية و مؤسفة ، و مخجلة..بإسم الإسلام السّياسيّ.
إذن ، علامَ كان كلّ ذلك التّاريخ الدمويّ في الإسلام ؟ إنّ أقلّ ما يُقال في أسباب كلّ ذلك ، إنّما هي السّياسة التي كانت وراءه ، و حقّاً ، بالتالي ، أن يستمرّ ذلك ” الإسلام السّياسيّ ” ، الذي لا إسمَ آخر له ، حتّى يومنا هذا محمّلاً في مسيرته بكلّ أنواع و ألوان الجهل و الخرافة و الحقد و الّلؤم الذي وصلنا اليوم؟
20▪︎ و إذا كان ( د . زلوم ) يُمارسُ التّقيّة في نسبة تلك ” الهويّة الأيديولوجيّة الإسلاميّة الجامعة ” و “.المظلّة الواسعة ” ، التي يُبشّر بها.. و يدعو إليها ، في نسبتِها إلى مرجعيّة قوميّة بائدة أو معاصرة – مع أنّه لخلط الدّلالة ذكر شيئاً عن “أمة عربيّة إسلاميّة” معاصرة يُراد لها الانقسام عبر مؤامرة… !! – مع أنّها لن تكون إلّا على طراز ” الجامعة الإسلاميّة العثمانيّة ” ، أو على طراز ” الإبن لادنيّ ” و ” الزّرقاوي ” و ” البغدادي ” و ” الجولاني ” و ” صهيب “( المعاصر! ) و ” زهران علّوش ” و ” أبو البراء “؟!
هذا مع أن ( د . زلوم ) على يقين أنّها لن تكون ” عربيّة إسلاميّة ” ، فعلاً ، لأسباب لا يجهلها عاقل.. فهل تكون ، مثلاً ، ” تركيّة ” أو ” أميركيّة ” ، أو ” باكستانية ” أو ” أندونيسية ” أو حتى ” إيرانيّة”..، و طبعاً مع اختلاف الموجبات؟.