إستراتيجية واشنطن الجديدة المناهضة للصين

تتمثل إحدى نتائج وباء فيروس كورونا في أن الغربيين اكتشفوا مدى تبعيتهم لقدرات التصنيع الصينية.
لم يكن الأوروبيون، ولا الأمريكيون قادرين على صنع ملايين الأقنعة الجراحية التي كانوا ينوون توزيعها بسرعة على شعوبهم. وكان عليهم الذهاب لشرائها من الصين، وكثيرا ما تصارعوا فيما بينهم حتى على مدرجات هبوط الطائرات للاستئثار بتلك الشحنات على حساب حلفائهم.
وفي سياق (كل واحد يدبر حاله)، لم يعد للقيادة الأمريكية على الغرب أي معنى.
لهذا السبب قررت واشنطن، ليس عدم إعادة التوازن للعلاقات التجارية مع الصين فحسب، بل معارضة بناء طرق الحرير، ومساعدة الأوروبيين على نقل جزء من صناعاتهم خارج الصين. مما شكَل نقطة تحول حاسمة: الوقف الجزئي لعملية العولمة التي بدأت مع اختفاء الاتحاد السوفياتي.
يجدر هنا الانتباه إلى أن هذا ليس قراراً اقتصادياً يرمي للتشكيك في مبادئ التجارة الحرة، بل إستراتيجية جيوسياسية جديدة لتخريب الطموحات الصينية.
تم الإعلان عن هذا التغيير في الإستراتيجية من خلال الحملة ليس فقط الاقتصادية، ولكن أيضاً السياسية والعسكرية ضد شركة هواوي Huawei.
تخشى الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي أنه إذا فازت هواوي بعقود شراء غربية لتركيب الجيل الخامس G5، فإن الجيش الصيني سوف يتمكن من إعتراض الإشارات. وكانوا يعرفون على وجه الخصوص، أنه إذا استولى الصينيون على هذه الأسواق، فسيصبحوا تقنياً الوحيدون الذين يمكنهم الانتقال إلى الخطوة التالية .
هذا ليس اصطفافاً لإدارة ترامب مع أوهام الفجر الأحمر الذي يرتكز هوسه المناهض للصينين على معاداة الشيوعية في المقام الأول، ولكن على إدراك التقدم العسكري الهائل لبكين.
لاشك أن ميزانية جيش التحرير الشعبي ضئيلة مقارنة بميزانية القوات المسلحة الأمريكية، ولكن إستراتيجيتها الاقتصادية والتقدم التقني بالتحديد، يسمحان لها اليوم بتحدي الوحش الأمريكي.
في نهاية الحرب العالمية الأولى، تعهد الصينيون من حزب الكومينتانغ والحزب الشيوعي بإعادة توحيد بلادهم، والانتقام لقرن طويل من الإذلال الاستعماري لها. حاول شخص من حزب الكومينتانغ يدعى تشانج كا تشيك القضاء على الحزب الشيوعي، لكنه هُزم وذهب إلى المنفى في تايوان.
تابع ماو تسي تونغ هذا الحلم القومي، من خلال توجيه الحزب الشيوعي في التحول الاجتماعي للبلاد.
ومع ذلك، ظل هدفه دائماً وقبل كل شيء قومياً كما أثبتت الحرب الصينية-الروسية من أجل جزيرة زنباو في عام 1969.
وضع الأدميرال ليو هواكينج في الثمانينات (الشخص الذي قمع محاولة الانقلاب التي قادها تشاو زيانغ في ميدان تيانانمن ) استراتيجية لإخراج الجيوش الأمريكية من المنطقة الثقافية الصينية. وقد تم تنفيذ ذلك بصبر وأناة منذ أربعين عاماً. ومن دون التسبب بنشوب حرب، تنوي بكين بسط سيادتها الإقليمية على بحر الصين، ومضايقة القوات البحرية الأميركية هناك. واللحظة التي سوف يتعين فيها على القوات الأميركية الانسحاب ليست بعيدة، تاركة للصين فرصة استعادة تايوان بالقوة.
بعد حل اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، اعتبر الرئيس جورج بوش الأب أن الولايات المتحدة لم يعد لديها منافسين، وأن الوقت قد حان لجني المال، فقام بتسريح مليون جندي، وفتح الطريق للعولمة المالية.
قامت الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات بنقل شركاتها إلى الصين، حيث تم إنتاج منتجاتها من قبل عدد لا يحصى من العمال غير المدربين، وبأجور أقل بعشرين مرة من العمال الأمريكيين.
وتدريجيا، صارت معظم السلع الاستهلاكية في الولايات المتحدة الأمريكية مستوردة من الصين. الأمر الذي أفقر الطبقة الوسطى الأمريكية، في الوقت الذي كانت فيه الصين تدرب عمالها وتحقق الثراء.
وبفضل مبدأ التجارة الحرة، امتدت تلك الحركة إلى الغرب كله، ثم إلى العالم كله. فقرر الحزب الشيوعي إعادة بناء معادل حديث لطريق الحرير القديم، فانتخب في عام 2013، شي جين بينغ لتنفيذ هذا المشروع. عندما يتم ذلك، في حال كان ذلك واجب التنفيذ، سوف تتمكن الصين من احتكار افتراضي لتصنيع السلع الصناعية في جميع أنحاء العالم.
من خلال قراره بتخريب طرق الحرير، يحاول الرئيس دونالد ترامب إخراج الصين من منطقتها الثقافية، تماماً كما تفعل الصين بدفع الولايات المتحدة للخروج من منطقتها الثقافية.
ولتحقيق ذلك، يمكنه الاعتماد على “حلفائه”، الذين تدمرت شركاتهم بمنتجات صينية ممتازة وبأسعار منخفضة. لقد عانى بعضهم من الثورات بسبب هذا الأمر، كما هو الحال بالنسبة للسترات الصفراء في فرنسا.
في السابق، كان طريق الحرير القديم يجلب منتجات غير معروفة إلى أوروبا، على حين أن الطرق الحالية تحمل نفس المنتجات التي تصنع في أوروبا، ولكن بأسعار أرخص بكثير.
وخلافا للاعتقاد الشائع، يمكن للصين أن تتخلى عن طرق الحرير لأسباب جيواستراتيجية، مهما كان حجم استثماراتها.
لقد فعلت هذا في الماضي. وفكرت في فتح طريق حرير بحري في القرن الخامس عشر، وأرسلت على رأس أسطول هائل الأدميرال تشنغ هي، “المخصي بثلاثة جواهر”، إلى أفريقيا والشرق الأوسط ، قبل سحبه، وتدمير أسطولها الضخم حتى لا يعود أبداً.
زار وزير الخارجية مايك بومبيو إسرائيل في عز الحجر الصحي التام. وحاول إقناع رئيسي الوزراء المستقبليين، بنيامين نتنياهو (استعماري يهودي) ومساعده، بل خصمه الجنرال بيني غانتس (قومي إسرائيلي)، بوقف الاستثمارات الصينية في بلديهما.
تسيطر الشركات الصينية على نصف القطاع الزراعي الإسرائيلي، ومن المتوقع أن تحقق 90٪ من مبادلاتها التجارية في الأشهر المقبلة.
ولسوف ينبغي على مايك بومبيو أن يسعى بنفس العزيمة لإقناع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
في الواقع، كان من المفترض أن تكون قناة السويس وموانئ حيفا وأشدود الإسرائيلية محطات نهاية طريق الحرير الحديث على البحر الأبيض المتوسط.
لكن بعد عدة محاولات، قامت الصين بتقييم عدم استقرار العراق وسوريا وتركيا، وتخلت عن محاولة عبور تلك البلاد. وتم التوصل إلى اتفاق ضمني بين واشنطن وموسكو لترك جيب جهادي في أي مكان على الحدود السورية التركية لإحباط أي استثمار صيني في المنطقة.
وفي الواقع، تعتزم موسكو أن تبني تحالفها مع بكين على طرق حرير تعبر أراضيها، وليس الدول الغربية.
هذا هو مشروع “الشراكة الأوراسية الكبرى” للرئيس فلاديمير بوتين .
وهكذا نعود مراراً وتكراراً إلى نفس المعضلة (“فخ ثيوسيديدز”): ففي مواجهة صعود قوة جديدة (الصين)، يتحتم على السلطة المهيمنة (الولايات المتحدة) إما شن حرب ضدها (مثلما فعلت سبارتا ضد أثينا)، أو التخلي عن مساحة للوافد الجديد، أي قبول تقسيم العالم.

*مفكر يساري فرنسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى