الدول الشرق أوسطية بين أزمة الشرعية و أزمتي كورونا والخنق الاقتصادي

تعيش الدول الشرق أوسطية منذ ما يزيد عن سبعة عقود تقلبات كثيرة في مسارها السياسي.وفيما تعرضت الدولة الوطنية في منطقة الشرق الأوسط كما هو الحال في العراق للغزو الأمريكي منذ العام 2003،ثم جاء دور إسقاط الدولة الوطنية السورية مع بداية ما يسمي “الربيع العربي”،باعتبارها أصبحت بدورها عائقاً أمام حركة رؤوس الأموال، وبالتالي عائقًا أيضًا أمام عملية الانتقال إلى اقتصاد السوق بالمعنى الرأسمالي الليبرالي .
وهاهي معظم الدول الشرق أوسطية أصابتها خلال الشهرين الأخيرين كارثتين،جائحة كورونا،والانهيار التاريخي لأسعار النفط،إذ تزامنت جائحة كورونا مع معضلة الاقتصاد في المنطقة بعد هبوط أسعار النفط إلى مستويات متدنية الشهر الماضي، بسبب زيادة في الإنتاج اقترنت مع تراجع في الطلب على مستوى العالم بسبب الإغلاقات.فسعر برميل النفط الذي كان قبل عام 67 دولارا،تراجع الشهر الماضي على مستوى العالم، حتى وصل في أمريكا لأول مرة تحت الصفر.فكيف ستواجه الدول الشرق الأوسطية استراتيجية الخنق الاقتصادي الأمريكية،التي سيكون لها أثر كارثي على المنطقة، إضافة لأزمتي جائحة كورونا وانهيار أسعار النفط ، اللتين تيصيبان الدول المنتجة للنفط والتي بدورها كانت مصدر مساعدات لبقية المنطقة.
الدولة الشرق أوسطية بين الإرهاب و أزمة الشرعية
في ظل زمن الحركات الجهادية المتطرفة ،تعيش الدولة الشرق أوسطية،لا سيما تلك التي وصلت فيها الحركة القومية العربية إلى السلطة ، تحت تأثير ظاهرة تفجر الدولة الشمولية ، والبنية القسرية وغير التوافقية، إذ تقوضت الدولة بعمق رأساً على عقب. ففي أثناء عدد من العقود رأت الحركات الجهادية المتشددة كثيراً في فرصها الإستراتيجية بالنسبة لعلاقة قوى غير مؤاتية دفعة واحدة يتسع إلى ما لا نهاية مجال الممكنات. فثمة تطلعات جديدة، كانت محبوسة أو غير معبّر عنها برزت، منفذة في تجسيد مشروعات سياسية ” الدولة الإسلامية”.
فالدول العربية الشرق أوسطية الجديدة وجدت نفسها إذن من جديد في مرمى لتنازع مزدوج يُمارس من جهة باسم القوى الديمقراطية التي تطالب بإعادة بناء الدولة الوطنية،ومن جهة أخرى باسم “الدولة الإسلامية ” أوسع. وبالتالي ثمة مشروعان يفضحان “الطابع الاصطناعي” واللاشرعية في الدولة الشرق أوسطية ، يمزقانها بين خطر التجزئة وخطر الاتحاد في كيانات أوسع. ومن المعروف أنَّ مشروع “الدولة الإسلامية ” –”داعش” ،على الرغم من إخفاقات عديدة في محاولات التوحيد لم يكف أبداً عن التسلط على عدد من الحركات الجهادية .
ومن المفارقة أنَّ الأقليات العرقية ـ الدينية تمثل اليوم أصلب المؤيدين لهذه الدول العربية التي أُنشئت على أنقاض أحلامها في تحقيق الوحدة العربية لأنها ترى في هذه البُنى، إذا ما استبعدت ذات مرة، أفضل حاجز في وجه أمواج تنظيم “الدولة الإسلامية “-“داعش” التي تدفع من الداخل أو من الخارج إلى إنشاءدولة أوسع، حتى العناصر الأقلية التي تعترض على الشكل الاتحادي للدولة وتكون على حدود الانفصالية كالزعماء الأكراد العراقيين وهم في حالة السلطة المستقلة ذاتيا ، قد حرصوا دائماً على المعارضة سياسياً على انصهار الدولة بمثيلاتها أو جاراتها العربيات.
الدولة الشرق أوسطية العربية التي تروج لها بعض التوصيفات أنها “الدولة القومية” أو “الدولة الوطنية الحديثة” هي حالة تعبر في الصورة العامة عن رهانات ورغبات أيديولوجية، أكثر مما تعبر عن حقائق واقع هذه الدولة القطرية ذاتها ،التي تبقى نشأتها التاريخية مختلفة جذرياً عن السياق التاريخي – السياسي الذي نشأت فيه الدولة القومية الغربية،أي الدولة-الأمة،ولأنها أيضا ظلت بعيدة كل البعد عن الفتح البورجوازي الحديث. بل لأنها تجهل كلياً هذا الفتح البورجوازي المسمى بالحداثة السياسية والثقافية، التي تقوم على ركيزتين اساسيتين هما: الديموقراطية السياسية الحديثة، والعلمانية والعقلانية.
فالمظهر الخارجي الحديث للدولة الشرق أوسطية العربية كان يخفي واقعاً داخلياً ذي بنية تقليدية ومتخلفة من حيث الجوهر،تهيمن فيها ايديولوجية تقليدية،لا تزال ترى الى السياسة باعتبارها شأنا من شؤون شخص الحاكم أوالزعيم أوالقائد الملهم،الذي يستمد مبدأه وفعاليته من الواجهة المؤسسية لسلطة بيروقراطية الدولة، ونظام الحزب الواحد،وإيديولوجية بيروقراطية الدولة، التي تفهم وتمارس السياسة في بعدها التقني البراغماتي وترفض منطق الصراع الفكري، والجدل الثقافي والمعرفي، وتعمل على إخضاع تنظيمات المجتمع المدني لمنطق هيمنة أجهزة الدولة التسلطية.
ولا يزال الفكر السياسي العربي بكل تلاوينه لا يميز بين الفكر القومي،والايديولوجية القومية ،والأحزاب والحركات القومية التي تتبنى إيديولوجية قومية،والتي وصلت إلى السلطة،ويحمل مسؤولية وأزمة الأوضاع الراهنة المزرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية في الوطن العربي إلى الفكر القومي العروبي الوحدوي، بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك حين يعتبر أن الهزيمة التي منيت بها الأمة العربية هي هزيمة الفكر القومي. يقينا أن هزيمة الأمة العربية اليوم هي هزيمة تشمل الأفراد والجماعات، والطبقات، والأحزاب السياسية على إختلاف مرجعياتها الايديولوجية، والحركة القومية العربية لأنها لم تكن ديموقراطية، حيث يمثل إخفاقها وعجزها عن تحقيق أطروحاتها في الوحدة والنهضة العربية – على رغم التأييد الأدبي والسياسي للجماهير الشعبية العربية لها – إخفاقاً تاريخياً عادلاً.
لكن الذي يتحمل وزر هذا الإخفاق التاريخي والهزيمة السياسية للأمة ليس الفكر القومي العروبي ولا المشروع القومي،وإنما الحركة القومية، الذي يعتبر انهيارها وهزيمتها هي ذاتها هزيمة المجتمع المدني وضموره، وتهميش الشعب ،وإخراجه من السياسة،وتسيد الدولة القطرية التسلطية،التي حطمت كل المبادئ والنماذج الثابتة في الوجدان الاجتماعي (الديموقراطية، الرابطة القومية، التنمية بشروطها الوطنية والقومية) إشباعاً لنزواتها وخدمة لذاتها… فالدولة القطرية إذن هي التي تتحمل وزر هذه الأوضاع لأنها أدارت ظهرها للإيديولوجية القومية ولايديولوجيا الإسلام فصنعت لنفسها ايديولوجيا منغلقة متأخرة أوصلت الأقطار إلى حالة البؤس.
وكانت هذه الدولة القطرية التي اضطلعت بتطبـــيق مشروعها التحديثي في نطاق علاقته بالمجتمع التقليدي الــذي دمرت الرأسمالية الكولونيالية توازنه العرضي الذي كان سائداً، أصبحت في الوقت عينه العنصر التكويني الرئيس للعلاقات الرأسمالية وكونها، “العلاقات الرأسمالية”، باعتبارها دولة كانت تبحث دائماً عن ممارسة سياسة وسط معينة بين النموذج الليبرالي ونموذج رأسمالية الدولة ، و كانت تجسد رأسمالية الدولة التابعة للمراكز الرأسمالية الغربية بامتياز . لكن بعد تضخم هيمنة الدولة على المجتمع المدني وصولا إلى تدويله، و إلغاء دور القوى الاجتماعية والشعب على صعيد إنتاج السياسة في المجتمع ، انبثقت الدولة البيروقراطية التسلطية الحديثة، وامتلكت ناصية الاستبداد المحدث، من “مصادر الاستبداد التقليدي باحتكار الحكم مركز السلطة” من ناحية، ومن خلال “احتكار مصادر القوة والسلطة في المجتمع” عبر اختراق المجتمع المدني على مختلف مستوياته ومؤسساته، و “بقرطة” الاقتصاد إما خلال توسعة القطاع العام، وإما بإحكام السيطرة عليه فالتشريع و اللوائح (أي رأسمالية الدولة التابعة) وكون شرعية نظام الحكم تقوم على القهر من خلال ممارسة الدولة للعنف المنظم ضد المواطنين من ناحية اخرى.
وتكمن خصوصية التحديث في الدولة القطرية العربية في انفصاله الكلي عن المسألة الديموقراطية، والحداثة السياسية، سواء في مفهومها الليبرالي الغربي المتعلق بإحلال مفهوم المواطنة، والإعتراف بسلطة الفرد الحر المسؤول، و بناء المؤسسات السياسية والدستورية التمثيلية، وما تقتضيه من إحلال قيم المشاركة السياسية من جانب الشعب في الشأن العام، بما في ذلك حق الانتخاب وحق الرقابة على مؤسسات الدولة وعلى رجال الدولة باعتبارهم وكلاء المصلحة العامة، أم ببعدها المتعلق بالتوزيع العادل للثروة الوطنية وتوحيد التنمية وفق اختيارات اقتصادية اجتماعية تخدم مصالح الطبقات والفئات الشعبية.
إنَّ ظهور تنظيمات “القاعدة”و “داعش” يؤكد على الفشل التاريخي للدولة الشرق أوسطية نموذج الدولة والايديولوجية القومية، وانتشار ظاهرة الشعبوية وانعدام تقاليد الحوار الديموقراطي في ظل تغييب كامل للديموقراطية من جانب الدولة التسلطية، التي حلّت سلطة الرئيس أو الزعيم أو القائد العام للحزب الواحد ، أو الحزب الواحد في أعماق نفسية المجتمع العربي محل المذهب الواحد او الدين الواحد، الذي لم يكن يسمح بما عداها، و انفصال الدولة القطرية عن المجتمع الذي هو أبرز مظهر من مظاهر الدولة الاستبدادية، والهزائم المتلاحقة التي منيت بها الأمة العربية، وإخفاق المشروع النهضوي العربي ، شكلت جميعها الأرضية الخصبة، والأسباب الرئيسية للعودة الضخمة والصارخة للعامل الديني، والاستخدام الشديد السياسي والاجتماعي والثقافي لهذا الإرهاب من جانب الحركات الجهادية المتطرفة التي تطلق على نفسها اسم “الدولة الاسلامية” باعتبارها أحد إفرازات الهزيمة المذلة للدولة العربية أمام المشروع الاميركي-الصهيوني من جهة، وأمام همجية الإستبداد من جانب الدولة التسلطية من جهة أخرى.
لقد أسهم مخطط الولايات المتحدة الأمريكية و الدول الأوروبية ،والكيان الصهيوني، وتركيا والدول الخليجية، بشكل كبير في إطلاق عملية زعزعة الاستقرار، وتدمير الدول الوطنية، من خلال توظيف الحركات الدينية الأصولية في المعركة الأولى ضدّ الأنظمة الشيوعية والاشتراكية في الكتلة الشرقية والعالم الثالث على حدٍّ سواء. ثم من خلال المراهنة في المعركة الثانية ضدّ الدولة الوطنية في سائر الشرق الأوسط، وشمال إفريقياعلى تيارات الإسلام السياسي و الحركات الجهادية التي ترفع شعار العودة إلى الدين وتعتمده أداة من أدوات المعركة، لكنّه شعار مخادع، كبديل للدولة الوطنية السورية،بعد القبول بمنطق تقسيمها، و إنتاج خريطة “وستفالية”جديدة للدولة في سورية على أسس مذهبية وعرقية، والعودة الحقيقية إلى البنى التقليدية التي كانت تستند في جزءٍ كبيرٍ منها إلى الشرعية الدينية، وقد انهارت من دون رجعة.
أية تسوية سياسية تحتاجها سورية في ضوء تطبيق قانون “قيصر” الأمريكي؟
بداية لا بد من التأكيد أن سورية أصبحت متموضعة على خريطة اقتسام الأدوار بين القوى الإقليمية والدولية الكبرى ،وباتت سورية تقع في بؤرة الصراع بين القوى الإقليمية والدولية، لا سيما بعد الإنخراط الروسي العسكري في سورية، والذي ينطلق من حسابات الأمن القومي الروسي في ظل تنامي الحركات الإرهابية في منطقة الشرق الأوسط،ومن مقتضيات المواجهة بين روسيا وحلف الناتو على خلفية الأزمة الأوكرانية، وما تتطلع إليه موسكو من استعادة روسيا مكانتهاكقوة كبرى فاعلة ومؤثرة في الأزمة السورية، في سبيل تحويل النظام الدولي من الأحادية القطبية، التي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأميركية، إلى نظام دولي تعددي تلعب فيه روسيا وعدد من القوى الإقليمية الصاعدة دورًا محوريًا و موازيًا للدور الأميركي.
كما انتقلت الإستراتيجية الأميركية في إدارة الصراعات الإقليمية في كل من العراق وسورية إلى تأسيس نمط من تقسيم المنطقة على أسس طائفية ومذهبية وعرقية بين كيانات متناحرة ، يستنزف بعضها بعضا،ولا يمكن لأي منها الانتصار أو الهيمنة، بما يخفض أي تهديد بالنسبة للكيان الصهيوني.غير أنّه في ظل هزيمة هذا المخطط الأميركي –الصهيوني لإسقاط الدولة الوطنية السورية، وتحقيق مشهد التقسيم لسورية، بالاعتماد على القوى الطائفية والمذهبية الذي ثبت أنّ خطر التطرف الذي تفرزه بات يصيب بنيران الإرهاب مختلف بقاع الأرض بلا استثناء، ويُهَدِّدُ بصعود تيارات يمينية فاشية ، في الدول الغربية الأوروبية والأميركية،أصبحت المعضلة الرئيسية التي تتجلى أمام الولايات المتحدة الأميركية تتمثل في بناء نظام أمني تعددي، يخضع في الوقت عينه لإدارة أميركية معقدة ومتوازنة،ولكن الخلافات المتكررة بين الموقف الروسي من الأزمة السورية والمخطط الأميركي في سورية، يطرح إشكالية حقيقية حول إمكانية نجاح الولايات المتحدة الأميركية في مثل هذا النظام الأمني، خاصة في ظل طموحات روسيا لبناء نظام دولي تعددي.
لقد نجحت روسيا في السنوات القليلة المنصرمة من الأزمة والحرب في سورية، في بناء التوازن الاستراتيجي مع الغرب أو الدول الغربية وحلف شمال الأطلسي في سورية، وبالتالي إعادة بناء التوازن الدولي بكامله، أو لنقل توازن القوى في النظام الدولي، بعدما اختل ميزان القوى الدولية لمصلحة واشنطن وحلفائها في الغرب، في أميركا وأوروبا، وفي العالم بأسره، كما تمكنت من منع أو ربما لجم التدخل العسكري الغربي، المباشر والكبير، في الأحداث أو المعارك السورية. كما تمكنت الدولة الروسية من ضرب الإرهاب الدولي،لا سيما الإرهاب الإسلامي أو التكفيري، في إطار الاستراتيجية التي أطلقتها لمحاربته بقصد مكافحته، ليس من داخل الدولة السورية وعلى امتداد مساحة إقليمها ومجالها الجغرافي فحسب، وإنما في أنحاء عدة وفي أماكن مختلفة من خارطة المنطقة والجغرافيا السياسية العالمية.
