الخطة الحكومية الاقتصادية: المقايضات السياسياتية ومتاهاتها المعقّدة في لبنان

 

في 30 نيسان، أقرّ مجلس الوزراء اللبناني خطة اقتصادية حكومية فيها شيء من التجدد من حيث الدقّة ومن حيث طبيعتها التحليلية. والمطلوب الآن هو وثيقة تحلّل الوضع بشكل شمولي مع استعراض التسويات المطلوبة لدى البحث عن مخرج من الأزمة المالية[i]. فقد أراد المجتمع وصانعو السياسات الوصول الى حسابات صريحة وصادقة حول حجم وطبيعة الفجوة المالية فضلاً عن التضحيات المطلوبة لردمها. كما كشفت الخطة عن عدد من المحرّمات المهمة، حيث استوعبت فكرة عجز البلد عن حل الأزمة بمفرده وأنه لا مفرّ من سلك الطريق نحو صندوق النقد الدولي؛ وأبرزت بكياسة السبب وراء ضرورة تعليق الدين وإعادة هيكلته؛ وألقت الضوء على تعثّر البنك المركزي؛ كما شرحت بشكل جيد السبب وراء ضرورة تخفيض قيمة العملة الأجنبية.

لكن تحليل الخطة يبيّن ضمنياً الخيارات السياسية والتسويات التي سيحاول هذا الملخص فك رموزها. وتسمح قراءة دقيقة لهذه الخطة بتدعيم استنتاجين رئيسيين: أولاً، حجم المشكلة كبير جداً. ثانياً، لا وجود لحلول سهلة. فالتدابير ستكون مؤلمة والسياسات القادرة على إحداث فرق (تقشف مالي حاد؛ تخفيضات كبيرة في قيمة العملة؛ خصم القيمة السوقية للودائع؛ أو اللجوء الى أصول الدولة) ستكون إما مؤلمة الى حدّ لا يُطاق أو مستحيلة اجتماعيًا وسياسيًا في لبنان اليوم.

يختتم الملخص ببعض الأفكار الأولية حول التدرجية مقابل الراديكالية.

خلفية النمو

إن المحور الأساسي لأي مخطط اقتصادي هو توقّع النمو المستقبلي للبلد. ففي نهاية المطاف، الهدف الأمثل من برامج التنمية هو الرخاء المستدام. من الصعب الاعتراض على توقعات النمو الواردة في الخطة والتي تتراوح بين ثلاث وخمس سنوات. فالتكييف الاقتصادي المؤلم والضمني الوارد في المقترحات السياساتية يضمن من الناحية العملية حدوث انكماش كبير على طول السنوات القليلة المقبلة[ii]. ولدى انتهاء الانكماش، تتوقع الوثيقة “نمواً محتملاً” خجولاً بنسبة 3٪ سنوياً على المدى المتوسط.

ماذا تعني هذه التوقعات من منظورٍ بديهي؟ سيؤدي الانكماش الاقتصادي بين العامين 2020 و2022 والذي سيرافقه انخفاض كبير في سعر الصرف الحقيقي، إلى تقليص الناتج المحلي الإجمالي – عند قياسه بالدولار الأميركي – إلى النصف. وعلى ضوء فرضيات النمو المحتمل الواردة في الوثيقة، ما يثير القلق هو أن لبنان لن يستعيد مستوى الناتج المحلي الإجمالي لعام 2018 بالدولار الأميركي قبل عام 2043[iii].

بعبارة أخرى، هذه الخطة، وكما هو متوخى، تطالب المجتمع بخفض مستوى معيشته إلى النصف الآن فيما تمنح القليل من الأمل بالانتعاش في نهاية المطاف. لا داع لأن يكون المرء نابغة كي يفهم أن أي برنامج يُنتج هذا النوع من كفاف النمو مرهق جداً من الناحية السياسية. سيكون الألم كبير جدًا في البداية وعملية الشفاء اللاحقة خجولة جدًا.

المالية العامة

تردد الخطة شعاراً مفاده أن على الموازنة اللبنانية أن تتحمّل جزءاً كبيراً من عملية التكييف. على وجه التحديد، تتنبّأ بتخفيض مفترض في الدين العام على أساس فرضية مفادها أن الحكومة بحاجة إلى رفع فائضها الأساسي بشكل واضح إلى 3.8 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2024 والحفاظ عليه عند هذا المستوى في كل سنة. في الواقع، ليس لدى لبنان المساحة المالية اللازمة لتوليد هذا النوع من الفائض.

