يعتقد الإسلام السياسي في تونس متمثلاً في حزب النهضة ،بأن وصوله إلى السلطة عبرالعملية الديموقراطية،واستحواذه على مؤسّسات السلطة التنفيذية،لا سيما ترؤس زعيمه الشيخ راشد الغنوشي رئاسة البرلمان التونسي،يمنحه الحق تماماً بممارسة السلطة بشكلٍ غير مضبوط، بل بشكل اعتباطي،أي أنَّ السلطة تتساوى في وعيه مع الحكم.
إلاّ أنّه عدا آلية “فصل السلطات” الثلاث أو الأربع،التي تُعَدُّ الركن الأساس في ممارسة الديموقراطية،هناك ثمة ما أعمق وأشدّ تعقيداً للحياة السياسية والعامّة في تونس،هذا الشيء العميق في الوعي السياسي لحركة النهضة ممثلة للإسلام السياسي،هو تناقضه الجوهري والتاريخي مع مقولة الدولة الوطنية والمدنية الحديثة التي أسسها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة منذ حصول تونس على الاستقلال السياسي في عام 1956.
عداء الإسلام السياسي للدولة الوطنية
ثمة وجهة نظر تأسس عليها الإسلام السياسي في تونس وفي باقي البلدان العربية،أنَّ الدولة الوطنية الحديثة قد نشأت نشأة “مصطنعة” على يد الاستعمارالأوروبي (الفرنسي والبريطاني)في بداية النصف الثاني من القرن العشرين،وترتب على هذه القناعة نتيجة شديدة الخطورة،تتمثل في عدم الاعتراف بشرعية هذه الدول العربية ككيانات مستقلة،تتسم بسمات الدولة الوطنية .إِذْ رفض الإسلام السياسي المدافع عن الهوية الإسلامية ماعَدُّوهُ دولة وطنية و”علمانية” مصطنعة أنشأتها الدول الأوروبية للقضاء على دولة الخلافة الإسلامية العثمانية التي وَحَدَّتْ هذه الأمة لعدة قرون حسب وجهة نظره.
رغم أنَّ المدافعين عن الهوية الإسلامية والدولة الإسلامية تراجعوا إبان صعود المدِّ القومي والوطني التحرري في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين،غير إنَّ هزيمة حزيران المدوية في عام 1967،التي وَجَّهَتْ ضربةً قاصمةً للقوى القومية العربية ،والنخب القومية الحاكمة،وتراجع العروبيين،أفسحت في المجال لأنصار الهوية الإسلامية،والدولة الإسلامية، وللتنظيمات والحركات ذات المرجعية الإسلامية،بدءًا من النصف الثاني من عقد السبعينيات من القرن العشرين،لرفض الدولة الوطنية “العلمانية”،أو”الكافرة”،والسعي لإنشاء الدولة الإسلامية.
وهذا هو النهج الذي سارعليه الإسلام السياسي في تونس منذ تأسيسه،وإِنْ كان زعيم حركة النهضة الإسلامية في تونس الشيخ راشد الغنوشي ورئيس البرلمان التونسي في الوقت الحاضر ،يُعْطِي صورة مغايرة عن حركته،بقوله: “النهضة” تصنف نفسها ضمن ما أطلقنا عليه تسمية “الإسلام الديمقراطي”،وهو تيار يؤمن بأن الديمقراطية في توافق مع الإسلام.. تيار الإسلام الديمقراطي من الممكن اعتباره تيار “ما بعد الإسلام السياسي”. فقد نشأت التيارات الإسلامية كغيرها من التيارات في فضاء الأنظمة الشمولية. لكن هذا السياق حكم على هذه الأنظمة بالنهاية وساعد في بروز الإسلام الديمقراطي الذي نعتقد أنه الأقرب إلى روح العصر وقيمه(من المقابلة التي أجراها الصحافي كمال بن يونس مع الشيخ راشد الغنوشي ونشرتها صحيفة عربي 21 على حلقتين يومي 27و28 أبريل الجاري).
لقد اصطدم دعاة الإسلام السياسي في تونس بالمقاومة من جانب الأحزاب السياسية الوطنية والديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني المدافعة عن بقاء الدولة الوطنية،حيث تمكنت هذه الأخيرة من الصمود في مواجهة كل التحدّيات المحلية ،والإقليمية،والدولية التي واجهتها منذ تأسيسها ولغاية اندلاع انتفاضات “الربيع العربي” في عام 2011، التي قادت إلى تغيير النظم الحاكمة في كل من تونس،ومصر،وليبيا، واليمن.
واعتقد الإسلام السياسي في تونس منذاستلامه السلطة في نهاية خريف 2011،أنَّ لحظة القضاء على الدولة الوطنية التونسية قد حَانَتْ أخيرًا،بعد طول انتظار،لمصلحة تأسيس دولة إسلامية بالتدرج .ربما أغرق دعاة حركة النهضة وحلفائهم من التنظيمات الإسلامية المتشددة في التفاؤل القائم على الرغبات،وليس على الوقائع.فبعد بضع سنوات من عدم الاستقرار،ومن محاولات الإسلام السياسي،بدعم من أو بتحالف مع قوى دولية و إقليمية، تغيير طبيعة هذه الدولة الوطنية، لَكِنَّ كل هذه المحاولات باءَتْ بالفشل،غير أنَّه وبعد مرور تسع سنوات على سقوط نظام بن علي ، استقرت الأوضاع على حدٍّ كبيرٍ لمصلحة بقاء الدولة الوطنية التي أسسها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة.
الغنوشي وتوظيف الديبلوماسية البرلمانية لخدمة العثمانية الجديدة
تُعَدُّ الديبلوماسية البرلمانية إحدى أهم أدوات الإسلام السياسي لتوطيد الدور الإقليمي و الدولي لزعيم حركة النهضة ورئيس البرلمان التونسي الشيخ راشد الغنوشي ،الذي لا يميز بين مفهومي السلطة والدولة، فما يخول له ببمارساته حسب العملية الديمقراطية هي الأفعال والحقوق المنوطة بالبرلمان فحسب،وليست التي تُعَدُّ تحديدًا وتفصيلاً من ممارسات أجهزة الدولة المختلفة.
فما مُنح من حقوق لممارسة السلطة التنفيذية أو السلطة التشريعية لأيّ طرفٍ سياسيّ،يتمّ حسب جسمٍ وشكلٍ أساس هو الدولة الوطنية بمؤسّساتها وقيمها والروابط الموجودة بينها،حيث لا يمكن لرئيس البرلمان التونسي ولحركة النهضة الإسلامية الشيخ راشد الغنوشي،أن يغيّر الهيكل الأساسي الذي قامت عليه الدولة الوطنية التونسية،لأنّه في ذلك الحين يهدم الأساس الذي قامت عليه وكسبت الشرعية عبرها. فالسلطة ممنوحة لأنّه ثمة دستور معيّن ومضبوط قد صاغ آليّاتها. دستور نتج عن تفاعلٍ تاريخيّ وذاكرة جماعية ونضالات مشتركة وقيم عالميّة ومكتسبات اجتماعية والكثير من العوامل الأخرى، التي شكلت مجتمعة هذا الدستور، الوثيقة الأساسية للدولة الوطنية التونسية .
ولا يمكن للإسلام السياسي الذي حاز على السلطة بفعل حصوله على ربع أصوات الناخبين، في انتخابات 2019أن يتعدّى على هذه الأسس. والشيء الذي يصحّ على الوثيقة الأساسية للدولة، “الدستور”، يصحّ أيضاً بحقّ المؤسّسات التي صاغها، أي السياسة الخارجية،ومؤسّسات الجيش والتعليم والنقابات والضمان الصحيّ والقضاء. وما يمنح للسلطة التنفيذية هو فقط حقّ الإدارة وتسيير شؤون محدّدة بالقوانين والأعراف في هذه المؤسسات، أو بعضها.أمّا تغيير بنية ومعاني ومقاصد وجوهر هذه المؤسّسات وغيرها،التي تشكل بنيان الدولة الحديثة،فهو غير منوط بأيّ طرف سياسيّ.ولا يمكن وسم أيّ سلطة تريد التحكّم بالأسس والمؤسّسات إلاّ كونها سلطة استبدادية، حتى لو كانت مفروزة حسب عملية “ديموقراطية”.
لقد جرت العادة في العلاقات الثنائية بين الدول الصديقة والشقيقة أن يتم التواصل بين النظراء أي رئيس جمهورية برئيس جمهورية،ورئيس برلمان برئيس برلمان،ورئيس حكومة برئيس حكومة ووزير بوزير،إلا إذا كان ثمة تفويض أو تكليف علني واضح وشفاف يجنب الدولة حينها القول بسقوط بروتوكولي وأخلاقي يمس هيبة الدولة ويبعثر فيها الأدوار والمسؤوليات.
فعلى سبيل المثال ،عاشت تونس في بداية شهر يناير/ كانون الثاني حادثة ديبلوماسية ارتكبها الشيخ راشد الغنوشي ،حين قام بزيارة الى انقرة في 11يناير 2020،والتقى برئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان في “جلسة مغلقة” تم خلالها بحث “الحوار حول التطورات الجديدة في المنطقة والتحديات التي تواجهها” ،فجمع الغنوشي لصفتين أو مسؤوليتين من العيار الثقيل هما رئاسة حزب النهضة ورئاسة مجلس نواب الشعب وإن لم يكن ثمة مانع قانوني في ذلك.
وقد تعمّق اللبس من خلال تضارب الروايات ففي حين أعلمت تركيا عن لقاء جمع السبت 11 يناير/كانون الثاني 2011 رئيس الجمهورية التركية برئيس البرلمان التونسي قال مسؤول الاعلام بالنهضة أن “زيارة الغنوشي كانت بصفته الشخصية وباسم الحزب وبناء على موعد سابق” وقال قيادي آخر أنَّه هنأ أردوغان بانتاج السيارة التركية الجديدة وقلل قيادي آخر من الزيارة وقال أن الاشكال يكمن فقط في كونها جاءت ساعات قليلة بعد فشل حكومة الحبيب الجملى / حكومة النهضة في نيل الثقة من نواب الشعب. ! وكما هو معلوم انتفض نواب الشعب وتمت المطالبة باقالة الغنوشي أوإرغامه على الاختيار بين رئاسة الحزب أو البرلمان،ودعوته لاحترام مربّع الصلاحيات ونواميس الدولة الوطنية التونسية.
وبعد مرور عاصفة زيارة راشد الغنوشي إلى الباب العالي مطلع العام الحالي ولقائه بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان إبان تفجر الوضع العسكري في مدينة طرابلس الغرب بين الطرفين الليبيين المتحاربين اللواء خليفة حفتر،ورئيس حكومة الوفاق فايز السراج،هاهو الشعب التونسي و نخبه الحاكمة،وبرلمانه،في زمن مواجهة وباء الكورونا،يكتشفون خلال الأيام الماضية بتواصل جديد بين الرجلين بالهاتف هذه المرَّة،ربما نتيجة إكراهات الكورونا وتعذّر اللقاء المباشر.والمكالمة قرأها المتابعون للشؤون التونسية والتركية في موقع وكالة الأنباء التركية الرسمية الأناضول يوم 25 أبريل 2020 :” بحث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، مع رئيس البرلمان التونسي راشد الغنوشي، هاتفيا السبت، سبل التعاون بين البلدين في مكافحة فيروس كورونا.وبحسب ما نشرته دائرة الاتصال في الرئاسة التركية، بحث الجانبان أيضا العلاقات الثنائية والقضايا الإقليمية.” انتهى الخبر. فكأن الشيخ راشدى الغنوشي، أصبح يتقمص دور رئيس الدولة التونسية، وهو بالتالي هو من يقود السياسة الخارجية التونسية.
ولدى الاستفسار لدى مسؤولي حزب الإسلام السياسي في تونس عن هذا الاتصال،تجد الإجابة المتوقعة عن هذا الاتصال “الهام” بأنَّها لن تخرج عن دائرة الحديث عن “الدبلوماسية البرلمانية” وعن مكانة الشيخ راشد الغنوشي في تنظيم الإخوان المسلمين العالمي،الذي أصبح مركزه في إسطنبول، حيث تنظر أحزاب الإسلام السياسي في العالم العربي إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بوصفه زعيمًا عثمانيًا جديدًا يسعى إلى استعادة قوة الدولة العثمانية الإسلامية ومركز الخلافة.
فأحزاب الإسلام السياسي في الوطن العربي (أي تنظيمات الإخوان المسلمين ) لم تهجرالحنين إلى دولة عظمى امتدت في ذروة سلطانها فوق كامل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وشمال آسيا وشرق أوروبا حتى حدودالنمساغربا،ودامت حوالى ستة قرون ونصف القرن.ويجسد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هذه العودة التي لا بد من أن تمرعبر المصالحة مع الإرث العثماني،السياسي منه والديني،مفرزة “العثمانية الجديدة” التي نشهدها اليوم.وهذه العودة إلى العثمانية الجديدة ليست وليدة الارتجال بل هي نتاج تاريخي لحركة “التوليف التركي-الإسلامي” التي تهدف إلى إعادة بناء الهوية وإضافة البعد الإسلامي-أي الإيمان -عليها،من دون أسلمة الحكم،وإقامة التحالف الاستراتيجي مع أحزاب الإسلام السياسي في الوطن العربي،التي تدين بالولاء لمركز السلطنة العثمانية الجديد بقيادة رجب طيب أردوغان،والتنكر لاستقلالية الدولة الوطنية في أي بلد عربي.
ويبدو أنَّ هذه التطورات في السياسة الخارجية التركية كانت كافية لرفع حرارة العلاقة التركية مع أحزاب الإسلام السياسي،لا سيما في مرحلة ما بعد انتفاضات الربيع العربي 2011،والبدء بإذابة الجليد المتراكم منذ القرن الثامن عشر،والذي وصل إلى ذروته خلال الحرب العالمية الأولى مع قيام الثورة العربية الكبرى ضد الوجود العثماني. فقد أصبحت التيارات والأحزاب الإسلامية في العديد من البلدان العربية تعتبر تجربة “حزب العدالة و التنمية ” في تركيا نموذجاً يحتذى به، و لا سيما أحزاب الإسلام السياسي التي أصبحت مهيمنة على السلطة كماهو الحال لحزب النهضة في تونس،أو التي تجمع بين التمثيل النيابي والمشاركة في السلطة التنفيذية (المغرب).
من الواضح أنَّ التيارات و الأحزاب الإسلامية التي قبلت الدخول في المسار الديمقراطي في العالم العربي، تريد أن تَحْذُوَحِذْوَ “حزب العدالة و التنمية ” التركي،وتعتبرالمشروع السياسي ل”حزب العدالة و التنمية ” التركي مثالاً للأحزاب الإسلامية في العالم العربي .فقد بات المشروع السياسي لتركيا العثمانية الجديدة بمنزلة النموذج الذي يلقى ترحيباً من أحزاب الإسلام السياسي في الوطن العربي ،التي ترى تركيا دولة إقليمية محورية في منطقة الشرق الأوسط ،تدافع عن مصالحها الوطنية ،وتنتهج سياسة خارجية تقوم على ترسيخ نفوذ تركيا في المنطقة،وتحويلها إلى مركز إقليمي.
وقد عزّزت النظرة إلى تركيا موقف السلطان العثماني الجديد من رجب طيب أردوغان الداعي إلى إسقاط الدولة الوطنية السورية،واصطفافه إلى جانب تنظيم الإخوان المسلمين في ليبيافى الداعم لحكومة الوفاق بقيادة فايز السراج ،وإبرام اتفاقية معها في نهاية شهر نوفمبر 2019، ودعمها عبر التدخل العسكري التركي المباشر في الحرب الدائرة في ليبيا ،وتطور العلاقات الاستراتيجية بين تركيا وقطر في إطار تشكل محور إقليمي يدعم أحزاب الإسلام السياسي في المنطقة العربية،ويشكل في الوقت عينه الذراع الأمريكية لمشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يحتل فيه الكيان الصهيوني مركز الريادة.
أهداف و أدوات تحركات اردوغان في منطقة المغرب العربي
منذ انتفاضات الربيع العربي في عام 2011،أصبحت منطقة المغرب العربي،موقع جذب للقوى الإقليمية الصاعدة(تركيا -قطر) والقوى الدولية الغربية،ومحل صراع مفتوح على كل الاحتمالات في آن معًا، بدءًا بالتدخل الأطلسي في ليبيا لإسقاط نظام العقيدى القذافي،ووصول الإخوان المسلمين للسلطة الذي فجربدوره حربًا أهلية لا تزال مشتعلة إلى اليوم، مرورا بوصول حزب النهضة الإسلامي إلى السلطة في تونس،وهيمنته على الإئتلاف الحكومي الحالي بقيادة السيد إلياس الفخفاخ، ووصولا إلى استهداف الدولة الوطنية الجزائرية.
وشهد النفوذ التركي والقطري حضورًا كبيرًا في كل من ليبيا و تونس، منذ صعود حزب النهضة إلى السلطة ،ورغبة الرئيس رجب طيب أردوغان بتصدير التجربة التركية كنموذج يزاوج بين الديمقراطية والإسلام،وتزايد الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية لمنطقة المغرب العربي في اهتمامات القوى الدولية والإقليمية، ممادفع تركيا بقيادة أردوغان لأن تكون أحدى الفواعل في المنطقة، معتمدة على الرأسمال المالي القطري،إذ وقع السلطان العثماني الجديد اتفاقية أمنية وعسكرية مع ليبيا، وهاهو يطرح اليوم توقيع اتفاقية جديدة مع تونس، معتمدا على حزب الإسلام السياسي متمثلا في حزب النهضة ،الذي تحول إلى إحدى أدوات القوة لتوطيد الدور الدولي و الإقليمي لكل من تركيا وحليفتها قطرفي تونس وليبيا.
لا تمانع الأحزاب التونسية ومنظمات المجتمع المدني اليوم في تشجيع الدبلوماسية بكل أنواعها وتصنيفاتها،الاقتصادية منها والثقافية والبرلمانية والشعبية والحزبية والنقابية وحتى الإنسانية كما هو الحال مع دور البعثة الطبية التي وجهتها رئاسة الجمهورية إلى الصديقة ايطاليا لمساعدتها في الحرب على الكورونا، لكن، تظل العلاقات الرسمية والدبلوماسية الرسمية اختصاصا حصريا وحكرا على جهات ومؤسسات بعينها وفق الاعراف والقوانين الجاري بها العمل وعلى رأسها الدستور التونسي.
وينص دستور تونس في فصله 72 على أنَّ “رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة، ورمز وحدتها، يضمن استقلالها واستمراريتها، ويسهر على احترام الدستور”.
ويحدّد الفصل 77 مهامه كالآتي :
“يتولّى رئيس الجمهورية تمثيل الدولة، ويختص بضبط السياسات العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي المتعلق بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية والخارجية وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة.
كما يتولّى:
– حلّ مجلس نواب الشعب في الحالات التي ينصّ عليها الدستور، ولا يجوز حلّ المجلس خلال الأشهر الستة التي تلي نيل أول حكومة ثقة المجلس بعد الانتخابات التشريعية أو خلال الأشهر الستة الأخيرة من المدة الرئاسية أو المدة النيابية،
– رئاسة مجلس الأمن القومي ويُدعى إليه رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب، – القيادة العليا للقوات المسلحة،
لقد استغل الشيخ راشد الغنوشي الحالة الوبائية المستجدة على صعيد العالمي منذ بضعة أشهر، لكي يطرح على البرلمان التونسي مشروع القانون الأساسي عدد 5/2020 المتعلق بالموافقة على اتفاقية مقرة بين حكومة الجمهورية التونسية وصندوق قطر للتنمية حول فتح مكتب لصندوق قطر للتنمية بتونس وذلك كما جاء في باب شرح الاسباب للمساهمة في تمويل مشاريع تنموية وتعزيز التعاون الثنائي في التربية والتعليم والصحة والموارد الطبيعية والصيد البحري وغيرها ..ونجد في الاهداف وشرح الاسباب كلاما عاما يتحدث عن التعاون الثنائي ويقدم أرقاما حول المشاريع الاستثمارية القطرية في تونس وأغلبها وعود لم يتم تنفيذها..
والمشروع الثاني وهو مشروع القانون الأساسي عدد 68/2018 المتعلق بالموافقة على اتفاقية التشجيع والحماية المتبادلة للإستثمارات المبرم بين حكومة الجمهورية التونسية وحكومة جمهورية تركيا المبرمة في 27 ديسمبر 2017 ، ومن اهدافها كما جاء في نص الاتفاقية دفع نسق التعاون الاقتصادي بين البلدين وخاصة فيما يتعلق باستقطاب الاستثمارات التركية في تونس وتتضمن الاتفاقية 13 فصلا تتعلق بمجالات تطبيقها… وكان البرلمان التونسي سيناقش هذين المشروعين لإقرارهما في الجلسة العامة ليومي الإربعاء والخميس 29 و 30 أبريل 2020 باعتماد إجراءات استعجال النظر .
غير أنّ هذه الدعوة للبرلمان التونسي للمصادقة على هذين المشروعين في زمن مواجهة الحكومة التونسية وباء كوروبا، وُوجِهَتْ بمعارضةٍ قويةٍ من جانب الحزب الدستوري الحر الدستوري الذي دعا الحكومة التونسية إلى سحب مشاريع القوانين المتعلقة بالاتفاقيات مع قطر وتركيا بصفة نهائية طبقا للفصل 137 من النظام الداخلي لمجلس نواب الشعب الذي ينص على حق جهة المبادرة سحب مبادرتها ما لم تعرض على الجلسة العامة .واعتبر الحزب في رسالة توجّه بها يوم الثلاثاء الماضي الى رئيس الحكومة ، أنَّ من شأن الاتفاقيات المذكورة المس من سيادة تونس واستقلال قرارها وضرب المنظومة الاقتصادية الوطنية من خلال تحويل تونس الى منصة في خدمة اجندات ومحاور خارجية وطالب الدستوري الحر بالتدقيق في كافة الاتفاقيات المبرمة من قبل الحكومات السابقة والتي لم تعرض بعد على البرلمان أو على الجلسة العامة وعدم تمرير أي اتفاقية لا تتلاءم مع المصلحة العليا للوطن.
وتنص أحكام هذه الاتفاقية التركية استثناء بعض الأموال من مجال الاستثمار على غرار الحصص والأسهم التي لا تتجاوز حقوق التصويت المنجرة عنها عن عشرة في المائة من رأس مال الاقتصادية والسندات والرقاع وضمانات الديون.وتم استثناء بعض الأموال من مجال الاستثمار على غرار القروض الممنوحة لطرف متعاقد أو لمؤسسة حكومية بغض النظر عن مدته والحقوق المالية أو الديون الناتجة حصريا عن العقود التجارية لبيع السلع أو الخدمات.
وينص الاتفاق على التأكيد على مبدأ حرية تحويل الأموال دون تأخير بعد الايفاء بكل الالتزامات الضريبية مع تحديد أصناف الأموال القابلة للتحويل والمتمثلة في رأس المال الأصلي وأي مبالغ اضافية للمحافظة على الاستثمار أو الترفيع فيه وفي العائدات والتعويضات وسداد أصل وفوائد القروض المتعلقة بالاستثمارات والمرتبات والاجور والدفوعات الناتجة عن النزاعات.
خاتمة: تونس بين خياري الدولة الديمقراطية الاجتماعية أو الانفجار الشعبي
لقد تصاعد الدور العسكري التركي في الصومال عبر إقامة قاعدة عسكرية في هذا البلد الغربي الإفريقي منذ عام 2007،كما سمحت قطر لتركيا هذه الأيام الأخيرة فقط بإقامة منشآت عسكرية على ترابها..وهذا يعني الكثير في هذه الظروف. وكلاهما مرتبط بالمنظمة العالمية للإخوان “المسلمين” وبالدوائر الصهيونية وببعض اللوبيات الأمريكية. كما بالتنظيمات الإرهابية والتكفيرية في كل من سورية وليبيا، وهذه أمور لم تعد خافية على أحد.
ومع خسارة تركيا قطاعًا واسعًا من الأسواق العربية، بسبب موقفها المنحاز لأحزاب الإسلام السياسي ، وتحالفها الاستراتيجي مع قطر في الأزمة الخليجية،إضافة إلى هزيمة مشروعها القاضي بإسقاط الدولة الوطنية السورية، سعى السلطان العثماني الجديد رجب طيب أردوغان إلى تكثيف الوجود التركي في ليبيا ،فوجد في حكومة السراج بليبيا الجريحة من يفتح له الأبواب لتنفيذ مخططاته، مهددا كل من مصر والجزائر وتونس.
وتمثل كل من ليبيا وتونس بالنسبة لأردوغان قواعد تر كية استراتيجية يمكن لأنقرة استغلالها لتقوية الحضورالاقتصادي والتجاري التركي في القارة السمراء، إِذْ زاد التبادل التجاري بين تركيا ودول القارة الإفريقية من 2مليار دولار في عام 2002 إلى نحو 7 مليار دولار في عام 2005، ليقفز إلى 19 مليار دولار بنهاية عام 2016.كما تمتلك الشركات التركية استثمارات تقدر بنحو 6.2مليار دولار في عموم القارة الإفريقية.
والواقع الذي يعرفه كلّ التونسيين أنَّ هذه الاتفاقيات التي كان البرلمان التونسي سيصادق عليها يومي 29و30 أبريل 2020،هي في ظاهرها استثمارية وتجارية لكنَّها في العمق سياسية لتقوية امتداد المحور التركي القطري في تونس،ولتحويل تبعية تونس لهذا المحورإلى أَمْرٍ واقعِ بعناوينٍ مختلفةٍ أكثرها تضليلاً هذا الغطاء الاستثماري التجاري..وبالتالي فَإنَّ هذه الاتفاقيات تبدو في ظاهرها لتكثيف الاستثمارات التركية القطرية في تونس ،لكنَّها في الواقع إنَّما لتكثيف امتداد البلدين عبر مكاتب قارة تدير شؤون المنطقة عن قرب وغير بعيد عن المعركة التي يخوضها الاخوان في ليبيا…
فالمشروع القطري المتمثل بإنشاء ما وقعت تسميته ب “صندوق قطر للتنمية”، يمكن له أن يتدخل تحت غطاء التنمية في عديد الميادين منها على سبيل الذكر فقط :الطاقة،والسياحة،والتربية والتكوين والبحث العلمي،والتمكين الاقتصادي،مع إمكانية جلب يد عاملة أجنبية لتنفيذ مشاريعه، وفتح بنوك بتونس بأي عملة يراها صالحة وتحويل الأموال إلى أية جهة يراها أيضا، في أي وقت يراه. مع التزام الدولة التونسية ،بعدم إعاقة مشاريعه التنموية تحت طائلة مقاضاتها من طرف الصندوق لعدم احترام بنود الاتفاق،إذ له حق التقاضي أمام المحاكم أيضا . وقطر هنا تملك القوة المالية ولكنها تتصرف كوكيلة لتركيا. فأيّ خير يمكن أنْ نتوقعه من هذا الصندوق القطري للتنمية.؟
لا شيء طبعا.غير استباحة السيادة الوطنية التونسية،وامتهان كرامة شعبها، لمصلحة استعادة الخلافة العثمانية الجديدة بقيادة أردوغان.أما التمكين الاقتصادي المعلن في بنود المشروع فسيتحول بسهولة إلى تمكين حزب الإسلام السياسي في تونس،ألا وهو حزب النهضة،من أجل تقويض الدولة الوطنية التونسية،والإسراع بانخراط تونس بالكامل هذه المرة في المحور القطري التركي مع ماسيمثله من خطر أكيد على الجارة الجزائرية المستهدفة بشدة من أجل غازها ونفطها.
إنَّ الإسلام السياسي في تونس،المتجسد في حزب النهضة بزعامة الشيخ راشد الغنوشي يَعُجُّ بالمفاهيم والرؤى الإيديولوجية التابعة للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين،أضعاف مَا يَسْتَحْوِذُ على مبادئٍ وبرامجٍ وتصوّراتٍ سياسيّةٍ،واقتصاديّةٍ،وتنمويّةٍ.فالإزدواجية في الخطاب، والذرائعية الانتهازية في الممارسة السياسية، واستراتيجية “التمكين” التي يتسم بها،تُنَاقِضُ في الحقيقة قيم الدولة الوطنية التونسية الحداثية التي أفرزت هذه التجربة الديمقراطية الفتية،وأنتجت المؤسّسات التي مكّنت الفعل الديموقراطي من إفراز هذه السلطة الجديدة التي ينعم بها الإسلام السياسي .
ولأنَّ قِيَمَ الدولةِ الوطنيةِ التونسيةِ والإسلامِ السياسيِّ يَنْتَمِيَانِ لِمَنْشَأَيْنِ ذِهْنِيَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ أسَاسًا،ظلَّ حزب النهضة عاجزًا عن تجسيد القطيعة مع النموذج الإخواني والعثماني الجديد في هذه الحال، وربّما بسبب ذلك ثمّة صعوبة في تَحَوُّلِ الديموقراطيةِ التونسيةِ الفتيةِ من مُجَرَّدِ عمليّةٍ انتخابيّةٍ إلى ثقافةٍ وقيمٍ،ومشروعٍ لإعادةِ بناءِ الدولةِ الوطنيةِ التونسية وِفْقَ مُقَتضَيَاتِ الْعَصْرِ،وضرورةِ تغييرِ النموذجِ التنموِي فيها من أجل بناء نموذج الاقتصادي الاجتماعي،والمواطنة الاجتماعية على أرضية الدستور الجديد وقيم العدالة الاجتماعية والمساواة الضامنة لكل ديمقراطية فعلية.
ورغم مرور تسع سنوات على الثورة التونسية وتعاقب تسع حكومات،وليس آخرها حكومة الإئتلاف التي يقودها إلياس الفخفاخ و الخاضعة لإملاءات حزب النهضة ، وإقرار دستور جديد يؤكد على أن طبيعة الدولة في تونس هي مدنية و هي أيضا دولة اجتماعية ، فمن أصل 148فصلاً يتضمن 30 فصلاً يرتبط بالحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و البيئية،ومع كل ذلك ظلت قضية محاربة الفساد،وتحقيق انتظارات الشعب التونسي من خلال حل المسألة الاجتماعية،مثل الأمل المهدور.
إذا كان المسار الانتقالي في مرحلة ما بعد 2011، قد أدمج الإسلام السياسي عن طريق “سياسة التوافق” في الحقل السياسي العام،فإنَّه عجز عن بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية، فشرطها الرئيس يتمثل في فصل الدين عن الدولة وبناء دولة مدنية التي تسقط بذلك مقولة “الإسلام دين ودولة”.
إنَّ التأكيد على بناء دولة مدنية ،أي دولة وطنية ديمقراطية اجتماعية،يعني ما يلي:
أولاً: إنّه إنتصار للعلمانية الإيجابية (Le secularism) بما هي فصل للدين عن الدولة، وتأكيد عدم تدخل الدولة في الشؤون الدينية. فالثورة الديموقراطية الاجتماعية التونسية التي شارك في إنتاجها مكونات المجتمع التونسي كافة تؤكد إنتماءها إلى العروبة الحضارية التي يشكل الإسلام أحد أبرز تجلياتها والتي تظهرها هذه الثورة مجددة بذلك إنتماءها إلى الحداثة العالمية وقيمها في الحرية، واحترام حقوق الإنسان، والتنوع،و التعدد، ومسهمةً في إنتاج هذه الحضارة العالمية .
ثانيًا: إنّه إنتصار للدولة الوطنية الديمقراطية التعددية المنفتحة على أشكال التكامل العربي كافة على قاعدة إحترام إستقلالية القرارالوطني، ولا سيما في مجال إعادة بناء اتحاد المغرب العربي بين دوله الخمس.والحال هذه لا مجال لدخول الدولة الوطنية التونسية في محاور إقليمية ودولية ، مثل المحور الإقليمي التركي-القطري الذي يعتمد على تجييش تنظيمات و أحزاب الإسلام السياسي، لتنفيذ أجندته خدمة للمخطط الأمريكي -الصهيوني داخل الوطن العربي.
ثالثًا: إنّه أيضًا انتصار للقضية الفلسطينية بوصفها القضية المركزية للأمة العربية، حيث تتعرض هذه القضية للتصفية من جراء تبني الأنظمة العربية والسلطة الفلسطينية سياسة التسوسة الإستسلامية.
رابعًا: إنّه انتصار لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية،الذي لا يكتفي بإقرار مبدأ المساواة بين المواطنين أمام القانون بوصفه الشرط الضروري للمساواة الفعلية بين المواطنين ولكن غير الكافي فقط ،بل يطالب الدولة الوطنية بإدماج المجتمعات الموازية والمهمشة والمغيبة (الريف، الأحياء الشعبية، الفئات الهشة، الشباب المعطّل)وغير المعترف بها، في خيارات اقتصادية و اجتماعية جديدة متناقضة مع فلسفة الليبرالية الجديدة.
أخيرًا: إنّ الدولة الوطنية التونسية القائمة الضعيفة والفاقدة لهيبتها رغم تمثيلها الديمقراطي للإرادة العامة عبر الانتخابات الحرة والنزيهة،مطالبة بإعادة بناء الذراع الاجتماعي بعد عقود من التهرئة لقدراتها الاجتماعية ومن التنظير للتقشف،وبتبني أنموذج جديد اقتصادي واجتماعي قادرعلى تحقيق التنمية المرتقبة وبناء العدالة الاجتماعية ،لا سيما داخل الولايات الداخلية للجنوب التونسي،وولايات الوسط والشمال الغربي،التي تؤكد كل مؤشرات التنمية حجم الهوة التي تفصلها عن باقي البلاد،إضافة أيضاً إلى الأحياء الشعبية الضخمة حول المدن الكبرى وخاصة تونس العاصمة والتي يقطنها خاصة الوافدون من المدن الدّاخلية بحثاً عن العمل وهروبًا من الريّف المدمر،ويأسًا من الحياة في مناطق نائية.
في ذكرى رحيله الـ ٥٣ .. قراءة في حيثيات “العروة الوثقى” بين عبد الناصر وجماهير الشعب العربي
بعض الناس يشبهون الوطن، إن غابوا عنا شعرنا بالغربة (نجيب مح... إقرأ المقال