وتمكنت روسيا كذلك من المحافظة، حتى اليوم ،على وحدة الدولة الوطنية السورية وضمانها ومنع التقسيم أو الفدرلة، ومعها في ذلك حلفاؤها وأصدقاؤها بطبيعة الحال، على الرغم مما يقال وما يحصل في الميدان، ناهيك عن فرض خطوط حمراء في سورية، وتأمين الالتزام بها أو عدم تجاوزها وتخطيها،لا سيما في مجال بقاء واستمرار السلطة السياسية التي يجسدها الرئيس بشار الأسد، وما تمثله على المستويين الداخلي والخارجي، ذلك أن نظام الحكم السياسي في سورية لم يعد هو نفسه بعد كل هذه المستجدات.
مع بداية شهر يونيو/حزيران 2020، يدخل قانون “قيصر”الأمريكي ، أو قانون “سيزر”، الهادف إلى خنق الدولة الوطنية السورية اقتصاديًا و ماليًا، حيّز التنفيذ، بعد إقراره في الكونغرس الأمريكي بصيغته النهاية،وتوقيع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عليه نهاية العام2019. وتهدف الإمبريالية الأمريكية من خلال تطبيق هذا القانون إخضاع و إرغام النظام في سورية للتسوية السياسية وفق تقديراتها.
وتعقيباً على ذلك، لمحت المتحدثة الإقليمية باسم وزارة الخارجية الأمريكية، جيرالدين غريفيث، في حديثٍ لـ”العربي الجديد”بتاريخ 11مايو/آيار 2020، وفي هذا الإطار، أوضحت المتحدثة الأميركية أن “قانون قيصر يضمّ عدداً من البنود الرئيسية التي تفرض عقوبات على النظام السوري وحلفائه، من خلال معاقبة أولئك الذين يساعدونه في الحصول على السلع والخدمات والتقنيات غير العسكرية التي تستخدم لتعزيز قدراته العسكرية”. وحذّرت غريفيث من أنه “إذا سعت أي حكومة إلى المصالحة مع الأسد، فإن العقوبات الإلزامية الأمريكية سوف تشكّل مخاطر شديدة لأي من شركاتها، التي قد تفكّر في المشاركة في إعادة الإعمار أو مشاريع أخرى مع هذا النظام”. ولفتت إلى أن القانون “ينصّ على عقوبات وقيودٍ على السفر لمن يقدمون العون لأعضاء نظام الأسد وداعميه السوريين والدوليين، سواء أكانوا من المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في سورية، أو المتواطئين معهم على ارتكابها”.
ورداً على سؤال يتعلق بخيارات واشنطن في حال تجاوز النظام حدود القانون والحصار الذي سيفرضه عليه، في ما إذا كان من بينها خيارات عسكرية، أو تنفيذ ضربات ردعٍ خاطفة، كما فعلت واشنطن في السابق، أشارت المتحدثة الأمريكية إلى أن “الإدارة الأمريكية الحالية حشدت الإجماع الدولي الداعم لسياسة الولايات المتحدة المتعلّقة بضرورة التوصّل إلى حلّ سياسي سلمي للصراع السوري، بما يتماشى مع قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2254. وشاركنا في المفاوضات الناجحة التي أدّت إلى إنشاء اللجنة الدستورية السورية في جنيف، وعملنا مع شركائنا في المجموعة المصغّرة حول سورية على محاسبة النظام على انتهاكه لحقوق الإنسان، ورفعنا من جهودنا لمحاسبة نظام الأسد، ووثّقنا استمرار استخدام النظام للأسلحة الكيميائية، كما واصلنا تنفيذ العقوبات على نظام الأسد ومموليه أشدّ من أي وقت مضى، في سعيٍ لمتابعة الضغط عليه لوقف انتهاكاته لحقوق الإنسان”.
ويبقى الأمل في أن تدرك السلطة والمعارضة السورية ،أن المطلوب بإلحاح للتخلص من الأصولية والإرهاب،هواعتماد خيارإعادة بناء الدولة الوطنية ،من خلال التأكيد على أنّ سورية بصدد مشروع للتسوية السياسية ،وليس إنهاء للصراع،والتي يمكن تعريفها،بأنها المرحلة التي يتم فيها التوافق على الحوار الوطني الشامل في العاصمة السورية دمشق،الذي يضم مختلف مكونات الشعب السوري،ويتطابق مع ما نص عليه القرار 2254 من حيث التمثيل الشامل للسوريين،ويكون بين النخب السياسية الحاكمة بين وأطراف المعارضة،حول شكل الدولة،وطبيعة نظام الحكم، والنظام الانتخابي،ويتم وضع دستورللبلاد ،حيث أنّ الصراع أصبح معقدًا،بشكل يصعب حله بشكل جذري و نهائي ،لا سيما في ضوء التدخلات الإقليمية والدولية،وتعدد المجموعات الإرهابية.
فالتسوية الحقيقية الصالحة للبقاء لها شروط، أولها أن تجسد موازين القوى على الأرض ، مما يعني بدوره أن تكون تلك الموازين دافعة نحو اقتناع السلطة و المعارضة بضرورة التسوية،أو على الأقل بعدم ممانعتها. و الشرط الثاني، ألا تتعارض التسوية مع أهداف ومصالح الدول القادرة على منعها، أو إفشالها، ليس فقط آنيًا، و إنما أيضًا مستقبلاً، ولو إلى مدى زمني محدد.
أزمة الدولة السعودية في ضوء حرب النفط وجائحة كورونا
أصاب الثنائي جائحة كورونا و انهيار أسعار النفط الدولة السعودية في الصميم، إذْ إنَّ الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها السعودية دفعتها إلى تأجيل خططها الطموحة للحدِّ من الاعتماد على النفط وتنويع مصادر الدخل.فمن تداعيات جائحة كورونا ، تم إفراغ في السعودية التي فيها أقدس حرمين للمسلمين المسجد الحرام من المصلين، بعد أن علقت السعودية الحج والعمرة في آذار/ مارس 2020، وهي العبادات التي لم تنقطع في الحرم  منذ حملة نابليون على مصر عام 1798.وفي هذا السياق اختبأت العائلة المالكة السعودية منذ أن أصيب حوالي 150 من أمرائها وأميراتها، فالملك سلمان في عزلة على جزيرة في البحر الأحمر بالقرب من جدة، بينما ذهب ولي العهد الطموح محمد بن سلمان هو وحاشيته إلى المدينة المستقبلية.
وأصبح البقاء أهم من أشد الصراعات الإقليمية، حيث أعلنت السعودية وقفا لإطلاق النار في اليمن وأبدت رغبة في إنهاء الحرب.فأزمة كورونا مهدت الطريق أمام الشرق الأوسط ليصبح أكثر تقلبا، فحوالي 60% من السكان تحت سن الثلاثين وهو ما قد يؤثر على أعداد الناجين من الجائحة.
وفيما يتعلق بتداعيات انهيار أسعار النفط على المملكة السعودية، أشارت صحيفة “فزغلياد” الروسية تاريخ 13مايو/آيار2020،إلى أنَّ انهيار أسعار النفط وحالة الإغلاق الكلي جراء تفشي فيروس كورونا، أجبر السعودية على اتخاذ إجراءات تقشف، وزيادة ضريبة القيمة المضافة ثلاث مرات، في بلد لم يكن قبل عامين من الآن يعرف ما هي هذه الضريبة بالأساس، حيث تم اعتمادها رسميا في 2018.
وكانت إصلاحات 2018 جزءًا من رؤية 2030 للتطوير الاقتصادي التي أطلقها ولي العهد السعودي قبل أربع سنوات.وقد وعد الأمير محمد بن سلمان حينها بأن بلاده يمكنها أن تعيش دون نفط بحلول عام 2020، وأنها لن تهتم مستقبلا بأسعاره.وبحسب وسائل إعلام أجنبية، تشكل عائدات النفط حوالي 90 بالمئة من ميزانية المملكة العربية السعودية، وليس 70 في المئة مثلما تروج الحكومة السعودية. وللمقارنة، لا تتجاوز عائدات النفط والغاز في روسيا نصف الميزانية. فخطة السعودية رؤية 2030 لتحديث وتنويع الاقتصاد السعودي التي نادى بها ولي العهد السعودي، لم تعد تكلفتها مقبولة، على الأقل حسب ما يبدو حاليا.
وأكدت الصحيفة أن إجراءات التقشف السعودية تشير بشكل واضح إلى أن اقتصاد البلاد في حالة كارثية. وبحسب وزارة المالية السعودية، فقد بلغ عجز الميزانية في الربع الأول من هذا العام تسعة مليارات دولار، وانخفضت عائدات النفط بنحو 25 في المئة مقارنة بالعام الماضي. وحسب الصحيفة، فإن المملكة لم تستطع التعامل مع عجز الميزانية منذ عام 2014، عندما حدث أول انهيار خطير في أسعار النفط. ومنذ ذلك الحين تراجعت إيرادات الدولة بشكل حاد، لكن السلطات واصلت الإنفاق بشكل كبير على أمل إعادة إنعاش الاقتصاد. ووفقا لوزارة المالية، في الفترة الفاصلة بين 2014 و2018، بلغ عجز الميزانية المتراكم 313 مليار دولار، وكان من المفترض أن تساعد إصلاحات عام 2018 في تحقيق التوازن في الميزانية بحلول عام 2023.
وميزانية 2020 للسعودية كانت مبنية على أن يكون سعر برميل النفط يساوي 80 دولارا،ودأبت المملكة على تحديد ميزانيتها على اعتبار أن سعر برميل النفط يتراوح بين 70 و80 دولارا، بينما في روسيا، تُحدد ميزانيتها على اعتبار أن سعر النفط لا يتجاوز 45 دولارا. وأصبحت السعودية الآن مضطرة لسحب 32 مليار دولار من احتياطيها من العملات الصعبة وأن تلجأ للقروض لسد الفجوة.
يقول الخبراء في الاقتصاد، لا يبدو أن اتفاقية خفض إنتاج النفط بحوالي عشرة ملايين برميل في اليوم ستساهم في حل الأزمة، ففي نيسان/ أبريل2020، قدرت وكالة الطاقة الدولية أن الطلب العالمي على النفط سيتراجع بحوالي 29 مليون برميل في اليوم. وسوف تخسر بذلك العراق وليبيا وإيران ودول الخليج مليارات الدولارات من الدخل.
نشر موقع “أويل برايس” مقالا للصحافي الاقتصادي سايمون واتكينز قال فيه إنه لم يسبق منذ أن استطاع ابن سعود إقامة المملكة العربية السعودية عام 1932 أن واجهت العائلة المالكة السعودية تهديدا وجوديا لاستمرارحكمها.فالوضع المالي اليوم للمملكة السعودية ، حسب وجهة نظر الكاتب ،أسوأ مما كانت عليه في نهاية محاولتها السابقة لتدمير صناعة النفط الحجري الأمريكية التي استمرت من 2014 إلى 2016.
ويقول الكاتب :”وقتها وصل حجم الاحتياطي من النقد الأجنبي إلى 737 مليار دولار في آب/ أغسطس 2014 مما سمح لها بالحفاظ على سعر الريال السعودي بالنسبة للدولار الأمريكي وتغطية العجز الكبير في الميزانية الذي يتسبب به انخفاض سعر النفط الناتج عن زيادة الإنتاج”.
وبالرغم من الظروف الإيجابية للسعودية خلال حرب أسعار النفط عام 2014-2016 ضد النفط الصخري الأمريكي، إلا أن الدول الأعضاء في أوبك خسرت مشتركة 450 مليار دولار من دخل النفط بسبب الأسعار المنخفضة، بحسب وكالة الطاقة الدولية.وانتقلت السعودية نفسها من فائض عن الميزانية إلى عجز قياسي عام 2015 وصل إلى مبلغ 98 مليار دولار وأنفقت أكثر من 250 مليار دولار من احتياطي العملات الاجنبية، حتى أن كبار المسؤولين السعوديين قالوا إنه “تم خسارتها إلى الأبد”.
ومن ناحية الحقائق الواقعية التي يتجاوزها المدافعون عن السعودية، فقد قام البنك المركزي السعودي في آذار/ مارس 2020بالسحب من موجوداته الأجنبية بأسرع معدل منذ عام 2000 على الأقل. ففي ذلك الشهر فقط، حتى بالنسبة للإحصائيات السعودية تراجع الاحتياطي الأجنبي للسعودية بأكثر من 100 مليار ريال سعودي (27 مليار دولار). وهذا تراجع بنسبة 5 بالمئة عن الشهر السابق. ووصل حجم الاحتياطي كاملا اليوم إلى 464 مليار دولار فقط، وهو الأقل منذ عام2011 .ولا يبقى سوى 164 مليار دولار يمكن استخدامها للضرورة بعد 300 مليار دولار تحتاجها السعودية لإبقاء سعر الريال مقابل الدولار ثابتا لتحقيق استقرار الاقتصاد.
 خاتمة:
إنَّ منطقة الشرق الأوسط لن تتغير كثيرًا بعد انجلاء هذه الجائحة كورونا المستجدة، لأنَّ التاريخ يتغيّر من داخله لا من خارجه، لكنَّ عودة شعوب الشرق الأوسط إلى الانعتاق في مشروع قومي ديمقراطي تحرري متصادم جذريًا مع المشروع الإمبريالي الأمريكي ، و المشروع الصهيوني ، ومواجهة الرجعية العربية المتمثلة بالأنظمة التسلطية، سيعبد عودتها إلى محور التاريخ ،لاعتبار أنّ الشعوب هُم صُنّاع مَساراته، بالسلب أم بالإيجاب، ضمن تحوّلٍ عن طريق الإصلاحات الديمقراطية وفق تسويات سياسية محددة، أو عن طريق ثورات جذرية، تسبقها ثورات فكرية وثقافية وسياسية.
فلا يُمكن الحديث عن إعادة بناء الدول الوطنية في منطقة الشرق الأوسط، وكبْح جَماح الاستغلال أو الحدّ من التفاوُت الاجتماعي، بفعْل تَوبةٍ مُباغِتةٍ للمُستغلِّين أو خشية جارِفة تُلِمّ بالمترَفين، فالقوى التسلطية في الداخل ، والقوى الإقليمية و الدولية لن تسمح للشعوب العربية بالتحرر. فقدلعبت الدول الإقليمية و الدولية في منطقة الشرق الأوسط ، أدواراً، بعضها معلن، والآخر خفي، ساعدت على زيادة التحديات أمام قوى إعادة البناء الدول الوطنية في الإقليم.
يستلزم نجاح محاولات إعادة البناء للدولة الوطنية في الشرق الأوسط مجموعة شروط على المستوى الداخلي، هي :حدوث توافق بين القوى الداخلية حول مبدأ إعادة البناء ذاته، وكذلك متطلباته، وكيفية تحقيقه، والاستعداد لتحمل تكلفته، ولن يتأتى ذلك إلا بعد إنهاء الصراع الداخلي على المستويين الفعلي والنفسي، أو الإجماع على ضرورة إنهاءه، على أقل تقدير،ومدى استقلال القوى الداخلية في مواجهة القوى الإقليمية والدولية. فكلما زادت درجة الاستقلال، استطاعت القوى الداخلية أن توجه عملية البناء لمصلحتها والعكس صحيح. وكشفت تجارب إعادة بناء الدولة في العراق وأفغانستان عن أن التوازنات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط هي العامل الأخطر في تحديد فرص نجاح إعادة البناء او فشله.
يظل الانتصار على الإرهاب في بعده الاستراتيجي مرهونًا بإعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية في إقليم الشرق الأوسط على أسس جديدة ،على أن تستثمر هذا الدولة الوطنية في العروبة بوصفها الخيار الأيديولوجي والمشروع الثقافي للأمة العربية في القرن الحادي والعشرين، والهوية الثقافية المميزة للعرب عن غيرهم من الأمم والشعوب، والهوية السياسية المؤسسة لسياسة ودولة فاعلة في النظام الدولي العالمي،عبر تبني المفاهيم القائمة على التعددية الفكرية والسياسية ،وفكرة المواطنة،وبناء دولة القانون،أي دولة المؤسسات الدستورية وإعادة تثمين الوطنية المحلية الدستورية ،والتأكيد على مرجعية احترام حقوق الإنسان،والحريات الشخصية والاعتقادية،والديمقراطية.
فالمشروع العربي الديمقراطي،هو الخيار العروبي الوحيد للدول العربية في إقليم الشرق الأوسط ، الذي من خلاله يمكن للشعوب العربية ،وسواهم ،أن يبنوا مستقبلهم السياسي والاقتصادي والثقافي،وأن يؤسسوا عبره وحدتهم الوطنية والقومية الحقيقية، بعيداً عن الانقسامات المذهبية والطائفية: سواء تمثلت في صعود الانقسامات المذهبية داخل الدين الواحد أو تنامي العصبيات الجماعية على أساس ديني بين أصحاب العقائد المختلفة. فالطائفية تعبر عن إخفاق السياسة القومية في بناء إطار تضامنات فعلية وطنية ما فوق طائفية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى