العودة إلى إحياء اتحاد المغرب العربي في زمن كورونا

مع ظهور وباء كورونا المستجد منذ أربعة أشهر،انكشفت عورات السياسات الاقتصادية للدول في بلدان المغرب العربي أمام شعوبها، بسبب عجزها عن توفير الإمدادات لمواطنيها من وسائل تُعد من بديهيات الوقاية الصحية والعلاجية، كالكمّامات وأجهزة التنفس الاصطناعي والملابس الواقية من الميكروبات ووسائل التطهير والمبيدات وغيرها.
ويرى خبراء اقتصاديون وسياسيون مغاربيون أنّ تداعيات جائحة كورونا ستفرض على الحكومات المغاربية انتهاج سياسات تقشف قاسية على مواطنيها، بعد أن تنتهي الصيغ الحالية للعولمة الليبرالية بكارثةٍ دولية،لا سيما أنّ الجائحة كورونا أعادت بعثرة المسلمات اليقينية حول الدولة القطرية المغاربية في علاقتها التبعية التقليدية مع دول الإتحاد الأوروبي،والولايات المتحدة الأمريكية،وتبنيها الفكرالليبيرالي والنيوليبرالي (العولمة) كنهج أساسي في الاقتصاد،في ظل أزمة اقتصادية عالمية متفاقمة، ووجهت ضربة قاصمة للعولمة الرأسمالية الليبرالية المتوحشة، الأمر الذي يطرح معه مراجعة مفاهيمية وا سعة، بما في ذلك مفهوم الدولة القطرية المغاربية ،والعودة إلى إحياء مشروع اتحاد المغرب العربي الكبير الذي سيمثل الجواب التاريخي الذي يمكن لهذه الدول المغاربية أن تقدمه لمواجهة تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية،بالاعتماد على مواردها ،وذلك على الرغم من العوائق التي تقف أمام هذا المشروع.
الاتحاد ضرورة تاريخية
يضم اتحاد المغرب العربي خمس دول(ليبيا،تونس،الجزائر،المغرب،موريتانيا)،تبلغ مساحتها الإجمالية حوالي 5.782.140 كلم مربعا،وهي تفوق مساحة الاتحاد الأوروبي،ويبلغ طول شريطها الساحلي المطل على المحيط الأطلسي والبحر المتوسط حوالي 6505 كلم.أما عدد سكان الدول المغاربية الخمس فقد بلغ حوالي 100 مليون نسمة، 30% منهم أقل من 15 سنة. وتزخر هذه المساحة الكبيرة بثروات طبيعية هائلة من نفط وغاز في ليبيا والجزائر وفوسفات وحديد وغيرها من المعادن في المغرب وموريتانيا وتونس.ثروات لا يزال معظمها تحت الأرض. وعلى الرغم من ذلك، ما زال شباب البلاد المغاربية يرمي بنفسه في المتوسط، على أمل الوصول إلى الضفة الشمالية لهذا البحر!
ويزيد من إعادة إحياء مشروع اتحاد المغرب العربي،أنَّ الاتحاد الأوروبي،ينظر إلى منطقة أوروبا الشرقية،بوصفها فضاءَ تَوَسُعِّهَ الطبيعي لديناميكيته الاقتصادية والتجارية التي تُمَكِّنُهَ من ضمان وسائل نجاحه في المنافسة الدولية مع التكتلات الإقتصادية العملاقة،أما منطقة المغرب العربي،فهو يريدها منطقة تابعة لنفوذه الجيواستراتيجي في البحر المتوسط عبر شراكات ثنائية مع بلدانه غير متكافئة، تَقِي رَفَاهِيَتَهُ من البؤس المادي والثقافي المتنامي في المغرب العربي الذي يعتبره خَزَانًا مُهِمًّا للهجرة غير الشرعية،و مَصَبًّا لخدماته وبضائعه بقصد تقوية هيمنته الإقتصادية، وبقصد توطيد هيمنته الثقافية.
و بالمقابل تعتبر فكرة بناء المغرب العربي كمشروع للوحدة جديدة حيث أنها ظهرت في وعي النخب المغاربية منذ أوائل القرن العشرين،بإعتبارها مصلحة ضرورية منطقية وتاريخية لمجموعة من العوامل المهمة لعل أبرزها:
*-ظهور الوعي القومي العربي في هذه المنطقة من العالم العربي منذ فجر النهضة العربية الأولى في أواخر القرن التاسع عشر،كنتيجة حتمية لوجود خصائص حضارية ثابتة موحدة بين شعوب المغرب العربي كاللغة،والدين،والتاريخ المشترك،والتراث،والمصير المشترك.
*- تَشَكُّلِ الأحزاب السياسية الوطنية وخوضها النضال الوطني التحرري ضد الإستعمار الفرنسي لنيل الإستقلال السياسي من جهة، ومن أجل الدفاع عن الهوية العربية الإسلامية لسكان هذا الإقليم رَدّاً على محاولات الفرنسيين زرع الفرنكوفونية وفصل المغرب العربي عن المشرق العربي من جهة أخرى.
*-وجود المطامح المشتركة لجهة إنشاء مستقبل مشترك وإنجاز نهضة عصرية.
تاريخيًا،وغداة استقلال تونس والمغرب، فيما كانت الثورة الجزائرية تُقَارِعُ الاستعمار الفرنسي طُرِحَتْ مسألة بناء وحدة المغرب العربي على الصعيد الفكري والإيديولوجي والسياسي، وذلك في مؤتمر طنجة في 26 نيسان/أفريل 1958،الذي جمع ممثلي الأحزاب الوطنية آنذاك (الإستقلال المغربي، جبهة التحرير الوطني الجزائرية، وحزب الدستور الجديد التونسي).
وهكذا،فإنَّ فكرةَ بناء المغرب العربي طُرِحَتْ ضمن سياق مرحلة الكفاح ضد الإستعمار الفرنسي من ناحيةٍ،وضمن سياقِ مرحلةِ ما بعد الإستقلال (1956-1975) التي هَيْمَنَتْ فيها “إيديولوجية النمو “أوْ بِالْأَحْرَى المشروع البرجوازي الوطني لباندونغ (نسبة إلى مؤتمر باندونغ الذي عقد في عام 1955) من ناحية أخرى.
ولما كانت أحزاب حركة التحرر الوطني في المغرب العربي تَتَحَكَّمُ فيها إيديولوجيات متناقضة، حيث تَبَنَّتْ بعضها الإيديولوجيا الإشتراكية على اختلافِ مُسَمِّيَاتِهَا، فيما تَبّنَّى البعض الآخر الانحياز لمنطق وإيديولوجية الرأسمالية الغربية، فإنَّ هذه التناقضات السياسية والإيديولوجية عينها المستحكمة في وعي النخب المغاربية شكلتْ مُعَوِقَاتٍ كبيرة لجهة بناء المغرب العربي، الأمر الذي جعل النخب المغاربية تنحاز إلى الخيار القطري كخيار إستراتيجي في بناء الدولة الوطنية.
ثم في 17 فبراير/ شباط 1989، التقى الرؤساء الخمسة في قمة مغاربية في مراكش، حيث تمَّ التوقيع على معاهدة إنشاء اتحاد المغرب العربي، تجسيدا لتطلعات الشعوب المغاربية في “إقامة اتحاد بينها يعزّز ما يربطها من علاقات، ويتيح لها السبل الملائمة لتسير تدريجيا نحو تحقيق اندماج أشمل فيما بينها”. وفتحت تلك القمة التأسيسية مجالا لإبرام حوالي 37 معاهدة، تتعلق بمجالات مختلفة، وتكرس إنشاء سوق مغاربية، واتحاد جمركي، وإلغاءً للحواجز، وفتحا للحدود للأفراد والبضائع،كما تم الشروع في إنشاء هياكل مغاربية تعنى بالاقتصاد والمال والتعليم.. إلخ.وظلت أغلب هذه الاتفاقات حبرًا على ورق،وتم تجميد الهياكل المغاربية المرتبطة أساسًا بمجلس الرئاسة الذي لم يُعقد منذ 1994، علما أنه الهيئة العليا الوحيدة التي تمتلك حق القرار.
وأمام إخفاق مؤسسات اتحاد المغرب العربي الذي تَشَكَّلَ عقب معاهدة مراكش في 17 فبراير/شباط 1989،لأسبابٍ عديدةٍ ومتنوعةٍ، منها الخلافات السياسية والإيديولوجية والجيواقتصادية بين مختلف مُكَوِّنَاتِ المغرب العربي،ومنها إنفجار الأزمة الجزائرية وإسقاطاتها المدمرة، والحظر الجوي الذي فُرِضَ على ليبيا من طرف النظام الدولي الجديد بإيعازٍ قويٍ من الولايات المتحدة لعزلها عن باقي العالم في عام 1992،وعَجْزِ اتحاد المغرب العربي عن تقديمِ مشروعٍ يُحَدِّدُ سياسة مشتركة أو متبادلة بين الدول حول موضوع الشراكة مع دول الاتحاد الأوروبي،وَضَعَتْ مجموعة بروكسل استراتيجيتها للتعاون مع الدول المغاربية على أساس التعاون الثنائي.وكانت اتفاقيات الشراكة الموقعة مع تونس والمغرب، ثم لاحقًا مع الجزائرقد تَمَّ التفاوض عليها كل على حدَّةٍ،ولم يَحْدُثْ أيَّ تشاورٍ أو تنسيقٍ بهذا الشأنِ بين الأطراف المغاربية.
آراء النخب في العودة لإحياء اتحاد المغرب العربي
يرى أستاذ القانون الدولي في جامعة تونس، عبد المجيد العبدلي، في حديثٍ لـصحيفة العربي “العربي الجديد” بتاريخ 29أبريل/نيسان 2020،أنَّ مشروع المغرب العربي، لطالما اعتبر ولا يزال، الحلّ الأفضل لهذه الدول، فقط إذا سارت التجربة في الطريق الصحيح. فخلال الأزمات، على حدّ قوله، تبرز دائماً الحاجة إلى الوحدة وتضافر الجهود، لافتاً في الوقت ذاته إلى أن “العوائق (أمام إحياء المشروع) لا تزال موجودة، ومنها مشكلة الصحراء والأزمة الليبية، كما أن العلاقة بين أهم دولتين في المشروع، المغرب والجزائر، لا تزال شبه مقطوعة”.
وفيما يشير العبدلي إلى أنَّ الحدود بين البلدان الأربعة مغلقةٌ اليوم في ظلّ أزمة كورونا، يرى أن أيّ دعوة لإحياء اتحاد المغرب العربي “يجب أن تقترن بالواقع، وتمرّ إلى مرحلة التطبيق”، معتبراً أنه “لا بدّ من توفر الإرادة السياسية لإحياء مشروع المغرب العربي الكبير، فالنوايا طبية، لكنَّ الإرادة غائبة”.
ومفصلاً العوائق، يلحظ الخبير القانوني التونسي،أنَّ الوضع في ليبيا حالياً لا يسمح بإحياء المشروع، كما أن دولة موريتانيا ضعيفة ومنزوية جغرافياً.وإذْ يشير إلى أنَّ “الفكرة والمشروع جيدان”، إلا أنَّهُ “يجب المرور إلى الفعل، لكِنَّ باستثناء بعض اللقاءات والاجتماعات التي تُبرز في كل مرَّة هذا الطرح، وتعيده إلى السطح، إلا أنه سرعان ما يخمد، فيجري دفن المشروع”، معتبرًا أنَّ “المحرك الأساسي في هذه التجربة هما الجزائر والمغرب، فإذا صدقت النوايا بينهما، يمكن لعجلة المشروع أن تدور مجدداً، وللتجربة أن تبرز”. وبرأيه، فإنَّ “أزمة كورونا كشفت أنَّ كلّ دولة تحاول العمل بمفردها بحثاً عن مصلحتها، مثلما يحصل في الاتحاد الأوروبي، لكن لا بد من التفكير مستقبلاً في آليات لعلاقات إقليمية ودولية جديدة”.
من جهته، يعتبر وزير الخارجية والدبلوماسي التونسي السابق، أحمد ونيس، أنَّ “إحياء المغرب العربي الكبير في مثل هذا الظرف مسألة مهمة جداً، نظرًا لأن الجزائر تعيش مرحلة جديدة، وهي تقريباً بصدد طيّ صفحة الماضي، خصوصاً في ما يتعلق بنتائج السياسات الخاطئة التي اتبعتها، والتي عطّلت المشروع وخلقت عداوات مع المحيط، وتحديداً مع المغرب”، مبيناً أنَّ “بوادر الربيع العربي في الجزائر حملت وعياً جديداً، وفكراً أعمق في الانتساب إلى الديمقراطية والانفتاح على الآخر”.
أمَّا بالنسبة للحرب في ليبيا، فبرأي ونيس أنَّها “لن تنتهي إلا في نطاق المغرب الكبير،لأنَّ المصير مشترك، فمثلما عاشت هذه البلدان أوضاعاً صعبة وأزمات وتحررت من الاستعمار والاستبداد، فإنَّه يُمْكِنُهَا إنجاح مشروع المغرب العربي الكبير”، معتبرًا أنَّ الليبيين إذا ما وجدوا الأرضية المغاربية مهيأة، فإنَّهُمْ سيقدمون تنازلات من أجل إنهاء أزمتهم، التي يبدو أنَّ حلّها لن يكون إلا ضمن قمة مغاربية تبحث المصير المشترك لبلدان المغرب العربي”.ويشدد الدبلوماسي التونسي على “ضرورة تعديل الميزان الجيواستراتيجي في المحيط المغاربي بوجود دولة قوية في الشرق وأخرى في الغرب، فالطاقات الفكرية يمكن أن تتحد، ويمكن لبلدان المغرب العربي العمل ضمن وطنٍ كبير بدل التجزئة”.
وأكَّدَ رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية والدبلوماسية، وزير الخارجية التونسي الأسبق، رفيق عبد السلام، أنّ تجربة المغرب الكبير “قد تشهد تطوراً في ظلّ الضغط من المؤسسات المغاربية والرأي العام لإحياء الاتحاد، وتجاوز الانقسامات الحاصلة”. وشدّد في الوقت ذاته على “وجود مشاكل مزمنة في تجربة المغرب العربي الكبير لم تُحل بين دوله، لكن القضايا الخلافية يمكن وضعها جانباً، ليتمّ الاتجاه نحو تعميق المصالح الاقتصادية والتكامل بين شعوب المنطقة بخلفية عملية أكثر، وتعزيز المصالح والمنافع المشتركة بين البلدان المغاربية”، معتبراً أن أزمة كورونا “ستدفع في هذا الاتجاه”.
المعوقات السياسية لتعثر بناء الاتحاد المغاربي
إنَّ الاسْتِعْصَاءَ في بناء الاتحاد المغاربي، هو الذي يحملنا على معاودة طرح مجمل الأسئلة الحاسمة التي استقطبتْ و لا تزال اهتمام النخب المغاربية،ألا وهي، لماذا بقي اتحاد المغرب العربي يراوح مكانه منذ حوالي أكثرعقدين من الزمن؟هل يُعْزَى التعثّروالركود الذي شهده العمل المغاربي المشترك إلى الأزمات السياسية الظرفية التي عرفتها المنطقة خلال عقد التسعينيات من القرن العشرين،وإلى الخلاف الجزائري- المغربي المزمن حول قضية الصحراء،أم يُعْزَى إلى طبيعة الإشكاليات التي تواجهها اقتصاديات و مجتمعات بلدان المغرب العربي،والتي لم تكن لتسمح لها بإقامة منطقة للتبادل الحرّ،فضلاً عن إقامة سوق سوق مغاربية مشتركة؟ولماذا أخفقت المبادرات و المساعي التي بُذِلَتْ منذ تَعَطُلِ مسيرة الاتحاد(1995)على الآن في حَلْحَلَةِ الْوَضْعِ؟ و لماذا لا تحفزّ المعضلات الاقتصادية،والتضخم المفجع في حجم المديونية،واتساع الفجوة الغذائية،واستفحال ظاهرة البطالة،التي تعاني منها المجموعة المغاربية ودوائر صنع القرار،على العودة إلى الرشد؟ ولماذا نحجت بعض البلدان المغاربية والعربية في إبرام اتفاقيات شراكة مع الاتحاد الأوروبي لإقامة منطقة “أورو –متوسطية” للتبادل الحرّ،في حين أخفقتْ، إلى حدِّ الآن،في إقامة منطقة مماثلة على الصعيد المغاربي، أو على صعيد المنطقة العربية، منطقة يخضع إنجازها لأجندة واضحة وملزمة على غرار المنطقة الأورو-المتوسطية؟
منذ الانقلاب العسكري الذي حصل في الجزائر مع بداية يناير/كانون الثاني 1992 بعد فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ،وتدخل الجيش لإلغاء الانتخابات التشريعية،وإرغام الرئيس السابق الشاذلي بن جديد على الاستقالة، دخلت الجزائر في مرحلة الصراع المدمر بين النظام والمعارضة الإسلامية الأصولية.وكان لهذا الوضع المأساوي المستمرفي الجزائر منذ عشر سنوات أثره الكبير في إبطاء وتيرة اجتماعات مجالس الرئاسة لاتحاد المغرب العربي،وهي مصدر القرار الرئيسي، وبالتالي في إبطاء مركبة الوحدة المغاربية.
وهكذا تعثر القطار المغاربي مع بداية الأزمة الجزائرية،وتفجر أزمة لوكربي بين ليبيا وكل من الولايات المتحدة وبريطانيا والتي تطورت إلى فرض عقوبات دولية على ليبيا في عام 1992، بسبب انكفاء الأنظمة على أنفسها لحل مشاكلها الداخلية، بدءًا من موريتانيا الغارقة في همومها السياسية والاقتصادية، مرورًا بالجزائر التي تواجه حربًا أهلية طاحنة،وانتهاء بليبيا التي تطاردها أزمة أزمة لوكربي، والمغرب الذي ينشغل بأمور منها قضية الصحراء وأثرها المباشر في احتدام صراع المحاور الإقليمية بين المغرب والجزائر والموقع الذي احتلته في استراتيجية التطويق والمحاصرة لدى كل من النظامين.
وشهدت بلدان المغرب العربي في النصف الأول من عقد التسعينيات توترات في علاقاتها.فالأزمة الجزائريةأسهمت في ترسيخ العلاقات بين النظامين التونسي والجزائري نظرًاللإلتقاء الموضوعي بينهما حول معالجة مسألة الإسلام السياسي،ولكنَّهَا كانت في الوقت عليه مصدرعودة جديدة للعلاقات المغاربية الجزائرية إلى نقطة البداية كما كانت عام 1975،عندما بادر المغرب بفرض التأشيرة على المواطنين الجزائريين إثر الإعتداء الذي حصل على أحد فنادق مراكش في أغسطس /أوت 1994. وكان رَدُّ الجزائرهو تطبيق الإجراء المماثل بل إقفال الحدود البرية بين البلدين. وقاد هذا الوضع إلى تجميدِ المغرب عضويته في الهيئات المغاربية في نهاية عام 1995،احْتِجَاجًاعلى ما اعتبره تدخلاً من الجزائر في نزاع الصحراء الغربية على نحو تتناقض مع الحياد المفترض من الدولة التي ترأس الاتحاد.
وكانت ليبيا رَفَضَتْ المشاركة في الاجتماعات الوزارية للاتحاد في العام 1994 بسبب ما اعتبرته تقصيرًا في إظهار التضامن معها بوجه العقوبات المسلطة عليها منذ العام 1992،إثر رفضها تسلم الرئاسة للاتحاد من الجزائر عام 1995، قبل رفع الحصار الظالم عنها.إنَّ الإنهاك والتعب اللَّذَيْنِ أصَابَا المجتمع الجزائري بسبب من تعمق أزمته الداخلية، وتدهور الوضع الأمني، أَلْقَيَا ظِلَالاً كثيفةً على مسيرة الاتحاد المغاربي، لجهة اضطرارالجزائر التي تتولى رئاسة الاتحاد منذ العام 1994 إلى الانكفاء على ذاتها لمعالجة أزمتها. والجزائر تظلُ قلب الجسد المغاربي، وأطرافه الأخرى موزعة بين المغرب وتونس وليبيا وموريتانيا،وعندما يكون القلب مريضًا، ينعكس كليًاعلى باقي الجسم. فأُصِيبَ الاتحاد المغاربي بِشَلَلٍ تامٍ وأصبحت هياكله خاويةً بلا دماء تتدفق في شرايينها.
إنَّ الخلاف الجزائري- المغربي حول قضية الصحراء خلافٌ مُزْمِنٌ،وقد حصل اتفاق ضمني بين القادة المغاربة، عند إنشاء الاتحاد على تحييد هذه المشكلة، خاصة بعد أن قبلت كل الأطراف المعنية بمخطط الأمم المتحدة لتسوية النزاع.
عادت العلاقات الدبلوماسية المغربية الجزائرية إلى دائرة التوتر،بعدما شهدت قمة مجموعة الاتصال لحركة عدم الانحياز،التي عقدت عن بعد يوم الإثنين 4مايو/آيار2020،مواجهة كلامية غير مباشرة بين الرئيس الجزائري عبدالمجيدتبون،ووزيرالخارجية المغربي،ناصربوريطة،بسبب موضوع الصحراء.
ودعا تبون، في كلمة له خلال القمة، مجلس الأمن الدولي إلى الاجتماع في أقرب الآجال واعتماد قرار ينادي من خلاله بصفة رسمية بالوقف الفوري لكل الأعمال العدائية عبر العالم، لا سيما في ليبيا، “من دون إغفال الأوضاع في الأراضي التي تعيش تحت الاحتلال، كما هو الحال في فلسطين والصحراء الغربية”، على حد قوله.
وفي السياق، اعتبر مدير”مركز الصحراء وأفريقيا للدراسات الاستراتيجية”،عبد الفتاح الفاتحي، في حديث لصحيفة العربي الجديد بتاريخ 6مايو/آيار2020أنّ “إقران الرئيس الجزائري نزاع الصحراء بالقضية الفلسطينية في ظرفية استثنائية هو تضليل وتدليس غايته تعطيل عمل حركة عدم الانحياز، في تجاذبات سياسية عقيمة”. ورأى أنّ “إشهار سيف الانفصال والعمل على زعزعة الاستقرار الإقليمي في ظرفية عصيبة هو أمر يجهز على أي أفق للتعاون البيني من أجل التصدي لفيروس كورونا، وفيه خرق مقصود للمبادئ المؤسسة لحركة عدم الانحياز”.وتابع الفاتحي أنّ “إقران نزاع الصحراء بالقضية الفلسطينية لن ينطلي على أحد، ذلك أنّ المنتظم الدولي لا يرى أبداً أي وجه للمقارنة بين القضيتين”.
وتُعَدُّ الأزمة الليبية من أبرزالتحدّيات الإقليمية التي تواجه إعادة إحياء اتحاد المغرب العربي، بسبب التدخل العسكري التركي المنحاز لحكومة الوفاق بقيادة فايزالسراج الذي وقع الاتفاقية الأمنية والعسكرية مع رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان في نهاية نوفمبر 2019،الأمر الذي سيكون له تداعيات وتهديدات حقيقية على دول الجوارالمغاربية،وفي مقدمتها الجزائر،بوصفهامن أكثر الدول المغاربية التي تواجه الإرهاب ومافيات تهريب السلاح و البشرفي منطقة الصحراء الكبرى. ومع تصاعد التطورات على الساحة الليبية وتداعياتها على دول الجوار، وما تمثله من تهديد لهذه الدول وشعوبها،فإنَّ مواقف هذه الدول تظل منفردة، متسمة بالعجز والاكتفاء بالمراقبة،في غياب موقف موحد ورؤية تنسيقية مفترضة من خلال الاتحاد المغاربي.
و السؤال الخطير الذي يَتَنَاسَلُ حتمًا عن هذه الحزمة من الأسئلة هو هل إِنَّ مشروعَ الاتحاد المغاربي مَشْرُوعٌ طُوبَاوِيٌ يتعذّر إنجازه شأنه شأن مشاريع الجامعة العربية،كمشروع بناء منطقة عربية حرّة، ومشروع السوق العربية المشتركة؟
المعوقات الاقتصادية لتعثّر بناء الاتحاد المغاربي
رغم إبرام العديد من الاتفاقيات الثنائية،ظلت التبادلات التجارية بين البلدان المغاربية ضعيفة جدًّا، وهي غير مستقرة، وغير منتظمة.إنَّها تابعة للتقلبات السياسية.وعندما تمَّ توقيع اتفاق اتحاد المغرب العربي في 17شباط/فبراير 1989،لم تتجاوزالعلاقات التجارية البينية نسبة3 في المئة،في حين أنَّه في أوروبا،عندما تمَّ توقيع معاهدة روما في عام 1957،كانت المبادلات التجارية بين الدول الست المؤسسة للجماعة الاقتصادية الأوروبية تمثل 40 في المئة ( اليوم حوالي 40 في المئة ). وهذه مفارقة كبيرة.
ويعود ضعف المبادلات التجارية بين البلدان المغاربية إلى مجموعة من الأسباب :
أولاً: إنَّ أوروبا التي تقع على الضفة الشمالية من البحر المتوسط تمثل قطبًا اقتصاديًا عالميًا، ونظرًا لخضوع المنطقة المغاربية للهيمنة الاستعمارية، فقد هيمنت المبادلات التجارية العمودية بين بلدان المغرب العربي وأوروبا ولا تزال تحتل المرتبة الرئيسية، على حساب التبادلات التجارية الأفقية المغاربية البينية. ومع تعمق التبعية الاقتصادية والتجارية والثقافية للبلدان المغاربية إزاء المراكز المتروبولوية الغربية، ظَلَّتْ أرووبا سيدة اللعبة على صعيد المبادلات التجارية، وبالتالي فإنَّ مَرْكَزَ القرار يُوجَدُ في أوروبا لا في المنطقة المغاربية.
المعاينة المتعمقة لاقتصاديات دول المغرب العربي قد لا تسمح بإمكانية تحقق الاندماج بسهولة، ليس لطابعها التنافسي وحسب، بل لأنَّها متنافرةٌ في طبيعتها، بَرَّانِيَة ٌ( extraverties) نسبيًا، وتعيش وضعًا صعبًا مُزْمِنًا. فعلى الرغم من مرور 30 سنة،على عمرالاتحاد لا زالت التَحَدِّيَاتِ التي كانت في أصل تأسيسه مطروحة ومستمرة… ولتأكيد الطابع البَرَّانِي للاقتصاديات المغاربية، نُشِيرُ على سبيل المثال، إلـى أنَّ واردات المغرب من الاتحاد الأوروبي قد وصلت 55 % عام 1994، في حين بلغت صادراته 75 %، أما ليبيا فقد كانت صادراتها مع إيطاليا 35 % عام 1992، مقابل 27 % من الواردات. والملاحظة نفسها تنسحب على باقي دول المغرب العربي.
فمقابل هذا النزوع المتصاعد نحو الخارج، تظل المبادلات البينية متواضعة جدًّا، ذلك أنَّ مرور أكثر من ثلاثة عقودٍ على اإستقلال كل أقطار المغرب العربي، لم تتغير نسبة التبادل كثيرًا عما كانت عليه في فترة الحماية الفرنسية، لأنَّ المعدل لم يَتَجَاوزْ عام 1985 (1.5 % ) من مجموع صادرات كل من الجزائر،والمغرب، وتونس، و(1.2 % ) من حجم الواردات. وحتى عام 1994 لم يبلغ أكثر من 5 % من مجموع المبادلات الخارجية، على الرغم من الاتفاقيات القطاعية المبرمة بين دول الاتحاد.
ثانيًا:استمراروجود الخلافات الحدودية،والخلافات السياسية،والتبعية الاقتصادية والمالية،واختلال الهياكل الاقتصادية،وتقليد الغرب،التي سَمَّمَتْ جميعها العلاقات المغاربية،وشَكَّلَتْ عائقًا كبيرًا في تجسيد وتطبيق القرارات المشتركة للتعاون والتكامل الثنائي أو المتعدد.
ثالثًا:يقدرالخبراء تكلفة عدم بناء اتحاد المغرب العربي من خلال خسائراقتصاديات البلدان المغاربية بسبب عدم اندماجها والمضي في بناء هيكل اتحادها بما بين 3% إلى 5% من الناتج الخام الداخلي للبلدان الخمسة أي ما يناهز10عشرة مليارات دولارسنويًا،بحسب تقارير اللجنة الاقتصادية لأفريقيا، إذْ تعتبر اليوم المنطقة المغاربية الأضعف على مستوى القارة الأفريقية من حيث التجارة البينية التي لا تتجاوز 2% من حجم مبادلاتها الخارجية، بينما يصل المعدل إفريقيا إلى16%،حسب إحصائيات المنظمة العالمية للتجارة حول الاتحاد الأفريقي.
وتعيش دول المنطقة المغاربية اليوم واقعًا حَادًّا للاحتقان الاجتماعي،ترتفع فيه معدلات بطالة الشباب إلى نسبة 25%،ويغيب نصيب الفرد من الناتج الداخلي الخام ما بين 2010 و2015، وقد نبّه البنك الدولي إلى أنَّ مُجَرَّدَ فتح الحدود بين المغرب والجزائر مثلا سيكسب سنويًا كل بلدٍ منهما نقطتي تنمية، مع ما يعنيه ذلك من إيجاد فرص الشغل وامتصاص البطالة. أما الديون المغاربية فيصل حجمها اليوم إلى أكثر من 70 مليار دولار. وتذكر تقارير المؤسسات المالية الدولية المانحة أنَّ تَدَاعِيَاتِ “الربيع العربي” زَادَتْ في حجم هذه الديون وانعكاساتها المأساوية على الشؤون الحيوية للمواطن المغاربي.
خاتمة:
يمثل غياب الإرادة السياسية لدول الاتحاد المغاربي عَائِقًا بَارِزًا أمام انطلاق قطار هذا الصرح، والقفز بدول منطقة إلى مستوى جَدِيدٍ لِكِيَانٍ صَلْبٍ، يمكن أن يحتل مكانة اقتصادية وسياسية وأمنية بارزة في التفاوض مع الاتحادات والدول الأخرى.
وكيف يُمْكِنُ الإِطْمِئْنَانَ إلى إنْتَاجٍ وَطَنِيٍ مَغَارِبِيٍ هو أقل بمرّتين من إنتاج دولة صغيرة الحجم مثل فنلندا؟ بل وكيف يمكن قيام تعاون مستقل مع تكتلات كبرى، حين يكون إنتاج دولة مثل إيطاليا لوحدها يساوي أكثر من تسعة أضعاف إنتاج دول المغرب العربي مجتمعة؟، بل كيف يمكن الاطمئنان إلى واقع التشتت وغول العولمة داهم، وتحدِّي وباء كورونا مطروح بإلحاح؟
يرى مراقبون في المنطقة أنَّه صار ضروريًا أكثر من أي وقت مضى،على شعوب المنطقة المغاربية،وقيادات دولها، التفكير في تنشيط هياكلها المجمدة، مراعاة منها لطموحات أجيال تعاقبت، وتماشيًا مع التحديات العالمية، ومسايرة لمنطق التكتل،الذي صارت ضرورة وفريضة. فشعوب المغرب العربي لها من التجانس والتقارب ما يؤهلها لما وصلت إليه أوروبا المختلفة لغويًا ودينيًا. فشيوع اللغة الواحدة، والدين والمذهب الواحد،إضافة إلى التواصل الجغرافي، ووجود ثروات طبيعية كبيرة، كلها عناصر أساسية لتكوين جسم إقليمي جغراسياسي يتمتع باحترام العالم وتقديره.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى