وباء كورونا وأفول إمبراطورية أدغال الرأسمالية الأمريكية المتوحشة

لا يزالُ وباء كورونا المستجد “كوفيد-19″، الذي ظهر لأول مرَّةٍ في الصين نهاية العام الماضي ،يَحْصُدُ ألاف الأرواحَ البشريةَ في كل أصقاع الكرة الأرضية، فقد تجاوزَ عددُ المصابينَ المسجلين عالميا بفيروس كورونا صباح الخميس الماضي ، المليونَ ونصف المليون، تماثلَ أكثر من 330 ألفا منهم للشفاء، فيما توفي أكثر من 88 ألفا.
ويُسَبِّبُ هذا الوباء تداعياتٍ خطيرةٍ جدًّا على القوى العاملة في العالم، فالتدابير الصارمة المفروضة لاحتواءِ الوباءِ،سَتُخَفِضُ في الفصل الثاني من العام 2020 ساعات العمل عالمياً بنسبة 6.7 بالمئة، أي ما يعادل 195 مليون عامل بدوام كامل.وقالت دراسة صادرة عن الأمم المتحدة حديثًا،إنَّ هذه التدابير الصارمة لاحتواء انتشارِ الوباءٍ تُهَدِّدُ معيشةَ نحو 1.25 مليار عامل، يَعْمَلُونَ حاليَا في قطاعاتٍ تواجهُ حاليًا خطرً تَزَايُدِ الصَرْفِ منَ العملِ والاقْتِطَاعِ من الرواتبِ،مُحذرةً من “أسوأِ أزمةٍ عالميةٍ” منذ الحرب العالمية الثانية.
وخَلَصَ التقريرُإلى تًأَثُرِ 81 بالمئة من القوى العاملة في العالم المقدّرة بنحو3.3 مليار شخص،وأنّ مِنْطَقَةَ آسيَا المحيط الهادئ سَتِشْهَدُ أكبرَ انخفاضٍ في ساعاتِ العمل يوازي 125 مليون وظيفة بدوام كامل ملغاة على مدى الأشهر الثلاثة المقبلة.وسيضاف ذلك إلى نحو 190 مليون شخص باتوا عاطلين عن العمل في العام 2019، قبل بدء الجائحة.
الوباء الأسود وتداعياته على ولادة نظام الإنتاج الرأسمالي
لكِنَّ ما هو مُؤَكَّدٌ في سيرورةِ التاريخِ العالمِي ،أنَّ هذا الوباءَ سًيَحْدُثُ بتداعياته،تغييرًا جوهريًا في البنية السياسية والاقتصادية والدينية والثقافية والاجتماعية لهيكل النظام الرأسمالي العالمي ،ومركز القوة فيه ألا وهي الإمبراطورية الأمريكية، مثلما أَحْدَثَ وباء الطاعون الأسود في الفترة 1346- 1353 ميلادية،تغييرات في تغيير للبنية السياسية والاقتصادية والدينية والثقافية والاجتماعية لهيكل القارة الأوروبية.
فمن تداعيات الطاعون الأسود في أورووبا،في القرن الرابع عشر،إسهامه في الإطاحة بالنظام الاقتصادي الإقطاعي، حيث كان النبلاء في أوروبا يُسيطرُونَ على أراضي شاسعة والفقراء يعيشون فيها عبيدًا يُمارسونَ الزراعة لمصلحة النبلاء؛ وبعد الطاعون وجد النبلاء أنفسهم بدون عمالٍ لفلاحة الأرض، فقد مات منهم خلقٌ كثيرٌ، وأصبح عَدَدَهُمْ قليلًا، فصار العمال يطالبون بِحُرِّيَاتٍ أكبرَ وحقوقٍ أكثرَ، وصولًا إلى إنهاءِ نظامِ الرِقِّ والإقطاعِ في أوروبا.
بعد الْإِطَاحَةِ بِمَنْظُومَةِ الْإقْطَاعِ، أَسْهَمَ الطَّاعُونُ الْأسْوَدُ فِي زِيَادَةِ قِيمَةِ الْعُمَّالِ وَأُجُورِهِمْ بِمُعَدَّلِ 25 بالمئة، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ الْبِطَالَةُ مُنْتَشِرَةً فِي صُفُوفِهِمْ قَبْلَ الطَّاعُونِ، وَحَرَّرَ اللُّورْدَاتُ الْعَبِيدَ لِيُصْبِحُوا عمالا لَدَيْهُمْ، وَاِنْخَفَضَتْ إِيجَارَاتِ الأراضِي وَأسْعَارُهَا، بِسَبَبِ عَدَمِ وُجُودِ عُمَّالٌ لِفِلَاَحَتِهَا لَدَيْهُمْ، وَبِذَلِكَ أَصْبَحَ الْقَرَوِيُّونَ سَادَةَ أَرَاضِيِهِمْ.فالطاعون الأسود،شكل الحافز التاريخي لإنتقال أوروبا من مرحلة الإقطاع إلى مرحلة الرأسمالية الميركنتيلية التجارية،لا سيما مع بداية النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر،واهتزازسلطة الكنيسة،التي كانت تهيمن على الحياة السياسية والروحية،فها هي تقف عاجزة أمام الطاعون. أنذاك تعدى تأثيرالطاعون الأسود إلى الدين ،فبدأت حركة الإصلاح الديني.
وكان ماكس فيبرقد عزا نشوء الرأسمالية إلى حركة الإصلاح الديني وظهور الأخلاق البروتستانتية ف” التحرر من الإتجاه الاقتصادي التقليدي يبدو بمنزلة أحد العوامل التي ينبغي أن تفرزالميل إلى التشكيك أيضا بالتراث الديني،وإلى التمرد على السلطات التقليدية.
وَقَدْ رَأَى مَاركس أَنَّ الْمَسِيحِيَّةَ هِي الدِّينُ الْمُتَنَاسِبُ مَعَ الْاِقْتِصَادِ السِّلْعِيِّ.
وَإِذَا كَانَ مَاركس لَمْ يَعْزُ نُشُوءُ الرَّأْسُمَاليَّةِ إِلَى الْبرُوتِسْتَانْتِيَّةِ أَوِ الْيَهُودِيَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ تَنَاوَلَ الْعَلَاَّقَةَ التَّارِيخِيَّةَ بَيْنَ الْيَهُودِيَّةِ وَنُشُوءِ الرَّأْسَمَاليَّةِ، وَقَالَ:” مَعَ إنتصار الْمُجْتَمَعِ الْبُرْجُوَازيِّ، الشُّعُوبَ الْمَسِيحِيَّةَ صَارَتْ يَهُودِيَّةً.تَنَاقُضُ الْمَسِيحِيَّةِ وَالْيَهُودِيَّةِ هُوَ تَنَاقُضُ النَّظَرِيِّ وَالْعَمَلِيِّ، الشَّكْلَ وَالْمُحْتَوَى، الدَّوْلَةَ السِّيَاسِيَّةَ وَالْمُجْتَمَعَ الْمَدَنِيَّ”.الْيَهُودِيَّةَ الَّتِي يَعْنِيهَا هُنَا هِي دِينُ الْمَالِ، وَعِبَادَةَ الْمُتَاجَرَةِ، الْمَالَ هُوَ إلَهُ ” إسرائيل ” الغيوالأساس الدُّنْيَوِيَّ لِلْيَهُودِيَّةِ هُوَ الْحَاجَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَالْمَنْفَعَةَ الشَّخْصِيَّةَ،” الْيَهُودِيَّةَ بَقِيَتْ لَيْسَ رَغْمُ التَّارِيخِ بَلْ بِالتَّارِيخِ”.وَلِذَلِكَ رَأَى أَنَّ عِتْقَ الْيَهُودِيِّ هُوَ عِتْقُ الْمُجْتَمَعِ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ.
ثمة كثيرٌ من الباحثين اليهود الذين يعترفون ويفاخرون بمهاراتِ اليهودِ الكبيرةِ في حَقْلَيْ الْمَالِ والرِبَا.وهذاهو،على سبيل المثال،الْمُنَظِّرُالْمَعْرُوفُ لفكرةِ “الموندياليزم”mondialism(أي إيديولوجيا العولمة و الحكومة العالمية) جاك أتالّي(من مواليد 1943)والذي شغل في وقت سابق مدير البنك الأوروبي للتنمية والإعمار،والذي عمل مستشارًا سابقًا للرئيس الراحل فرانسوا ميتران..وقبل كل شيء يعترف جاك أتالّي بكل اعتزازأنّ اليهودهم الذين وهبوا العالم أهم شيئين على الإطلاق -إلهًا واحدًا والنقود:”لقدنجح الشعب اليهودي في جعل النقود وسيلة فريدة وشاملة للتبادل،مثلما قام بالدرجة نفسها من النجاح بأن يجعل من إلهه أداة فريدة وشاملة للتفوق..”
والنقود،باعتبارها أداة شاملة وفي متناول أيدي جميع الناس بغض الطرف عن أي إنتماء عرقي أو قومي أو بعيدًا عن أي معتقدات دينية،هي مع ذلك بالدرجة الأولى من ممتلكات وحوزة اليهودالذين يواجهون بقية العالم: “النقود –هي تلك الالة التي تحول ما هومقدّس إلى دنيوي، تحرّر من الإكراه، تشقّ القنوات أمام العنف، توفّرالتضامن،تساعد على مواجهة مطالب الأغيار (غير اليهود) ،وتعتبر وسيلة رائعة لخدمةالرب”.
وباء كورونا كشف إفلاس النظام الرأسمالي الليبرالي الأمريكي
أما بالنسبة لوباء كورونا في القرن الحادي و العشرين، فإنَّهُ عرَّى إفلاس النظام الرأسمالي الليبرالي العالمي، القائم، على جميع المستويات الصحية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والأخلاقية والعلمية! فقد تهاوت قيم ومبادئ كثيرة قام عليها النظام الرأسمالي الليبرالي العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، مثل التضامن بين الدول والحكومات الغربية ،إذ عادت الشوفينية الوطنية في أبشع صورها، وتم الدوس على حقوق الإنسان في الدول المفروض أنها راعية هذه الحقوق وحاميتها، بل وشهدنا السقوط الأخلاقي المدوي للإنسانية، عندما كانت تتم التضحية بكبار السن لإنقاذ من هم أصغر سنا فقط بذريعة قلة المعدّات الطبية!؟
فقد نشر موقع “إيل سوسيداريوا” الإيطالي تقريرا بتاريخ 4نيسان/أبريل 2020،تحدث فيه عن التغيرات المحتملة التي قد تطرأ على البنية الجيوسياسية العالمية في مرحلة ما بعد الوباء.وقال الموقع،إنَّ القوى الجيوسياسية العالمية مقدر لها أن تتغير على مرحلتين بعد فترة الطوارئ الصحية، بدعم استراتيجية إعادة الإعمار والمساعدات المشروطة.
فقد انتقل مركز جاذبية الوباء على مرتين، حيث انتقل في مرحلة أولى من الصين إلى أوروبا،ومن أوروبا إلى الولايات المتحدة الأمريكية في المرحلة الثانية.وقد انتشر الفيروس في الولايات المتحدة بشكل هائل في غضون ثلاثة أشهر فقط، وهي الدولة الأكثر أهمية في النظام الدولي.
وذكر الموقع أنَّ عدد الإصابات بهذا الفيروس تجاوز عتبة المليون والنصف على مستوى العالم، 20 بالمئة منها مسجلة في الولايات المتحدة. وتشير التقديرات إلى أن إجمالي الوفيات قد يصل إلى 100 و200 ألف شخص في الولايات المتحدة.
وأورد الموقع أن الكونغرس وافق على حزمة حوافز ضخمة بقيمة 2.2 تريليون دولار، هي الأكبر على الإطلاق في الولايات المتحدة وتمثل 10 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي وتساوي أكثر من نصف الإيرادات الضريبية الفيدرالية السنوية. وستؤدي التكلفة المباشرة للوباء والاستجابة الاقتصادية للحكومة حتما إلى دفع نسبة الدين الأمريكي إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى مستويات غير مسبوقة، وسيترتب عن ذلك مراجعة عميقة لميزانية الحكومة الفيدرالية.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ الوضع إما سيزيد من الانغلاق الاستراتيجي والدفاعي للولايات المتحدة، أو يعيد إحياء الدور الأمريكي الهام في العالم. إن كيفية تعامل الولايات المتحدة مع هذه الخطوة سيحدد مستقبل الهيمنة الأمريكية وفرص نجاح استراتيجية إعادة الإعمار.
وأوضح الموقع أن أزمة الوباء الحالية لن تكون قادرة على تقويض علاقات القوة الدولية على المدى المتوسط والطويل، على الرغم من أنها أثرت على المصالح الأمريكية أكثر من مصالح الدول المتنافسة الأخرى. ويعزى ذلك إلى أن التنافس بين القوى العظمى طويل الأمد ويتأكد ذلك من خلال أزمة الوباء التي تمثل تحديًا استراتيجيًا طويل الأمد.من شأن تداعيات الأزمة على الولايات المتحدة، أن تسمح لبكين بقلب نتيجة الحرب التجارية التي جعلت الصين مضطرة للاستسلام لطلبات الولايات المتحدة، لكنها لن تكون بداية نظام دولي جديد.
غير أنَ مجلة “فورين أفيرز” التي نشرت مقالا للدبلوماسي الأمريكي ريتشارد هاس قال فيه إننا نمر في أزمة عظيمة بكل المقاييس ولذلك من الطبيعي أن نفترض أنها ستشكل نقطة تحول في التاريخ المعاصر.
ولكن العالم الذي سيخرج بعد الأزمة يمكن التعرف عليه. تضاؤل القيادة الأمريكية وترنح التعاون العالمي،والخلافات بين القوى العظمى: وكل هذه كانت موجودة قبل كوفيد -19، ويتوقع أن تكون أكثر بروزا بعده. وأحد مميزات الأزمة الحالية هو غياب القيادة الأمريكية، فلم تحشد أمريكا العالم لمكافحة المرض ولا الآثار الاقتصادية السلبية له. ولم تحشد أمريكا العالم ليحدوا حدوها في مكافحة المرض. فالدول الأخرى تقوم بأفضل ما تستطيع لتجاوز المحنة أو يطلبون العون من بلدان تجاوزت ذروة الإصابات مثل الصين للمساعدة.
وَلَكِنَّ إِن ْكَانَ الْعَالِمُ بَعْدَ الْأَزْمَةِ، عَالِمٌ يَتَنَاقَصُ فِيهِ نُفُوذَ أَمْرِيكَا، فَإِنَّ هَذَا التَّوَجُّهِ بِالْكَادِ أَمْرَ جَديدٍ، فَقَدْ كَانَ وَاضِحَا عَلَى مَدَى مَا لَا يَقِلُّ عَنْ عَقْدٍ مِنَ الزَّمَانِ.
وَهَذَا يَعُودُ إِلَى دَرَجَةٍ مَا إِلَى مَا وَصَفَهُ ْفَرِيد زَكَرِيَّا بِأَنَّهُ ” نَهْضَةُ الْبَقِيَّةِ”( وبالذات الصين)، وَالَّذِي جَلَبَ تَرَاجُعًا لِتَمَيُّزِ أَمْرِيكَا النِّسْبِيِّ بِالرَّغْمِ مِنْ بَقَاءِ اِقْتِصَادِهَا وَجَيَّشَهَا فِي حَالَةِ نُمُوٍّ.وَلَكِنَّ الْأَكْثَرَ مِنْ هَذَا هُوَ أَنَّ السَّبَبَ يَعُودُ لِتَرَاجُعِ الْإِرَادَةِ الْأَمْرِيكِيَّةِ وَلَيْسَ تَرَاجُعُ طَاقَتِهَا.
لقد أشرف الرئيس أوباما على الانسحاب من كل من أفغانستان والشرق الأوسط بينما قام ترامب في معظم الأحيان بتوظيف القوة الاقتصادية في مواجهته للأعداء. ولكنه أنهى تقريبا الوجود الأمريكي في سوريا ويسعى لفعل الشيء نفسه في أفغانستان وأكثر من ذلك فقد أظهر اهتماما قليلا بالمحافظة على التحالفات أو الحفاظ على الدور الأمريكي الرائد في التعامل مع القضايا العابرة للحدود.
وَكَانَ هَذَا التَّغَيُّرُ جُزْءًا كبيرًا مِنْ رِسَالَةِ ترامب الْاِنْتِخَابِيَّةِ ” أَمْرِيكَا أَوَلًا”، وَالَّتِي وَعَدَتْ أَنْ تَكُونَ أَمْرِيكَا أَقْوَى وَأَكْثَرَ ثَرَاءٍ إِنْ هِيَ قَلَّلَتْ مِنْ تَدَخُّلَاتِهَا الْخَارِجِيَّةِ وَرَكَّزَتْ طَاقَتَهَا عَلَى الْقَضَايَا الْمَحَلِّيَّةِ.وَيَنْطَوِي هَذَا ضِمْنيًا عَلَى أَنَّ مَا كَانَتْ أَمْرِيكَا تَفْعَلُهُ فِي أَنْحَاءِ الْعَالَمِ كَانَ تَبْذِيرَا وَغَيْرَ ضَرُورِيٍّ وَلَا عَلَاَّقَة لَهُ بِالرَفَّاهِ الْمَحَلِّيَّ.
وَبِالْنِّسْبَةِ لِكَثِيرِ مِنَ الأمريكان فَإِنَّ الْجَائِحَةَ سَتُكَرِّسُ هَذَا الْمَعْنَى بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّ الْعَكْسَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الصَّحِيحُ، حَيْثُ يَجِبُ أَنْ تُبْرِزَ الْجَائِحَةُ كَيْفَ يَمْكِنُ لِلرَفَّاهِ الْمَحَلِّيَّ أَنْ يَتَأَثَّرَ مِنْ بَقِيَّةِ الْعَالَمِ.كَمَا أَنَّ هُنَاكَ تَدَاعيَاتٍ لِلْخِيَارَاتِ السِّيَاسِيَّةِ الْأَمْرِيكِيَّةِ، هُنَاكَ تَدَاعيَاتٍ لِقُوَّةِ النَّمُوذَجِ الْأَمْرِيكِيِّ.فَقَبْلَ كوفيد- 19 بِفَتْرَةِ طَوِيلَةِ كَانَ هُنَاكَ تَرَاجُعٌ لِجَاذِبِيَّةِ النَّمُوذَجِ الْأَمْرِيكِيِّ.
وَذَلِكَ بِسَبَبِ الْجُمُودِ السِّيَاسِيِّ، وَعُنْفِ الْأسْلِحَةِ النَّارِيَّةِ، وَسُوءَ الْإِدَارَةِ الَّتِي أَدَّتْ إِلَى الْأَزْمَةِ الْمَالِيَّةِ عَامَ 2008 وَآفَةِ الْمُخَدِّرَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَجْعَلُ أَمْرِيكَا لَا تُبْدُوا نَمُوذَجًا يُحْتَذَى لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ.وَتَجَاوُبُ الْحُكُومَةِ الْفِيدِرَالِيَّةِ الْبَطِيءِ تُجَاهَ الْجَائِحَةِ سَيُكَرِّسُ وَجِهَةَ النَّظَرِ السَّائِدَةِ بِأَنَّ أَمْرِيكَا ضَلَّتْ الطَّرِيقَ.
وَالْجَائِحَةُ الَّتِي تَبْدَأُ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ ثُمَّ تَنْتَشِرُ بِسُرْعَةٍ كَبِيرَةٍ فِي أَنْحَاءِ الْعَالَمِ هِي بمنزلةِ تَحَدٍّ عَالَمِيٍّ.وَهِيَ دَليلٌ آَخَرٌ عَلَى أَنَّ الْعَوْلَمَةَ وَاقِعٌ وَلَيْسَ خِيَارٌ.فقد دَمَّرَتْ الْجَائِحَةُ الْبُلْدَانَ الْمُنْفَتِحَةَ وَالْمُغْلَقَةَ وَالْغَنِيَّةَ وَالْفَقِيرَةَ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ.
وَمَا هُوَ غَائِبٌ هُوَ أَيُّ مُؤَشِّرٍ عَلَى رَدَّةٍ فَعَلٍ عَالَمِيَّةٍ لَهَا مَعْنَى.
ولكِنَّ بينما جعلتْ الجائحةُ هذا الواقع واضحًا، كانت التوجهات المسبِّبة لذلك موجودةً قبلها ولا يتوقع أن يتغير شيء من هذا بعد الجائحة.وكانت المواجهة الرئيسية للجائحة على مستويات قومية أو حتى على مستوى المحافظات، بدلا من أن تكون على مستوى العالم. وعندما تنتهي الأزمة سيكون التركيز على التعافي القومي.
وفي هذا السياق من الصعب رؤية أي مجال لمعالجة التغيرات المناخية وخاصة إن بقي النظر إليها على أنها مشكلة بعيد المدى والتركيز بدلا منها على المشاكل المباشرة.وأحد أسباب التشاؤم هي أن التعاون بين أعظم قوتين في العالم ضروري لمعالجة التحديات العالمية، ولكن العلاقات الأمريكية الصينية تتراجع على مدى سنوات. والجائحة فاقمت من الاحتكاك بين البلدين.
ففي واشنطن يعتبر العديد الحكومة الصينية مسؤولة عن العدوى بما في ذلك فشلها في فرض إغلاق مباشر على ووهان، حيث بدأ تفشي الفيروس والسماح للآلاف بالمغادرة ونشر الفيروس إلى أماكن أبعد. أما الصين فتحاول أن تصور نفسها بأنها تقدم نموذجا ناجحا للتعامل مع الجائحة، واستخدام هذه الفرصة لتوسيع نفوذها في العالم سيزيد من عدوانية أمريكا.
وفي نفس الوقت، لا شيء في الأزمة الحالية سيجعل الصين تغير رأيها بأن التواجد الأمريكي في آسيا ليس إلا شذوذا تاريخيا ولن يقلل من استيائها من السياسة الأمريكية في عدد من القضايا مثل التجارة وحقوق الإنسان وتايوان.
كما أن فكرة “فصل الاقتصادين” اكتسبت زخما كبيرا قبل الجائحة، بدافع الخوف داخل أمريكا بأنها أصبحت تعتمد كثيرا في حاجتها للسلع الأساسية على عدو محتمل، وأنها معرضة للتجسس وسرقة الحقوق الفكرية من قبل الصين.والدافع لفصل الاقتصادين سيزيد بسبب الجائحة. وسيكون هناك قلق أكبر حول سلاسل الإمداد مما سيحفز التصنيع المحلي. وستتعافى التجارة العالمية جزئيا ولكن سيدار المزيد منها عن طريق الحكومات وليس السوق.
لماذا تفوقت الصين في مواجهة وباء كورونا؟
تعدُّ الصين من أولى الدول التي استطاعت الحد من الوباء إلى حد كبير، وفق ما أعلنته، بعد أن كانت سهام اللوم قد وجهت لها وبحدّة كمصدر للوباء من جهة، ولتأخرها في الإعلان عنه من جهة أخرى. بيد أن ذلك لا ينفي أنها بعد مرحلة أولى “كارثية” من بدء الوباء ثم انتشاره داخلها ثم في العالم، استطاعت محاصرته إلى حد كبير، لدرجة أنها “استعرضت” في الإعلان عن انتهاء الوباء لديها بمظاهر احتفالية واضحة، ما دفع الكثيرين لامتداح “النموذج الصيني” في مواجهة الجائحة.
الحقيقة أن النموذج الصيني يكاد يكون عصيا على الاتباع من معظم دول العالم. فمن جهة، لا تملك معظم دول العالم الإمكانات الجبارة التي استخدمتها الصين ماليا وطبيا وتقنيا، وربما كادرا بشريا، التي كان لها فضل كبير في الحد من انتشار المرض. ومن جهة أخرى، فإن طبيعة النظام الشمولي للصين واستخدام الجيش والقوة إن لزم الأمر في فرض العزل الصحي، وحظر التجول وإغلاق إقليم ووهان؛ قد أفادت كثيرا في استراتيجية المكافحة، وهو نظام مختلف تماما عن معظم دول العالم وغير مرغوب به، كما أن التزام الصينيين الحديدي والتام بتعليمات نظامهم، لن تتوفر على الأغلب لمعظم دول العالم الأخرى.
يقول الدكتور مولدي الأحمرفي تحليله لقدة الصين على مواجهة وباء كورونا، أفضل بكثير من الولايات المتحدة الأمريكية هل نجاح الصينيين وارتباك دول أوروبا وربما أميركا من قبيل المصادفة؟
في خطابه الذي  اعترف فيه بالنظام الحاكم في الصين سنة 1964، وصف الرئيس الفرنسي في حينه، شارل ديغول، هذا البلد بأنه “أقدم من التاريخ ذاته”، وغير عادي ومعقد. ولكن، هل الصين فعلا معقدة؟ بحسب هيغل وماركس وكبار منظّري الحداثة الغربية، وربما حتى ميشال فوكو، نعم هي كذلك. لماذا؟ لأنها من منظورهم لا تشبه أوروبا: الدولة المركزية البيروقراطية فيها قديمة جدا، وهذه الدولة لم تكن من صنع البورجوازية الليبرالية التي وحّدت المقاطعات الفيودالية الأوروبية بشعار “دعه يعمل دعه يمر”، ولم يخرج منها العقل تاريخا نابوليونيا، ليلتقي به هيغل على أبواب ألمانيا المحافظة، ولا يمكن تصنيفها في واحدةٍ من حلقات تعاقب أنماط الإنتاج التي عرفها التاريخ البشري بالمعنى الماركسي للعبارة، فلا هي كانت في زمن ماركس وأنجلز وكانتْ، ولا إقطاعية، ولا رأسمالية. ماذا كانت إذا؟ شيء آخر: نمط إنتاج آسوي، دقّق فيه لاحقا كارل فيتفوغل، ليكون نمط إنتاج قائما على إدارة الري في مجتمعات فلاحية.
في التحليل الماركسي، كما طوّره فيتفوغل، ليخرج به من حدود آسيا، وكما أثاره لاحقا بارنغتون مور وحتى بري أندرسون، أساسُ هذا النمط من الإنتاج هو إدارة الري الذي تقوم به دولة مركزية (إمبراطورية) قوية. تستخدم هذه الدولة جيشا ضخما من البيروقراطيين والتقنيين، وتلتحف بإيديولوجيا تمجّد التضحية والاستعداد للخدمة العامة. وتكمن قوة هذا التنظيم في أن حياة الفلاحين رهينة بقدرة الدولة على إدارة شؤون الري، سواء بتوفير الماء أو بحماية السكان من الفيضانات، بحيث تسقط الدولة – الامبراطورية أو تتجدّد وتستمر، بحسب درجة نجاحها في هذه المهمة، التي إما أن تجلب لها الموارد والقوة، أو تقود إلى إفلاسها وتداعيها. وكما أن الري حيوي للفلاحين، فإن مفتاح صيانته وتوفيره حكر على الدولة وجيش موظفيها الجرّار. في هذا النظام المُحكم، لا مكان لحرية فردية منفلتة، مفعمة بالرغبة الجامحة في تحقيق المصلحة الفردية، فمنظومة الري وقيامها وخرابها، وخصوصا رهاناتها السياسية والعلمية، أضخم بكثير من قوة الأفراد وحتى الجماعات، الذين لا يستطيعون تسخير الفلاحين للعمل في صيانة شبكات الري، كما تفعل ذلك الدولة المستبدّة، اعتمادا على القوة، وعلى إيديولوجيا الانضباط والتضحية التي تديرها، وعلى شبكة الموظفين والمهندسين المُكلفة.
لقد تطورت الصين منذ وصف علماء الغرب، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، نمط إنتاجها وحياتها، وأصبح لها اليوم اقتصاد رأسمالي ضخم في طريقه إلى الهيمنة على العالم، لكن  خاصيتها الأصلية لم تغادرها، فالمنفعة الفردية التي صنعت إيديولوجيا السوق ومؤسسة الدولة في الغرب لم تصنع بعد الدولة في الصين، وليست قادرة حتى اليوم على تفكيك الإيديولوجيا الكونفوشيوسية كما تتمنّى أميركا والغرب عموما، وظهر أن فردانية رأسمالييها، ومنفعيتهم، كونفوشيوسية أصلا، وإن كانت استبدادية، (صحيفة العربي الجديد بتاريخ 24مارس 2020).
خاتمة:انهيار هرم اللصوصية الفاسدة في النظام الرأسمالي الليبرالي الأمريكي
لقد مثلت الماركسية في عهد ماركس أول حركة فكرية نقدية جدِّية للرأسمالية في مرحلتها الأولى، مرحلة الثورة الصناعية الأولى. فانصب جهد ماركس النظري على نقد الرأسمالية في مراحلها الإنتقالية الأولى التي مرَّت بها الميركنتيلية أو الرأسمالية التجارية، ثم الرأسمالية الصناعية، حيث كان التوسع الصفة الملازمة للرأسمالية في الماضي والحاضر. إلا أن التوسع الرأسمالي مختلف عن توسع الإمبراطوريات القديمة في منطقه وآلياته ووتائره ووسائله. فقد بدأ التوسع الرأسمالي مع تنامي النزعة التجارية، الميركنتيلية، التي قادت إلى إستعمار معظم البلدان المتأخرة، وإلى هيمنة إمبريالية أمريكية بعد استقلالها.
أما الثورة النيو ليبرالية التي جاءت عقب أزمة الرأسمالية الاحتكارية في عقد السبعينيات من القرن العشرين،فقد كانت الجواب التاريخي الذي تقدمه البرجوازية الإحتكارية لأزمة الرأسمالية العالمية من أجل تحجيم دور الدولة في النشاط الاقتصادي والإجتماعي، وخفض معدلات الضرائب على الدخول والثروات المرتفعة، وإطلاق العنان لقوى السوق العمياء في بيئة يغلب عليها طابع الإحتكار،وحل أزمات الرأسمالية، وبالذات أزمة التضخم، التي لن تتم إلا في ضوء القبول الواسع بالبطالة وبالتالي قبول التحول من الإفقار النسبي إلى الإفقار المطلق داخل البلدان الرأسمالية،بعد أن تم التخلي تماما عن هدف التوظيف الكامل كأحد مرتكزات الدولة الكينزية.
في ظل الوباء العالمي المستجد كورونا، تشهد الشعوب قاطبة المأزق التاريخي الذي وصلت إليه العولمة الليبرالية الأمريكية المتوحشة .إنَّها مرحلة أفول امبراطورية واحدة وتدعى PaxAmericana القائمة على السلطة اللصوصية- الفاسدة للدولار، حيث تتربع الولايات المتحدة الأمريكية على رأسها،خدمة لمصلحة رأس المال الأمريكي الشمالي الذي انطلق يبحث قائلاً: إنّ العولمة هي عملية تقدم المصالح الأمريكية في جميع أنحاء العالم.لكِنَّ هذه العولمة المتوحشة الأمريكية أظهرت عجزها الفاضح في مقاومة جائحة كورونا البيولوجية الفيضانية،لأنها كشفت عن بنيتها التحتية الرثة في مجال الصحة،والطب.
أما أزمة العولمة الليبرالية الأمريكية المتوحشة،فقد وصلت إلى درجة لم يسبق لها مثيل إلا في الأزمات التاريخية الكبرى مثل الكساد الأعظم أو الكساد العظيم great depression عام 1929م وأزمة 2008م. ويتوقع الكثير من الاقتصاديين أن ما سيحدث الآن أسوأ بكثير مما حدث في الكساد العظيم، والسبب في ذلك أن الاقتصاد العالمي يعتمد بشكل أكبر من أي وقت مضى على حالة من التواصل المركب والعولمة المعتمدة على بعضها، حيث أن الكل يتأثر بالكل؛ فمنذ أن بدأت الأزمة في الصين وانتشرت تدريجيا بدأت الأسواق في الانهيار في باقي أنحاء العالم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى