عودة الجدل حول تغيير النظام السياسي في تونس
تصاعدت خلال الفترة الأخيرة دعوات كثيرة لتغيير النظام السياسي وتعديل الدستورفي تونس ، مدفوعة بتفاقم الأزمة السياسية التي تعيشها مؤسسات الدولة، لا سيما تفاقم الخلافات السياسية صلب البرلمان التي امتدت إلى الإئتلاف الثلاثي الحاكم، والتي تزامنت مع تداعيات الأزمة الليبية على واقع البلاد،لتتقاطع مع احتداد النزاع بشأن الصلاحيات الدستورية، بين رئيس الدولة قيس سعيّد، ورئيس البرلمان راشد الغنوشي.
نظام سياسي “شاذ وهجين”
النظام السياسي الذي تأسس في تونس بعد سقوط النظام السابق في عام 2011، وكرّسه دستور 2014، شاذٌ وهجينٌ، حيث تتوزع فيه السلطة التنفيذية بين طرفين، رئيسي الجمهورية والحكومة، مع صلاحيات أوسع للثاني، وهو المتسبب الرئيس في الأزمة التي تعيشها تونس في الوقت الحاضر، فهو ليس نظامًا برلمانيًا قائمًا على الفصل بين السلطات، كما في الأنظمة البرلمانية التي تقوم على الفصل المرن بين السلطتين، التنفيذية والتشريعية، ولا نظامًا رئاسيًا، مثل الأنظمة الرئاسية التي تعرّف بأنها تقوم على الفصل الصارم بين السلطتين.
تعود الدعوة من أجل تغيير الدستور باتجاه إرساء نظام رئاسي معدل، يعطي صلاحيات إضافية لرئيس الجمهورية إلى سنة 2016، وتفاقمت بعد تفجر الأزمة السياسية في البلاد خلال سنتي 2018 و2019، بين رئيس الدولة الراحل الباجي قائد السبسي ورئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد، وصلت إلى حد القطيعة التامة بينهما،إذْ طالب السبسي بإعادة النظر في طبيعة النظام السّياسي الذي يسود الإجماع حوله بأنّه مُعَطَّلٌ، وغير قابلٍ للاستمرار، ما جعل البلاد، أحيانًا، غير قابلة للحكم، حيث تميزت بتراجع دور السلطة التنفيذية وعجزها عن القيام بالإصلاحات الكبرى المنتظرة، ومرورًا بما في الدستور من نقائص، كشفتها الممارسة، ووصولا إلى تشكيل المحكمة الدستورية، بوصفها من أركان تماسك الدولة ووجودها.
الدعوة -رغم أنّها ليست الأولى – فإنّهاصُنّفت هذه المرّة ب”الجادّة” بحكم أنها صدرت عن أهم سلطة في البلاد وفي ظل المبررات الواقعية التي قدمها رئيس الجمهورية السابق لعجز النظام السياسي المعمول به حاليًا عن تطوير وضع البلاد نحو الأفضل. هذا الوضع دفع بالمختصين السياسيين إلى المطالبة بتغيير النظام إمَّا نحو نظام برلماني كلاسيكي صرف يكون فيه منصب رئيس الجمهورية صوريًا وبلا صلاحياتٍ مع منحِ كل الصلاحيات لرئيس الحكومة وإعطاء البرلمان دورًا واسعًا في مراقبة الحكومة، أو نحو نظامٍ رئاسيٍّ كامِلٍ، مع ضمانات دستورية لعدم انحيازه نحو “نظام رئاسوي” كما كان عليه الحال في نظامي بورقيبة وبن علي.
جائحة كورونا وتفجر الصراع بين الرئيس و”الإتلاف البرلماني الثلاثي”
من بين تداعيات الحرب على جائحة كورونا وجهود احتواء مضاعفاتها الاقتصادية والاجتماعية أن تفجرتْ الصراعات السياسية بين مسؤولين وسياسيين وإعلاميين من داخل الكتل السياسية والبرلمانية التي يفترض أنَّهَا مُقًرَبَّةٌ إلى رئيسي الدولة قيس سعيد والحكومة الياس الفخفاخ من جهة،ورئيس البرلمان راشد الغنوشي من جهة ثانية، لِتَحْقُنَ المناخ بمزيدٍ من التوتر والمشاحنات التي قد تُؤَشِرُ على أزمةٍ سياسيةٍ في الأفق سَتَنْعًكِسُ سلبًا على الدولة التي تُجَاهِدُ للابقاءعلى توازنها..
فقد خاطب الرئيس سعيّدْ أصحابَ المالِ رجالاً ونساءً ومؤسساتٍ، والمتهربينَ من الضرائبِ، وأصحابِ الثرواتِ الْكُبْرَى مَجْهُولَةِ المصادرِ، كل هؤلاء وغيرهم لم يُبْدُوا أيَّ تعاطفٍ مع التونسيين، بل تَقَاعَسُوا بحسب عبارة الرئيس في إِسْنَادِ البلادِ وأهْلِها… هناك أموالٌ كثيرةٌ، وهناك أيضًا توزيعٌ غير عادلٍ لهذا المال ،كما جاء في كلمة الرئيس الذي أشار الى سنة 2012 حيث صُودِرَتْ أمْوَالٌ طائلةٌ سأَلَ الرئيس عنْ مَصِيرِهَا بقوله: هذهِ الأَمْوَالُ أيْن ذهبتْ؟ وهو هنا يتحدث عن فترة حكم الترويكا بقيادة حركة النهضة الإسلامية..
خلال شهر رمضان اعتاد الرئيس قيس سعيّد القيام بزيارات ميدانية لمختلف الوحدات العسكرية والأمنية ومشاركة مائدة الافطار مع الأمنيين والعسكريين، حيث قام بزيارة للإدارة العامة لوحدات التدخل بثكنة بوشوشة، كما ادى زيارة الى المستشفى الميداني بقبلي والذي تولّت كلّ من الإدارة العامة للصحة العسكرية والإدارة العامة للهندسة العسكرية والفيلق الصحراوي بقبلي عملية تركيبه.
وفي خطابه الأخير يوم 16مايو الماضي، قال الرئيس سعيَّد أمام ثلة من الضباط والعسكريين بالأكاديمية العسكرية بفندق جديد في ولاية نابل ، و الذي كان من أكثر خطابات الرئيس حِدَّة ومواجهةٍ مباشرةٍ مع خصومه، ولا سيما في علاقة ببعض النواب الذين حاولوا النيل منه بعد خطابه قبل ذلك في قبلي بمناسبة زيارته للمستشفى الميداني وحديثه عن وكالة النائب وإمكانية سحب هذه الوكالة من طرف الناخبين إذا فشل النائب في أداءِ مهامهِ، وهو ما أثار حوله عاصفة من النقد وصلت حدَّ توعده بسحب الثقة منه!قال:”هم يَعْلَمُونَ أنَّنا وإيَّاكُمْ حريصونَ على الشرعية بل أكثر حرصًا على هذه الشرعية من الحالمين،الواهمين،الكاذبين،المفترين..”
وقد اختار سعيد في نهاية كلمته التخلي عن خطابه الغامض وتوخي الوضوح هذه المرة ليشير إلى أنَّه ”حين تم الحديث خلال الفترة القليلة الماضية عن إمكانية سحب الوكالة من النائب الذي لم يسع إلى تحقيق مطالب ناخبيه، تحدث البعض ربما عن جهلٍ وربما عن سوءِ نيةٍ، عن انقلابٍ وعن اعتصام وعن رحلةٍ أو عن رحيلٍ”.وطالب سعيد خصومه ومنتقديه بالعودة إلى الدستوروتحديدًا إلى الفصل 109 من المجلة الانتخابية القديمة الذي كان ينص على أنَّ كل عضو من أعضاء مجلس الأمة آنذاك وقع رفته لأي سببٍ من الأسباب من طرف الحزب أو المنظمة التي زكت ترشحه، ينتهي انتسابه إلى مجلس الأمة.. وقال ”إنَّ الشرعية لن تكون تعبيرًا صادقًا كاملًا عن المشروعية إلا حين يكون التشريع تعبيرًا صادقًا بدوره عن إرادة صاحب السيادة، عن إرادة أغلبية الشعب من الذين تنادوا في ديسمبر 2010 وجانفي 2011 آملين في العدل وفي الحرية والكرامة ”.
وفيما اعتبر رئيس ائتلاف الكرامة سيف الدين مخلوف كلمة الرئيس سعيد في قبلي أنَها دعوة للفوضى و الإنقلاب على الشرعية، هاجم القيادي في حركة النهضة سيد الفرجاني الرئيس، حيث اتهم الرئيس صراحة بالتحريض المتواصل على البرلمان ،وبأنَّ أنصار الرئيس يدعون إلى الفوضى وسفك الدماء ! وبأنَّه يُرِيدُ إِحْلَالَ نظامٍ شعبويٍّ وتَرْكِيزِ تَنْظِيمٍ مُوَازٍ للدولة!. وقد ذهبا إلى حدَّ اعتماد لغة التحذير والتهديد لرئيس الدولة.
وتقفُ عدةُ أسبابٍ خلف هذا التوتر في العلاقات بين الرئيس وهذا الثلاثي البرلماني(حزب النهضة، وإئتلاف الكرامة، وحزب قلب تونس)،أولها في علاقة بالحكومة التي يرى البعض أنَّها حكومة الرئيس التي تشكلت بعد فشل الحزب الأغلبي حركة النهضة في تشكيل الحكومة، فاختيار سعيد لإلياس الفخفاخ ليكون رئيس الحكومة وتوسيع صلاحياته في تسمية وزراء حقائب السيادة لتشمل حقيبتي الداخلية والعدل إلى جانب الداخلية والدفاع، لم تَسْتَسِغَهُ حركة النهضة الشريكة في الحكم بِعَدَدٍ أكبرٍ من الوزراء ولكنَّ بنفوذٍ متساوٍ مع بقية الأحزاب.
كما أنَّ مطالبة هذا الثلاثي اليوم وتمسكه بحكومةِ إنقاذٍأو وحدةٍ وطنيةٍ تضم جميع الأطراف السياسية،يَرْفُضُهُ رئيس الحكومة الذي أشْهَرَ منذ البداية الفيتُو أمام ” قلب تونس “في علاقة بالمشاركة في الحكم، كما لم يَحْرِصْ على انضمامِ ”ائتلافِ الكرامةِ” إلى حكومته ،وكذلك فَإِنَّ رئيسَ الدولةِ لم يَقُمْ بِأيِّ مبادرةٍ في هذا الاتجاه لتحقيق هذه الوحدة المزعومة..
واليوم مع تقارب وجهات النظر بينهما بات الثلاثي البرلماني النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة يشكل حالة شاذة في المشهد السياسي حيث تجتمع أحزاب الحكم والمعارضة على توجهات ومواقف، لا تعكس فلسفة الحكم ولا المعارضة، وهذه الأحزاب اللاهثة خلف الشرعية والقوة البرلمانية والنفوذ السياسي بطرق مختلفة، تريد القفز عن شعبية وشرعية رئيس الدولة، وتعيد زمام المبادرة إلى البرلمان، خاصة أَنَّ رئيسَ الجمهورية ورغم بعض تصريحاته المتناقضة مع الدستور الحالي،فَإِنَّهُ نَجَحَ في إيجَادِ مَوْقعٍ له في الخارطة السياسية الحالية رغم صلاحياته المحدودة بالدستور.
الغنوشي في قلب العاصفة
تتعرض تونس للتداعيات الخطيرة الناجمة عن الحرب الدائرة في ليبيا، بسبب غياب الحل السياسي الوطني والديمقراطي للأزمة الليبية، واستمرار الأفرقاء الليبيين في الاقتتال والاحتراب فيما بينهم،لا سيما أنَّ الأزمة الليبية استنزفتْ كل الجهود الديبلوماسية الأممية بعد مرور نحو ثمانية مبعوثين دوليين وممثلين للجامعة العربية دون أن يؤدي ذلك إلى أي تقدم في الحوار الليبي الليبي المحكوم بعقد كثيرة تبدا بالفرقاء و تنتهي بالأوصياء الإقليميين الذين يرفضون رفع أيديهم عن ليبيا.
وكان لا فتًا أنَّ الموقفَ الرسمي التونسي مائع من التدخل العسكري التركي ،والتطورات الأخيرة ، التي شهدتها الساحة الليبية، فقد أصدرت رئاسة الجمهورية التونسية بيانًاغامضًا بشان الطائرة التركية التي حلت بمطار جرجيس ليلا محملة بمساعدات الى ليبيا دون تحديد للطرف المعني بالمساعدات في غياب الوسيط المطلوب ممثلا في هيئة الصليب الاحمر في مثل هذه الاحداث، بينما يؤيد الإسلام السياسي التونسي متمثلا بحزب النهضة ، ورئيس البرلمان التونسي الشيخ راشد الغنوشي،حكومة الوفاق بزعامة فائز السراج،والمحور التركي القطري.
فقد هنأ رئيس البرلمان التونسي راشد الغنوشي، يوم الثلاثاء19مايو/آيار2020، رئيس حكومة الوفاق الليبية فائز السراج، بسيطرة القوات التابعة له على قاعدة “الوطية” الجوية.وقال بيان صحفي صادر عن مكتب رئيس حكومة الوفاق إنَّ الغنوشي اتصل هاتفيا بالسراج وقدم “تهانيه باستعادة قواته لقاعدة الوطية الاستراتيجية، و عبر له عن ارتياحه لعودة هذه القاعدة القريبة من حدود تونس إلى الشرعية”.
وتأتي تهنئة الغنوشي،الذي يرأس حركة النهضة الإسلامية الجناح السياسي لتنظيم الإخوان في تونس،تناغمًا مع الموقف التركي في ليبيا،وشقًا لصف الدبلوماسية التونسية، حيث تؤكد رئاسة الجمهورية على موقف الحياد من أزمة البلد الجار.وأحدث الموقف المتباين بين رئيس البرلمان المتهم بتغليب المصالح الحزبية والإيديولوجية على الموقف الوطني، شرخًا بين الغنوشي ورئيس الجمهورية قيس سعيَّد، الذي لا يخفي عدم ثقته في تركيا التي دخلت بقوة لتغليب كفة الميليشيات التابعة لحكومة الوفاق.
وكانت أربع كتل نيابية في البرلمان التونسي أصدرت يوم الجمعة 22مايو الماضي بيانًا استنكرتْ فيه التهنئة التي تقدم بها الغنوشي للسراج عبر اتصال هاتفي قبل أيام، ووصفت ما قام به الغنوشي بأنَّه “تدخل في السياسة الخارجية للبلاد، وإقحام لتونس في نزاعات داخلية لبعض الدول”..ودعت الكتل الأربع رئاسة مجلس نواب الشعب وكل مؤسسات الدولة الى الالتزام بالموقف الرسمي للجمهورية التونسية في ما يتعلق بالسياسة الخارجية، الذي يعبر عنه رئيس الجمهورية ووزارة الخارجية دون سواهما، على قاعدة المصلحة العليا للبلاد والانتصار للقضايا العادلة للشعوب دون انحياز لأي طرف.علمًا أنّ الموقف الرسمي التونسي يرفض كل تدخل عسكري أجنبي في الشأن الليبي، ويؤكد أنَّ النزاع بين الليبيين لا يحل ويحسم الا بلغة الحوار، وأي دور لتونس في ذلك هو من صلاحيات الديبلوماسية التونسية وعلى رأسها رئيس الجمهورية.
وأكدت الكتل الأربع حق كل النواب والكتل في حرية التعبير دون إقصاء أو محاباة، وعبرت عن تمسكها بمبدأ المساءلة كحق طبيعي يضمنه الدستور والممارسة الديمقراطية وضرورة قبول كل مسؤول بما في ذلك رئيس مجلس النواب بهذا المبدأ والالتزام به دون توظيف سياسي أو حزبي.
عبير موسى وصراعات البرلمان التونسي
يعيش البرلمان التونسي منذ تأسيسه في عام 2014،على وقع الخلافات الإيديولوجية والسياسية بين مكوناته،وازدادتْ هذه الخلافات تعمقًا،مع وصول الحزب الحر الدستوري بزعامة المحامية عبير موسي إلى قبة البرلمان بنحو 16 نائبًا،إِذْأعلنتْ منذ دخولها إلى البرلمان مهاجمة حركة النهضة والإسلام السياسي.وبدأت رئيسة الحزب الحر الدستوري عبير موسي، منذ أول يوم في عمل مجلس النواب بمعارضة الغنوشي،ومنعه من إحراز أي تقدم خلال وجوده على رأس البرلمان،وليس أدل على ذلك من اعتصاماتها المتعددة وتعطيلها المتواصل للأعمال في اللجان أو الجلسات العامة.وتلتقي أهداف موسي،التي لا تخفي عداءها للنظام البرلماني ودعوتها لتغيير النظام السياسي ، مع أهداف المعسكر الفرنسي والإماراتي.
وكان البرلمان التونسي وافق يوم الجمعة22مايو/آيار الماضي،وللمرّة الثانية في أقل من أربعة أشهر، على “المساءلة” الثانية لرئيسه راشد الغنوشي حول الشأن الخارجي وملف الدبلوماسية، في جلسة تُعقد في 3 يونيو/ حزيران2020،وذلك على خلفية اعتصام نواب كتلة “الحزب الدستوري الحر” لأكثر من 10 أيام داخل البرلمان.
وساندت كتل “قلب تونس” و”تحيا تونس” و”الإصلاح” و”المستقبل”، موقف “الدستوري الحر”، في حين التحقت “الكتلة الديمقراطية” و”الكتلة الوطنية” بالمنددين بما وصفوه “تجاوز الغنوشي لصلاحياته”، فيما بقيت حركة “النهضة” وحليفها غير المعلن، “ائتلاف الكرامة”، في الخانة المقابلة المدافعة عن رئيس البرلمان.وتُعَدُّ الجلسة المقررة لمساءلة الغنوشي الثانية من نوعها، بعد جلسة يناير/ كانون الثاني 2020،التي عُقدت على خلفية زيارته غير المعلنة إلى أنقرة ولقائه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
وتلتقي أهداف عبير موسي،مع حزب مشروع تونس بقيادة محسن مرزوق،ومع المحور الإقليمي الإماراتي -المصري- السعودي –الفرنسي المؤيد للواء خليفة حفتر،حسب وجهة نظر حركة النهضة،التي تتهم هذا المحور الإقليمي والدولي بأنَّه هو الذي يقف وراء الحملة التي تستهدف الإطاحة برئيس البرلمان، رئيس حركة “النهضة” راشد الغنوشي، والدعوة إلى محاسبته شعبياً وداخل البرلمان وإبعاده عن رئاسة السلطة، وتكثيف الحملة الداخلية والخارجية ضِدَّهُ.وهو ما فهمه الرئيس قيس سعيد الذي نَأَى بِنَفْسِهِ عنْ هكذا توجيه رغم ما أُحِيطَ بِهِ مِنْ قلاقل ليقطع الرجل الطريق أمام الساعين لِحَشْرِهِ في خلافٍ مباشرٍ مع راشد الغنوشي.
لا شك أنَّ فرنسا،التي لم تَعُدْ تُؤَيِّدُ الإسلام السياسي في تونس،منذ أنْ وطدتْ حركة النهضة علاقتها التحالفية مع كل من تركيا وقطر،وفي ضوء تبلورالرؤية الاستراتيجية لتركيا في ليبيا،سَوف تَدْفَعَ الآن بكل قوة لتمكين عبير موسي من الوصول إلى الحكم في تونس،وتغيير طبيعة النظام السياسي في البلاد، عبر استثمارعبير موسي الخلاف القائم بين الرئيس سعيّد ورئيس البرلمان راشد الغنوشي، والتقائها موضوعيًا مع أفكار الرئيس سعيّد، ومؤدّاها أنَّ كل المشكلات التي تعانيها تونس مردّها إلى نظامها السياسي القائم على التمثيلية البرلمانية.فقد وصل بالرئيس سعيّد إلى القول إنَّ المجلس النيابي هو أقصى تعبير عن البؤس السياسي،ودعوته لتغيير النظام السياسي بهدف حل البرلمان وتنظيم انتخابات سابقة لأوانها.. وتعتقد عبير موسي أنَّ انتخابات سابقة لأوانها ستعزز من حظوظ حزبها، وستقلص من حجم “النهضة”.
ويُعَدُّ حزب عبير موسى “الحزب الحر الدستوري” من سلالة حزب التجمع الديمقراطي الحاكم سابقًا في عهد الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، وتربطه علاقة قوية بفرنسا، وتتهم حركة النهضة عبير موسى بأنَّها تسعى إلى استعادة بقايا النظام السابق ممن يحنّون إلى زمن الحكم المطلق، بعباءته الجمهورية وسلطته الرئاسية ذات الصلاحيات الكبيرة ،إذْ إنَّها ستعتمد على الرغبة الجامحة لدى النساء التونسيات للتمكن من حقِّهن في الوصول إلى رئاسة الدولة.
تزايد المطالبة بتغيير النظام السياسي
تعمقت الأزمة السياسية في تونس،في ضوء تركيبة البرلمان الجديد الفسيفسائية المتشكل من كتل برلمانية تضمّ الأضداد المختلفة أيديولوجياً وفكرياً، إلى جانب تجمّع الخصوم تحت قبة البرلمان في مجموعات صغيرة لا تملك أي منها أغلبية كافية للحكم أو لتزعّم البرلمان،فكتلة “النهضة” الكبرى عددياً،لا يتجاوز عدد نوابها الـ54 نائباً، أي أنَّها لا تصل إلى ربع تركيبة البرلمان المكوّن من 217 نائباً.وتكمن أحد أسباب أزمة البرلمان التونسي في اصطفاف كتله وانحيازها إلى أطرافٍ ومحاورٍ إقليميةٍ،بحجة المرجعيات الفكرية والإيديولوجية المحكومة بالارتهان إلى أطراف ودول أجنبية.
وبات واضحًا أنّ البرلمان التونسي مَحْكُومٌ بانقسامٍ خارجِيٍ وآخر داخليٍ،بحسب الموقف من الأزمات الإقليمية والتحالفات والمرجعيات الإيديولوجية،فقد تجمع المواقف الخارجية من الأزمة الليبية و الصراع الإقليمي الدائر في ليبيا،أحياناً أحزاباً وكتلاً من المعارضة مع كتل الائتلاف الحاكم. مع العلم أنَّ الموقفَ من الصراع الدائر في ليبيا يُقَوِّضُ تماسكَ الائتلافِ البرلمانِي الحكومِي،إذْ تتقاسمُ كتل “الإصلاح” و”المستقبل” و”حركة الشعب” (في الحكم) و”قلب تونس” (في المعارضة) الموقف الذي يدعمه “الدستوري الحر” المناهض لحكومة الوفاق الليبية، في وقت يختلف شريكا “الكتلة الديمقراطية”(الشعب والتيار الديمقراطي في الحكم) حول الموقف من دعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر،فموقف “التيار الديمقراطي” يميل إلى دعم حكومة الوفاق بشكل يجعله في صف “النهضة” و”ائتلاف الكرامة”.
لقد دفعت الأزمة السياسية التي تعيشها تونس،إلى توسيع دائرة الناقدين للنظام السياسي الحالي، والمطالبة بمراجعته بشكل جدي. ففي خطوة تصعيدية، دعاالأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي إلى تنظيم استفتاء لتقييم النظام السياسي الذي ذهبت إليه تونس منذ2011 ،لأنّ الأزمة سياسية بامتياز.ففي حوار على أمواج الإذاعة الوطنية يوم 18مايو/ آيار الماضي، قال الطبوبي إنّه على الطبقةِ السياسيةِ التي تُؤَكِّدُ على الشرعيةِ الانتخابيةِ أنْ تُفَكِّرَ في مَدَى نجاعةِ النظامِ السياسيِ ونقاطهِ الإيجابيةِ ومَدَى تَمَاشِيهِ مع تَوَجُّهٍ سِيَاسِيٍ معينٍ، فتونس دخلتْ في صراعِ محاورٍ إقليميةٍ لم تتعود عليه منذ الاستقلال، مشيراً إلى وجود أطرافٍ لا تُؤْمِنُ بالدولةِ الوطنيةِ وبِرُمُوزِهَا.ولم يتردد الطبوبي في القول “ليس من العيب أن يشتغل الاتحاد في السياسة”، وبذلك يؤكد مرة أخرى عدم الفصل بين النقابي والسياسي.ويلتقي موقف الاتحاد العام التونسي للشغل مع موقف الرئيس سعيّد، إذ يجمعهما روح تغيير النظام السياسي الشاذ والهجين، والإسهام في تحجيم حركة النهضة ووزنها السياسي.
يرى المحللون في تونس أنّ المنظومة السياسية التي أقرَّهَا دستور 2014 لم تَكُنْ مَحَلَّ إِجْمَاعٍ ،لذلك عجزتْ عنْ إنشاءِ نظامٍ سياسيِّ مستقرٍ وقادرٍ على التفرغِ لإصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ،وتركيزِ مشروعٍ تنمويٍ يُرَاعِي العدالة الاجتماعية المنكوبة، ويُمَكِّنَ تونس من تحقيقِ الانتقالِ نحو مستقبلٍ أفضلٍ يحقق انتظارات الشعب التونسي.فمنذ عام 2014 ولغاية 2020،اتسم الوضع السياسي في تونس بعدم الاستقرار،وتحالفات غير مبدئية وتشتت القرار بين قصرباردو(مقر البرلمان)، وقصرقرطاج(الرئاسة)، وقصرالقصبة(الحكومة)، وتدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لعموم التونسيين.
ورغم ذلك، فإنَّ الحزبَ الأغلبي حركة النهضة أصرّ على الهروب إلى الأمام وتمسك بالمنظومة القائمة فوجد نفسه 2020 في نوعين من التحالفات فهو متحالف مع بعض الأحزاب في الحكومة )التيار وتحيا تونس وحركة الشعب( وأحزاب أخرى في البرلمان )إتلاف الكرامة وقلب تونس( وهي ظاهرة غريبة وغير مسبوقة في كلّ ديمقراطيات العالم لذلك تكّررت الدعوات لمراجعة هذا النظام السياسي،بهدف ضمان استقرار الدولة.
وليس من قبيل المصادفة أنْ تزامنتْ في تونس، خلال شهر مايو/آيار الماضي،تصريحات ومواقف حزبية مختلفة،تدعو إلى تغييرالنظام السياسي،وتنادي بالجمهورية الثالثة،ولئن صدرتْ هذه المواقف، في أغلبها،عن شخصيات تتحدر من حزب نداء تونس ومشتقاته.فقد اعتبر مؤسس حزب “مشروع تونس” المنشق عن حزب “نداء تونس”،محسن مرزوق،أنَّ “الجمهورية الثالثة هي الحلّ،وتغيير النظام السياسي ضرورة،ورئيس الجمهورية تحدث عن سحب الوكالة والاستفتاء، الأمر الذي جعله يتعرّض لهجمة شرسة” حسب تعبيره.وأصبح مرزوق مؤمناً بضرورة “تغيير النظام السياسي لأن الأحزاب وحدها المنتفعة منه وخصوصاً حركة النهضة”، وذهبت به الحماسة إلى حد القول إن النظام السياسي “أصبح جثة في حالة تعفن ونظام الأحزاب لم يعد يخدم الدولة”، واعتبر أن القيام بذلك أمر ملحّ من أجل قيام “الجمهورية الثالثة”. وهو بدوره يسعى لإضعاف “النهضة” التي يصفها بـ”العدو”، ويدعو إلى فتح حوار وطني يهدف إلى تغيير جذري للمشهد السياسي وأولوياته.
كمادعا حزب الأمل، الذي أسسته سلمى اللومي المنشقة أيضًاعن حزب”نداء تونس”، في بيان، إلى قيام “جمهورية ثالثة عادلة وتضامنية وديمقراطية”، وذلك كردِّ على “ما تعيشه تونس من أزمة ثقة في الطبقة السياسية ومؤسسات الدولة وحالة التعفن السياسي في الخطاب والممارسة، وطغيان سلطة الأحزاب وحساباتها الضيقة على منطق الدولة والمصلحة العليا للوطن وتفشي منطق الغنيمة والمحاصصة والفساد السياسي”.
خاتمة:أي نظام سياسي يريده سعيّد؟
يدافع الرئيس قيس سعيّد عن رؤية مختلفة لنظام الحكم، لكنَّه لا يفصّلها ولا يفسرها،وتبقى غير واضحة بخصوص طريقة حكم البلاد،فلا أحد يدرك بالضبط ما يسعى إليه،وهل يتعلق الأمر بما تردد في بعض تصريحاته عن إيمانه بنظام الديمقراطية المباشرة، وإدارة الدولة عبر مجالس الحكم المحلي بما يشبه نظام الكومونات، أم أنَّ الأمرَ يتعلق بالتوجه إلى نظام سياسي رئاسي، يتم فيه اختزال كل السلطات بيد رئيس الجمهورية، والحد من تأثير البرلمان، وجعله أشبه بمجلس استشاري، أم هو خيار ثالث يجمع بن السلطة المطلقة للقائد الملهم ومجالس شعبية شكلية على طريقة معمر القذافي. لا أحد يدري بالتحديد طبيعة النظام السياسي الجديد الذي يبشّر به قيس سعيد، في ظل تضارب التصريحات وتناقض المواقف وتداخل التصورات النظرية بالممارسة السياسية التكتيكية.
في ضوء احتدام الخلافات السياسية الكبيرة بين أطراف السلطة في تونس،القائمة بين البرلمان من جهة ، وبين التحالف المعلن المتكون من رئيس الجمهورية قيس سعيّد، ورئيس الحكومة إلياس الفخفاخ من جهة أخرى، في محاولة لكبح جماح البرلمان وأساسًا رئيسه راشد الغنوشي وحزبه حركة النهضة اللذين أمسكا بخيوط اللعبة بشكل واضح وهو ما أثار حفيظة البعض الذي انتقل من دور الشريك في الحكم إلى خصمٍ عنيدٍ، أكّد الرئيس سعيد خلال كلمته الأخيرة في مدينة فندق الجديد على احترامه للشرعية لِيُنْهِيَ بذلك الجدل السياسي القائل بوقوف قيس سعيد ومقربون منه وراء حملة الإطاحة بالبرلمان،ورئيسه راشد الغنوشي.
وشدّد الرئيس سعيّد في هذا الخصوص على احترامه للقانون في البلاد،وللشرعية التي أفرزت برلمان البلاد، مشيرًا في الوقت عينه على أنَّ الشرعية يجب أن تتقابلَ مع “المشروعية الشعبية”، ومضيفًا بقوله: “لم نكنْ ولنْ نكونَ دعاةَ فوضَى أو دعاةَ خُرُوجٍ على الشرعيةِ، ولَكِنَّ منْ حَقِّ أي مواطن أنْ يُطَالِبَ بأنْ تَتَقَابَلَ الشرعية مع المشروعية الشعبية”.
في ضوءِ أزمةِ النظامِ السياسِي في تونس، وغيابِ تَشَّكُلِ الْمَحْكَمَةِ الدُسْتُورِيَةِ، يَتَفِقُ معظم المحللين في تونس أنَّ هناكَ ثلاثةَ خِيَارَاتٍ مَوْضُوعِيَةٍ تُطْرَحُ أمام الطبقة السياسية الحاكمة لتجاوز الأزمة:الأول، هو الحوار الوطني تقوده المنظمات الوطنية الأربع كما جرى في نهاية سنة 2013، والثاني، تعديل القانون الإنتخابي بوصفه مصدرًا لمعظم الأزمات السياسية، وفقا لعديد السياسيين الحاليين. والثالث، هو إجراء انتخابات تشريعية مبكرة.