لنبدأ أولاً بجانب الإنفاق. على مدى السنوات الـ 15 الماضية، أنفقت الحكومة اللبنانية متوسط 21٪ من الناتج المحلي الإجمالي على الخدمات العامة، فيما لو استثنينا مدفوعات الفائدة على الديون. إنّ مستوى الإنفاق غير القائم على الفائدة منخفض جداً بالنسبة الى المعايير الدولية ولعل هذا أحد الأسباب وراء تصنيف لبنان المتدنّي في الدراسات الاستقصائية حول “فعالية الحكومة”[iv]. لكن، وفوق هذا كله، توصي الخطة بالتقشف الحاد في المستقبل، حيث تتوقع أن ينخفض الإنفاق إلى 17.1٪ من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2024، حتى مع الإنفاق المفترض المموّل من سيدر. وإذا ترجمنا هذه النسبة إلى دولارات أميركية فعلية، فهذا يعني أن الحكومة التي كانت تنفق 11 مليار دولار في عام 2019 ستنفق 5.7 مليار دولار في عام 2024. من الصعب جداً استدامة هذا النوع من تقليص الخدمات الحكومية من الناحية الاقتصادية والاجتماعية.

وللتوضيح، ما ذُكر سابقاً ليس موقفاً بشأن جودة الإنفاق الحالي الذي يفتقر طبعاً الى الفعالية، والذي هو هدر صارخ ويحتاج بطريقة ماسة إلى ترشيد. فالخطة تحدّد بشكل صارم وواضح المجالات حيث يمكن تخفيض الإنفاق بشكل واسع. غير أنها تتجاهل إلى حد كبير المجالات التي تحتاج إلى مزيد من الإنفاق. إن قائمة الإنفاق المالي المشروع والغائب حاليًا طويلة جداً وهي على الأرجح أكبر من المدخرات التي يمكن الحصول عليها من كهرباء لبنان ومن فاتورة أجور الخدمة المدنية. على سبيل المثال، حصر إنفاق الرساميل بتمويل سيدر وحده، كما تقترح الوثيقة، مقيّد جداً. فحتى لو افترضنا ولو بشكل غير منطقي أن أياً من أموال سيدر المفترضة (0.6 مليار دولار سنويًا) لن يذهب إلى الإنفاق الاجتماعي، يظلّ هذا المبلغ أقل بكثير من رأس المال الذي تحتاجه الحكومة – بما في ذلك البنية التحتية.

أما الجانب الخاص بالإيرادات، فهو يشكّل أيضاً تحدياً كبيراً. إذ في خلال العامين المقبلين، ستخسر الادارة الضريبية مصدرَي الإيرادات اللذين تعتمد عليهما بشكل كبير حالياً: الضرائب على القطاع المالي والرسوم على الواردات. ونتيجة لذلك جزئياً، ترى الخطة نسبة الإيرادات إلى الناتج المحلي الإجمالي 18.7٪ بحلول عام 2024 وهي نسبة خجولة. ولرفع النسبة إلى حيث “يجب”[v]، ستكون الضرائب الجديدة شبه ضرورية. لكن تجربة “ضريبة الواتساب” التي تسبّبت باحتجاجات تشرين الأول برهان صارخ عن مدى صعوبة رفع الضرائب.

نقطة أخيرة بشأن القسم المالي للخطة: تتجاهل الوثيقة عائدات النفط والغاز المستقبلية المحتملة وبالكاد تذكر عملية استخدام أصول الدولة. وفيما أشيد بإحجام الوثيقة عن إدراج الإيرادات المستقبلية غير المؤكدة والخوض في موضوع الخصخصة السام، فإن الواقع يفرض عدم تجاهل أي تحليل جدي للاستدامة المالية المتوسطة الأجل في لبنان لهذه الموارد القادرة على تخفيف القيود.

القطاع المالي والميزانية العامة للبنك المركزي والودائع

تقدّر الخطة حجم الفجوة في القطاع المالي الموحد – كل من المصارف ومصرف لبنان – بقيمة 186 تريليون ليرة لبنانية. هذا يعني 53 مليار دولار عند سعر صرف يبلغ 3500 ليرة لبنانية. وهو رقم مهول.[vi]

من المفيد تحليل هذا الرقم المرتفع جداً. لنبدأ بالمصارف وحدها: تشير الوثيقة الى أن خسائر المصارف – الناشئة عن إعادة هيكلة حيازاتها من الديون الحكومية ومن ديون القطاع الخاص المتعثر – تبلغ 65 تريليون ليرة لبنانية[vii]. واللافت أن رأس مال المصارف يبلغ 31 تريليون ليرة لبنانية. بعبارة أخرى، سيساهم شطب أسهم أصحاب المصارف (كما توصي الخطة منطقياً) في تغطية خسائر المصارف. أما الباقي – “فقط” 34 تريليون ليرة لبنانية أو 10 مليار دولار – فيمكن تجاوزه ولو أن حجمه ضخم جداً.

لننتقل الآن الى مصرف لبنان: للأسف الأرقام أكبر بكثير. يبلغ حجم الفجوة في الميزانية العامة للبنك المركزي – الناشئة عن إعادة هيكلة حيازات ديون القطاع العام، وعن الخسائر المتراكمة من عمليات “الهندسة المالية” – 177 تريليون ليرة لبنانية. الوثيقة متسامحة في بعض الأمور (بما في ذلك احتساب أسهم مصرف لبنان) ولكن، رغم ذلك، الفجوة المتبقية في مصرف لبنان هي 121 تريليون ليرة لبنانية.

تؤكد خطة الحكومة أنه يجب سد الفجوة الموجودة في النظام على الفور. هذا يعني أنه يجب شطب ما تطالب به المصارف من مصرف لبنان، وهذا بدوره يعني أن المصارف ستعجز عن تلبية طلبات مودعيها. لا شكّ أن الطلب صعب للغاية. إذ تطلب الخطة من المودعين في المصارف تحمّل 170٪ من الناتج المحلي الإجمالي بدءاً من اللحظة الأولى.

تعترف الخطة بضخامة هذا الطلب وتأتي بأفكار لتخفيف حدّة الألم، بما فيها “استرجاع” الأموال غير المشروعة وإجبار أصحاب المصارف على إعادة ضخ الرساميل. كما أنها تعرض لمشاركة المودعين على أنها طوعية – وليس خصماً من القيمة السوقية للودائع Haircut – وتوصي أيضًا بشركة لإدارة الأموال العامة تعود أرباحها الى مصرف لبنان. هذه كلها أفكار رائعة، لكن الحقيقة هي أن حجمها غير كافٍ. ومن المؤكد أن المودعين سيتلقون صفعة قوية.

والسؤال المطروح هو ما إذا كانت هذه التوصية القاسية بالتعامل مع خسائر مصرف لبنان منذ اللحظة الأولى ضرورية. إذا كان البديل على ذلك خصم من القيمة السوقية للودائع Haircut، ألا ينبغي التفكير في بديل آخر هو تأخير عملية إعادة رسملة مصرف لبنان؟ صحيح أن الحل الأمثل هو تنظيف الميزانية العامة للبنك المركزي، لكنني غير مقتنع بأنه يجب القيام بذلك على الفور. خلافاً للمصارف التجارية، لا تعاني المصارف المركزية من “السحوبات على الودائع”. علاوة على ذلك، البنك المركزي قادر على توليد السيولة – خلافاً للمصارف التجارية – وبالتالي يمكنه الاستجابة للطلبات على الليرة اللبنانية عند استحقاقها.

لكن دعوني أوضّح: إن تأجيل إعادة رسملة مصرف لبنان يحمل في طيّاته تكاليف باهظة. فالمصرف المركزي المتعثر لا يستطيع دعم العملة المحلية، مما يعني أن الثقة بالليرة اللبنانية لن تعود في المستقبل القريب. أما تأجيل إعادة الرسملة فستحول دون تمكّن المصارف من الوصول إلى ودائعها الخاصة في مصرف لبنان – خاصة الودائع بالدولار الأميركي – مما يعني أن تجميد أموال المودعين الحالي سيستمر، وربما لسنوات. أخيراً، الطريقة الوحيدة التي تسمح لمصرف لبنان بتوليد الليرة اللبنانية لتلبية السحوبات بالليرة اللبنانية بدون التخلي عن سوق الصرف الأجنبي هي بتأخير عملية تخفيف الضوابط على رأس المال. هذه كلها سلبيات خطيرة ومكلفة للغاية. ولكن يجب موازنة هذه التكلفة على ضوء عواقب الخصم المكثف والفوري من القيمة السوقية للودائع Haircut.

استدامة الديون

في الوثيقة، يفترض القسم الخاص بالدين أن عملية إعادة هيكلة الديون المتوقعة تخفّض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي من 176٪ في 2019 إلى 103٪ من الناتج المحلي الإجمالي في 2020. ويأتي هذا الانخفاض نتيجةً للخصم المفترض من القيمة السوقية للودائع Haircut على القيمة الاسمية للدين، ولكن، في مقابل ذلك، يأخذ في الاعتبار الاقتراض الأجنبي الجديد من صندوق النقد الدولي[viii]. وتتوقع الخطة بعد ذلك استقراراً واسعاً في هذه النسبة لمدة خمس سنوات قبل توقع انخفاض الدين بشكل رتيب بعد ذلك.

يجب تفصيل هذا المسار لأنه يتخذ ضمنًا خيارات سياساتية مهمة.

بادئ ذي بدء، اعتبر – أنا وآخرون كثر – أنه في بلد مثل لبنان، يجب أن تكون نسبة الدين المستدام أقرب إلى 60٪ من الناتج المحلي الإجمالي. حتى مع توقعات الخطة الأولية بشأن الفائض المالي، لن تحقق الدولة نسبة الدين هذه قبل عام 2032 تقريباً. بتعبير آخر، تتوقع الخطة أن تعيش الدولة بمخزون دين غير مستدام لمدة 12 عاماً إضافياً. خلال هذه الفترة، ستبقى أسعار الفائدة مرتفعة، والتدفقات مبعثرة، والسيولة ضئيلة. بعبارة أخرى، النمو سيعاني.

يوجد منظور آخر يجب من خلاله تحليل نقطة البداية للدين إلى الناتج المحلي الإجمالي والبالغة نسبتها 103٪. فالوثيقة تقرّ بأن النسبة مرتفعة “للغاية”[ix]، وتوصي بسياسات هدفها خفض رصيد الدين تدريجياً خلال العقد المقبل. ولكن لكي تتجه هذه النسبة نحو الاستدامة، يوصى ببذل جهد مالي هائل – أي 3.8٪ كهدف أولي للفائض في الناتج المحلي الإجمالي. ولكن، وللأسباب التي ذكرتها أعلاه، هذا الهدف الأولي للفائض ليس بالأمر الذي يمكن توخيه إذ لا يتمتع لبنان بالمساحة المالية لهذا النوع من التقشف المالي.

الاستنتاج هو أن حجم عملية دراسة الديون المفترضة في الوثيقة متواضع أكثر من اللزوم. لا بدّ من إجراء تخفيض أكبر كبداية. والأهم من ذلك هي الحاجة إلى أن يترافق أي تخفيض في خصم القيمة السوقية للودائع Haircut مع تمديد للمهل وتخفيض في القسائم بطريقة هجومية أكثر من تلك التي تنص عليها الخطة. إن عملية دراسة الديون هي تجربة صادمة ولا ينبغي لأي بلد أن يمر بها مرتين. لذا، يُستحسن الخوض في عملية هجومية لدراسة الديون – عملية تضع البلاد على المسار المستدام – الآن بدلاً من تنفيذها بعد 15 عاماً.

للتوضيح أكثر، كلما كان شطب الديون عدائياً، كلما كانت الصدمة كبيرة على الميزانيات العامة للمصارف – والمصرف المركزي – وكلما تعرّض المودعون للخطر. من المسلّم به أن هذه التسوية صعبة جداً. برأيي الشخصي، توجيه صفعة أكبر الى القطاع المصرفي لن تكون مرهقة على المدى الطويل بقدر التبعات التي ستترتب على ترك البلد مشلولاً بسبب الديون التي يرزح تحتها. لكن هذا الموقف يحتاج الى نقاش.

أخيرًا، أغفلت الخطة مسألة مفهومية ذات صلة بمناقشة الديون. فهي تركّز على التزامات الحكومة فيما تتجاهل جانب الأصول في ميزانيتها العامة. إن حجم فك المديونية المطلوب كبير للغاية بحيث لا يسع المرء حتى أن يفكّر في رفض استخدام هذه الأصول. أي خطة جادّة بشأن أصول الدولة يجب أن تراعي وبشكل دقيق اعتبارات المساواة (من يستفيد ومن لا يستفيد)، والطرائق الواجب اتّباعها (البيع المباشر مقابل التوريق والكفاءة)، والأهم من ذلك، مسألة الحوكمة.

نظام سوق الصرف الأجنبي والسياسة النقدية

بالفعل تقرّ الوثيقة بضرورة تخفيض قيمة العملة بشكل تلقائي وتوصي بتوحيد أسعار صرف العملات الأجنبية المتعددة الموجودة حاليًا لتكون بسعر منخفض موحّد. وبعد هذا التوحيد، توصي الخطة بتعويم نظام الصرف الأجنبي، فيما توصي، وهذا منطقي، باعتماد سياسات نقدية مشددة للغاية للحفاظ على استقرار الليرة اللبنانية.

هذه خطوات مناسبة أؤيّدها تماماً لكن مشكلتي هي في حجم تخفيض قيمة العملة منذ البداية. برأيي الحاجة ملحّة لتخفيض قيمة العملة بشكل أكبر. قد يوافق معظم المحللين على أن قيمة سعر صرف الليرة اللبنانية مبالغ فيها بشكل كبير وأن لا بدّ من إجراء بعض عمليات التكييف[x]. وتتوقع الخطة انخفاضاً كبيراً في القيمة الاسمية (59٪) على مدى عامين فتبلغ 3.684 ليرة لبنانية للدولار. إلا أنها تتوقع أيضاً ارتفاع معدل التضخم خلال الفترة نفسها. فالنتيجة هي إذَن أن تراجع قيمة الليرة الفعلية هو بنسبة 23٪ فقط.

تكون العملة في حالة توازن عند استعادة الأرصدة الخارجية والداخلية. لنبدأ بالجانب الخارجي. تضع الخطة افتراضات بطولية حول ميزان المدفوعات. وتتوقع انهيار الحساب الجاري من 11.7 مليار دولار في عام 2019 إلى 2.4 مليار دولار في عام 2024. كما ترى تحسّناً كبيراً في حسابات الخدمة. لكن الحسابات الأساسية من خلال استخدام المرونة التجارية المعيارية تشير إلى أنه من الصعب للغاية التوصل الى وفورات في الحساب الجاري على ضوء مسار سعر الصرف الحقيقي المفترض. هناك حاجة إلى مزيد من “تحويل الإنفاق” الذي يجعل الواردات أقل – والصادرات أكثر جاذبية. بعبارة أخرى، التوقعات الخاصة بالعملة الورقية مبالغ فيها.

بالانتقال إلى الجانب الداخلي، توجد ثلاثة أمور تستحق النظر فيها عند التفكير في المستوى “الأمثل” لسعر الصرف الأجنبي. أولاً، حَيْثِيّة النمو. تقيّم الوثيقة “النمو المحتمل” للبنان بنسبة 3٪. لديّ مشكلة مع هذا التقييم: لدى لبنان قطاع “قابل للتداول” متطور – والسياحة هي المثال الأبرز على ذلك – يمكن أن يدفعه إلى وتيرة نمو أسرع بكثير، مما سيخلق فرصًا كبيرة لخلق فرص العمل. فالعملة التنافسية ستمنح البلاد مساحة للتنفس تساهم بالنمو بشكل أسرع.

ثانيًا، حَيْثِيّة التضخم المتوسط المدى. إذا بدأنا بعملة مبالغ بتقدير قيمتها، يجب القبول بتراجع تدريجي (أي العودة إلى التوازن) مع الوقت. وهذا يعني بطبيعة الحال تضخماً مستمراً سيملي بدوره سياسة نقدية أكثر صرامة منه في حالات مخالفة. بالمقابل، إن تخفيض قيمة العملة بشكل أكبر في السنة الأولى، على الرغم من أن التضخم أعلى مما هو متوقع في السنة الثانية، سيجعل هدف التضخم المتوسط ​​الأجل المنخفض واقعياً أكثر وقابلاً للتحقيق.

ثالثاً، حَيْثِيّة الدين. إن تخفيض قيمة العملة بشكل أكبر يقلل تلقائيًا من القيمة “الحقيقية” للدين بالليرة اللبنانية. وفي حين أن هذا يشكّل، بطبيعة الحال، صفعة كبيرة لثروة الدائنين، فهي طريقة يحقق من خلالها النظام فك المديونية اللازمة التي يمكن أن تعيده إلى مسار مستدام.

من الواضح أن تخفيض قيمة العملة منذ اللحظة الأولى لا يأتي بدون تكلفة. فهو يقوّض القوة الشرائية للعاملين بأجر الذين يعانون بالفعل من الانكماش. إنني أدرك تمام الإدراك أن هذه قضية أساسية لها عواقب اجتماعية وأمنية حادّة. لكن أرى أيضاً في هذه القضية عملية مقايضة/ معاوضة. برأيي الشخصي، إن مزايا تنافسية أفضل – الاستدامة الخارجية، والنمو الأسرع، وفرص العمل في القطاع القابل للتداول، وتضخم الديون – تفوق التكلفة.

بعض الأفكار الختامية: التدرجية مقابل الراديكالية

للتأكيد على النقطة التي وردت في المقدمة، هذه الخطة فيها جدية وتجدّد. لا يسع المرء إلا أن يشيد بشجاعة الحكومة في تبنيها. فبعد سنوات من التعرّج، أصبح لدينا أخيراً خارطة طريق يمكن أن تشكّل قاعدة لإجراء مناقشة جادة حول طريقة الخروج من الأزمة.

لكن إذا كان من فكرة واحدة أساسية في هذه المقالة، فهي أن المشكلة ضخمة وليس من مخرج سهل لها. إذ إن جميع الأدوات السياساتية المتوفرة مؤلمة. وبقدر ما ستكون عملية الديون المفترضة كبيرة، ستبقى البلاد مشلولة نتيجة عبء الدين الذي ترزح تحته. ليس حجم التقشف المالي المطلوب للحد من الديون المتبقية بالفكرة الاجتماعية والاقتصادية المحبّذة. فالفجوة الموجودة في القطاع المالي هائلة لدرجة أن نسبة كبيرة من الودائع المصرفية معرّضة للخطر. كما أنّ حجم انخفاض سعر الصرف الأجنبي الذي يُنصح به يشكّل صفعة كبيرة لأصحاب الأجور البعيدين كل البعد عن القدرة على تحمّلها.

والأهم من ذلك هو أن شكل تدمير الثروات المطلوب لإعادة التوازن إلى الاقتصاد سيؤدي إلى إفقار الناس بشكل فوري. دعوني أكرّر الرياضيات التي بدأت بها هذا الملخص. فالخطة، كما هي متوخاة، تطالب المجتمع بخفض مستوى معيشته من غير وجود أي أمل بالانتعاش الجدي في الأفق. ومن غير الخوض في المجال السياسي -الاقتصادي أكثر من اللزوم، لا بدّ من الشعور بالقلق بشأن آثار هذا الانهيار الاقتصادي على بلد يعاني من تصدّعات طائفية عميقة وأنماط من الصراع الأهلي العنيف.

هذا التفكير أعلاه يطرح سؤالاً مهماً. إذا كانت الأدوات السياساتية المتوفرة مؤلمة ومستحيلة التطبيق اجتماعياً وسياسياً كما يبدو، ألا يجب على صانعي السياسات إعادة تصوّر خطة بديلة؟ ألا توجد مساحة لنهج أقل عدوانية في إدارة الأزمات – نهج لا يسعى وراء الكمال بالضرورة لكنه قابل للحصول على الدعم السياسي والاجتماعي الكافي لتجنب الانهيار التام؟

كيف سيبدو شكل مثل هذه الخطة؟ ربما يستحسن ترك الإجابة المفصلة لمقالة أخرى. ولكن باختصار، الخطة الصائبة هي تلك التي تتطلّب جهداً مالياً غير طموح جداً مع التركيز على الإيرادات أكثر منه على النفقات؛ وتسدد خسائر مصرف لبنان على مدى سنوات بدلاً من تنظيفها دفعة واحدة؛ وتستكمل بشكل عدائي أكبر خصم قيمة الدين من خلال تمديد المهل والتخفيضات في القسائم، فيما تحوّل العبء قدر الإمكان الى غير المقيمين؛ وتقبل بتخفيض أكبر لقيمة العملة. صحيح أن هذا الموضوع مزعج سياسياً، لكن يجب أن يعتمد هذا النهج، إلى حد ما على الأقل، على استخدام أصول الدولة: المشكلة أكبر من ألا تشكل هذه الأخيرة جزءاً من الحل.

لن تجنّب الخطة التدريجية حصول انكماش حاد ولكنها ستحدّ من شدته. ولن تتمكّن الحكومة من تجنّب سلك الطريق باتجاه صندوق النقد الدولي، لكن قد يعني ذلك “تصغير” الطلب – مع مشروطية أخف. أخيراً، والأهم من ذلك، هذا يعني أن القيمة السوقية للودائع لن تخضع للخصم بالقدر الذي يتطلّبه نهج أكثر عدوانية.

تجنّباً لأي لُبس، أنا مدركٌ تماماً لسلبيات النهج التدريجي. وهي كثيرة. سيكون تخفيض قيمة العملة أكبر منه في إطار برنامج طموح. وسيظل القطاع المصرفي ضعيفاً، وسيتم تجميد الودائع لفترة أطول بكثير مما هو مرغوب فيه[xi]. وستبقى الضوابط على رأس المال كما هي على مدى سنوات، وستكون فرص التعافي الاقتصادي المُجْدِي ضعيفة.

لكن للنهج التدريجي ميزة رئيسية في كونه أكثر استساغة من الناحيتين الاجتماعية والسياسية. ففي نظام طائفي معقد مثل لبنان، قد يؤدي الألم الاقتصادي الحاد الذي يترافق مع خطة راديكالية إلى سيناريوهات غير مستقيمة، بما في ذلك، وكحد أقصى، عودة الحرب الأهلية. ومن شأن النهج التدريجي أن يمنح البلد وقتاً بانتظار عائدات النفط والغاز و/ أو إمكانية تغيّر التوقعات الإقليمية. والتفاؤل الأكبر هو أنه يمنح المجتمع المدني بضع سنوات إضافية للتنظيم والاستعداد لخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة على أمل أن يبدأ عندئذ التحول الفعلي.

إذا كان الكمال مستحيلاً، أليس من الأفضل السعي وراء ما هو جيد؟

[i] كي نكون منصفين، جرت بعض المحاولات الجادة على النطاق الكلي بما في ذلك النماذج المستخدمة للتقرير المعنون “خطة عمل من عشر نقاط لتجنّب ضياع عقد من الزمن”. كما أود أن أسلط الضوء على العمل الممتاز الذي قام به جان ميشال صليبا في مصرف Bank of America، وعليا مبيّض وجيرار زوين. وتجدر الإشارة أيضاً إلى النقاش الغني على تويتر الذي بادرت به NERDS والذي أنتج رؤى وتحليلات تستفزّنا للتفكير فيها.
[ii] مُوَارَبَة تقنية – لكن تؤثر على كيفية تصميم تدابير سياساتية قصيرة المدى. ووفقاً للنماذج الخاصة بي، ستشهد البلاد انكماشاً أكبر مما هو متوقع في الخطة في العامين 2020-2021. لكن، على النقيض من ذلك، وحسب النماذج الخاصة بي، سيحصل انتعاش أكبر بكثير لاحقاً. في نهاية المطاف نصل الى المكان نفسه لكن الرحلة ستكون مختلفة.
[iii] الرياضيات واضحة هنا. فقد أخذت الناتج المحلي الإجمالي لعام 2024 (30.4 مليار دولار) كما ورد في الخطة مع معدل نمو مركب محتمل بنسبة 3٪. سيعود مستوى الناتج المحلي الإجمالي إلى مستواه ما قبل الأزمة (59 مليار دولار) بحلول عام 2043. وأود أن أضيف أنني افترضت أن سعر الصرف الحقيقي لن يتغير، مما يعني أن التضخم يُترجم إلى انخفاض اسمي معادل.

[iv] بالمقارنة مع الناتج المحلي الإجمالي للبنان البالغ 21%، ينفق متوسط ​​الاقتصاد الناشئ 27.4٪ من الناتج المحلي الإجمالي على النفقات الحكومية غير الربحية. (المصدر: قاعدة بيانات آفاق الاقتصاد العالمي لصندوق النقد الدولي). من المسلّم به أن مقدار الإنفاق ليس المقياس الأفضل لفعالية الخدمة العامة، ولكن في الدراسات الاستقصائية النموذجية حول “فعالية الحكومة”، بما في ذلك هذه الدراسة الاستقصائية التي أعدّها البنك الدولي، يأتي لبنان في مرتبة متدنية جداً.
[v] على سبيل المثال، البلد ذات السوق الناشئ يجمع 24٪ من الناتج المحلي الإجمالي من الإيرادات (المصدر: قاعدة بيانات آفاق الاقتصاد العالمي لصندوق النقد الدولي).

[vi] من المؤسف أن الوثيقة لم تقدم الحسابات الأساسية التي تكمن وراء معدّل التقديرات الأعلى. ومع ذلك، فإن الأرقام تقع بشكل عام ضمن تقديرات للخسائر أتى بها آخرون، وأنا واحد منهم.
[vii] لم يتم ذكر هذا الرقم بشكل صريح ولكن كان لا بدّ من استنتاجه. ففي الصفحة 29، تنص الوثيقة على أن الفجوة في الميزانية العامة للمصارف تبلغ 186 تريليون ليرة. وضمن هذا المجموع، يُفترض، وبشكل صريح، أن تضطر المصارف إلى استيعاب خسائر مصرف لبنان التي تم تقديرها منذ الصفحة 28 بمبلغ 121 تريليون ليرة لبنانية. وعلى هذا الأساس، تشير الوثيقة إلى أن خسائر المصارف الخاصة – تلك التي لا علاقة لها بخسائر مصرف لبنان – بلغت 65 تريليون ليرة لبنانية (أي الفرق بين 186 و121). بالمناسبة، هذا الرقم ليس بعيداً جداً عن الأرقام التي توصّل اليها محللون مستقلون آخرون في أماكن أخرى.
[viii] كان يُستحسن أن توفر الوثيقة مزيداً من الشفافية بشأن حسابات الديون. وقد حاولت عكس هندسة هذه الحسابات بنفسي. فمن خلال استخدام سوق القطع الأجنبي الوارد في الوثيقة وتوقعات النمو، ولو افترضنا وجود 10 مليارات دولار كدين إضافي جديد (صندوق النقد الدولي وآخرون)، توصلت إلى تخفيض في قيمة الودائع بنسبة 75٪ من قيمة الدين الحالي.
[ix] إذا كان من شيء تعترف به الوثيقة، فهو احتمال أن تكون نقطة البداية للدين أعلى على الأرجح من النسبة المفترضة البالغة 103٪ من الناتج المحلي الإجمالي: سيتم تحييد دين القطاع العام الداخلي – بما في ذلك دين مؤسسة الضمان الاجتماعي- فضلاً عن أنّ فرضية إجراء تخفيض لقيمة الديون بالليرة اللبنانية بالسعر الموازي لسعر سندات اليورو غير واقعية لاسيما أن هذا الدين قد انخفض بشكل حاد وفعلي لدى تراجع قيمة العملة.

[x] أنظر، على سبيل المثال، المادة IV الأخيرة الصادرة عن صندوق النقد الدولي.
[xi] بدون الخوض في التفاصيل التي يستحقها هذا الموضوع، يمكن استكمال النهج التدرّجي عن طريق تقسيم القطاع المالي إلى مصارف “جيدة” ومصارف “سيئة”. يمكن للأولى أن تبدأ بخدمة الاقتصاد على الفور و”يموّلها” المودعون الصغار الذين يمكن الإفراج عن ودائعهم على الفور. أما الموجودات القديمة التي تعرضت للخسائر – بما في ذلك ما يُطالب به المصرف المركزي- فهي في المصارف “السيئة” وسيموّلها كبار المودعين. سيتم تجميد تلك الودائع حتى تتم إعادة رسملة البنك المركزي والانتهاء من عملية الدين الحكومية.

*المدير الإداري ورئيس الاستثمارات في الأسواق السيادية والناشئة (ألفا) في شركة لإدارة الأصول في نيويورك

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى