استهداف الفقر ليس الحل لسياسة اجتماعية تشتد الحاجة إليها

 

في خطوة تهدف إلى التخفيف من التداعيات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن فيروس كوفيد-19 (كورونا)، أعلنت الحكومة اللبنانية هذا الأسبوع عن توزيع مساعدات غذائية وأدوات تنظيف على عدد من الأُسر المحتاجة، في إطار البرنامج الوطني لدعم الأُسر الأكثر فقراً. أُطلق هذا البرنامج بميزانية أولية قدرها 28 مليون دولار تَقرّر توزيعها على الأُسر المحتاجة على شكل منافع وزيادتها تدريجياً على مرّ السنين، وهو البرنامج الوحيد المخصص للقضاء على الفقر وتقديم المساعدات النقدية في لبنان منذ العام 2012. وفي ظلّ نشوب الأزمة الاقتصادية والمالية في تشرين الأول 2019 وارتفاع معدلات البطالة في العام 2020، كما كان متوقعاً، اتخذت الحكومة قراراً برفع ميزانية البرنامج إلى 452 مليون دولار من خلال قرض من البنك الدولي.

وقد اكتسب البرنامج الوطني لدعم الأُسر الأكثر فقراً أهمية إضافية اليوم في ضوء تفشي فيروس كورونا. فالسلطات اللبنانية تكافح منذ شباط 2020 لاحتواء الفيروس وقد فرضت لهذه الغاية إجراءات عزل على صعيد البلد بأسره ابتداءً من 13 آذار، ما تسبب في خسارة الكثيرين مدخولهم اليومي. وقد أدّى العزل إلى زيادة الأعباء على الفئات المستضعفة وتلك المعرضة أكثر من غيرها للعيش تحت خط الفقر، بالإضافة إلى انعكاساته على سياسات الحماية الاجتماعية الضعيفة أساساً وعلى نظام الرعاية الصحية المحدود الموارد. فإجراءات العزل تشكل خطراً كبيراً على معيشة العمّال غير النظاميين والعمّال الذين يتقاضون أجراً يومياً والموظفين والأفراد العاملين على حسابهم الخاص وعائلاتهم الذين يرزحون تحت وطأة سياسة الكابيتال كونترول وتدابير خفض الرواتب والتسريح غير القانوني من العمل.

ومع أنّ بعض الحلول السياساتية قد طُرحت لمعالجة هذه المشكلة، من قبيل التعويض الفوري عن الأجور للأفراد الأكثر تأثراً بالأزمة، إلا أنّ البرنامج الوطني لدعم الأُسر الأكثر فقراً يبقى المبادرة الحكومية الوحيدة الهادفة إلى مكافحة الفقر في بلد يَشوبُه انعدام المساواة. ومن هنا التساؤل الذي ربما لا يأتي بأي جديد ويستوحي من تاريخ مكافحة الفقر: هل يظل عدم المساواة مصدراً للقلق لو تقلّص حجم الفقر؟

لطالما وُصفت المساعدات النقدية بأنّها حلّ سريع لتحقيق التنمية واعتُبرت فعالة في معالجة حالات الحرمان في فترة قصيرة، أضِف أنّها منخفضة التكلفة نسبياً مقارنةً ببرامج الحماية الاجتماعية الأخرى. وعند النظر إلى خصائص البرنامج الوطني لدعم الأُسر الأكثر فقراً وآثاره ومحدودياته، نرى أنّه يقدّم دعماً كبيراً إلى الأُسر الأكثر فقراً، لكنّ منافعه محدودة على المدى البعيد. وتُعزى محدوديات البرنامج إلى طبيعة التنمية الاجتماعية والسياسية في لبنان وأيضاً إلى الأسس النيوليبرالية للمساعدات النقدية. وبالتالي، إذا أردنا تحقيق نتائج أفضل، لا بدّ من تعميم الخدمات الاجتماعية في لبنان لكي تصبح شمولية.

الفقر وعدم المساواة والسياسات الاجتماعية في لبنان

الفقر في لبنان مشكلة مزمنة أُجريت محاولات عدّة لقياس حجمها منذ العام 1960 في ظلّ غياب البيانات الموثوقة والمتّسقة. وقد أظهرت الدراسة الأولى حول الفقر التي أجراها معهد IRFED (1) الفرنسي غير الحكومي بناءً على طلب رئيس الجمهورية الأسبق فؤاد شهاب في العام 1961 أنّ 50% من السكّان يعيشون تحت خط الفقر وأنّ جيوب الفقر تنتشر في الدرجة الأولى في شمال لبنان والبقاع. وبعد أكثر من 40 سنة، أشارت دراسة أخرى أجراها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى انتشار جيوب الفقر بشكل كبير في البقاع وشمال لبنان وإلى بلوغ معدل الفقر 28,5% في العام 2005. (2) إلى ذلك، أظهر مسح ميزانية الأُسرة للعام 2011-2012 الذي أجرته إدارة الإحصاء المركزي أن 27% من السكان هم فقراء، وأن معدلات الفقر في شمال لبنان والبقاع أعلى منها في بيروت وجبل لبنان، تماماً كما بيّنت الدراستان المذكورتان آنفاً.

لقد كان الهدف الأساسيّ من سياسات الحماية الاجتماعية في لبنان القضاء على الفقر المدقع أو الحدّ من عدم المساواة أو تعزيز المواطنية. لكنّ السياسات الاجتماعية أدّت إلى حصول الطبقتين الوسطى والغنية على خدمات كافية ومناسبة من القطاع الخاص المدعوم على حساب الطبقة الفقيرة التي تعرضت للتهميش. فتلقى العمّال الأوفر حظاً نسبياً، مقارنةً بالعمّال الآخرين كالعمّال غير النظاميين، دعماً حكومياً هشاً وغيرعادل عبر التأمين الصحي والمخصصات العائلية وتعويضات نهاية الخدمة، وإن كان هذا الدعم محدوداً من الناحيتين الكمية والنوعية. فضلاً عن ذلك، لا تقدّم الحكومة حالياً مزايا إلى العاطلين عن العمل ولا تأمينات ضدّ الإعاقة وحوادث العمل. ولا يزال معظم العمّال غير النظاميين محرومين من الحماية الاجتماعية، كعمّال البناء والعمّال المنزليين والموسميين والزراعيين والمهاجرين، بالإضافة إلى العاطلين عن العمل والمتقاعدين والأفراد الذين يعملون لحسابهم الخاص. وبحسب مسح القوى العاملة للعام 2018-2019 الذي أجرته إدارة الإحصاء المركزيّ، لا يستفيد 44% من المقيمين في لبنان من أيّ شكل من أشكال الحماية الاجتماعية.

ويؤدي هذا الوضع إلى الاعتماد المتزايد على الخدمات التي تقدّمها المنظمات الطائفية، ما يُضعف الروابط بين المواطنين والدولة أكثر فأكثر. فهذا النوع من برامج الدعم يساهم في تغلغل العلاقات الطائفية التقليدية القائمة على الزبائنية، والأهمّ من ذلك، في استمرار الفقر. وفي هذا السياق، قال دايفيد موس إنّ “العمليات الاجتماعية التي تساهم في استمرار الفقر وعدم المساواة تشمل التهميش ورسم الحدود بين الفئات الاجتماعية، ما يسلط الضوء بشكل خاص على أهمية تأثيرات الهوية والتصنيف الاجتماعي”. (3)
وبالتالي، بدلاً من إعداد برامج شاملة تموّلها الضرائب التصاعدية، لجأت “دولة الحدّ الأدنى” النيوليبرالية إلى تقديم خدمات فردية مموّلة من شركات التأمين الخاصة ومستكمَلة ببرامج ضعيفة ومتواضعة، بما في ذلك استهداف الفقر.

تطور الخطة الوطنية لدعم الأُسر الأكثر فقراً

أنشأت الحكومة اللبنانيّة، في إطار التزامها بالحدّ من الفقر المدقع في مؤتمر باريس 3 للدول المانحة في العام 2007، آلية لاستهداف الفقر تنفّذها وزارة الشؤون الاجتماعية بدعم من برنامج تابع للبنك الدولي. وتهدف هذه الآلية إلى تقديم المساعدات النقدية المباشرة وغيرها من الخدمات أو الإعفاءات إلى عدد من الأُسر الفقيرة المؤهلة للاستفادة منها.

وأُطلق البرنامج الوطنيّ لدعم الأُسر الأكثر فقراً في العام 2012 تزامناً مع حملة وطنية لدعوة الأُسر الفقيرة إلى التقدّم بطلبات للاستفادة من البرنامج. ولجأت الدولة إلى منهجية الاختبار بالوسائل غير المباشرة من أجل قياس أهلية الأُسر للاستفادة من البرنامج، وذلك عن طريق مقياس يُستخدم لتصنيف الأُسر استناداً إلى مجموعة من الخصائص القابلة للقياس تحددها الأُسر بنفسها ويرصدها العاملون الاجتماعيون.

وتضمّ قاعدة بيانات البرنامج اليوم 150 ألف أسرة تقدّمت بطلبات للاستفادة من البرنامج، منها 43 ألف أسرة تمّ اختيارها للاستفادة من عدد محدود من خدمات الأمان الاجتماعيّ الآتية: 1) بطاقات إلكترونية لشراء الأغذية المخصصة لـ 15 ألف أسرة فقط ابتداءً من شباط 2020 كجزء من التدابير التي اتُخذت مؤخراً لتوسيع نطاق البرنامج، و2) الإعفاء من دفع تكاليف الخدمات الصحية التي تؤمّنها وزارة الصحة العامة، و3) مساعدات نقدية تغطي رسوم التسجيل في المدارس العامة. للوهلة الأولى، تبدو سلّة المنافع محدودة جداً، أي إنّ بعض الأفراد المصنّفون في خانة الفقر قد لا يحصلون على المساعدة بسبب أنواع المنافع التي يقدّمها البرنامج.

محدوديات البرنامج الوطنيّ لدعم الأسر الأكثر فقراً

تحدّ عوامل متعددة من أثر البرنامج على الأسر المحتاجة. أوّلاً، تكون معظم برامج الاستهداف منخفضة التكلفة. وبشكل عام، بالكاد تصل كلفة برامج الاستهداف، حتّى الكبيرة منها، إلى 0,5% من الناتج المحلي الإجمالي، علماً أن كلفة الدفعة الثانية من البرنامج الوطنيّ في لبنان ستبلغ حوالي 1% من الناتج المحلي الإجمالي. وكما هي حال معظم برامج الاستهداف، لا تكفي ميزانية البرنامج الوطنيّ اللبنانيّ لدعم النموّ الاقتصادي أو تحسين معيشة الفقراء أو زيادة مواردهم أو حتى قدرتهم على كسب المال.

ثانياً، يعاني برنامج الاستهداف من ثغرتين اثنتين هما تهميش الأفراد المؤهلين للاستفادة منه ودمج الأفراد غير الفقراء. فعلى سبيل المثال، قد لا يحظى المسنّون الذي يعيشون بمفردهم وليس لديهم أولاد في سنّ المدرسة بفرص متساوية للاستفادة من البرنامج بسبب آلية ومعايير الاختيار. وقد يختار القيّمون على البرنامج مساعدة أفراد أقلّ احتياجاً من غيرهم إلا إذا كان بإمكانهم التحقق من البيانات المجموعة لمعرفة ما إذا كان مقدّمو الطلبات يستفيدون من برامج اجتماعية أخرى.
ثالثاً، يبدو أنّ البرنامج يفتقر إلى استراتيجية تسمح بتغيير المستفيدين بعد مرور فترة معينة من الزمن. فممّا لا شكّ فيه أنّ أيّ برنامج من هذا النوع لا يستطيع استبقاء المستفيدين منه وإضافة مستفيدين جدد، ولا سيّما أنّ التمويل محدود.

رابعاً، تكون التكاليف التشغيلية لبرامج استهداف الفقر مرتفعة عادةً بسبب خصائص الخطط على صعيد الاستهداف والاختيار وتوزيع المنافع والإدارة والتقييم. وفي هذا الإطار، يعاني البرنامج الوطنيّ من مشكلة التوظيف المفرط للعاملين الاجتماعيين.

أخيراً، تقوّض برامج الاستهداف التلاحم الاجتماعيّ. فهي تتجاوز المنظمات التي تسعى شرعياً إلى تقديم خدمات اجتماعية، كالنقابات العمالية والمنظمات المجتمعية والمؤسسات البحثية، وتجيز الإنفاق المحدود على الرعاية الاجتماعية. أضف إلى ذلك أنّ برامج الاستهداف متجذرة في نظام طائفيّ، وقد تستند بالتالي إلى أسس طائفية في عمليتي الاختيار والتوزيع. وقد تؤدي أيضاً إلى إقصاء غير الفقراء الذين يساهمون في هذه البرامج من خلال الضرائب لكنهم لا يشاركون في القرارات المتعلقة بطريقة صرف أموالهم.

الخطوات المستقبلية

لا يمكن تعريف الفقر بأنّه العجز عن الوصول إلى مستوى معيّن من الدخل لأنّ هذا التعريف يعني أنّه يمكن القضاء على الفقر من خلال برامج الاستهداف. فهذه البرامج تساهم في الواقع في معالجة مظاهر الفقر وعدم المساواة ليس إلا ولا تتطرق إلى الهيكليات الاجتماعية والاقتصادية المسؤولة عن هاتين المشكلتين.

في هذا الإطار، يشرح ألفريدو سعد-فيلهو، في دراسته حول المساعدات النقدية في البرازيل وبرنامج الرفاه الاجتماعيّ الحكوميّ الشهير “بولسا فاميليا” (Bolsa Familia)، أنّ القضاء على الفقر يتطلب “إجراء تحسينات في سوق العمل، والحدّ من الهيمنة النخبوية على الأصول الإنتاجية، وتوفير الخدمات الأساسية للجميع مجاناً، بما في ذلك الخدمات الصحية والتعليمية وخدمات النقل العامّ والمياه. ويمكن إرفاق هذه التدابير ببرنامج لاستهداف الفقر وبمساعدات نقدية وقسائم غذائية، لكن لا يمكن استبدالها بها”. لقد أظهرت التجربة البرازيلية أنّ المساعدات النقدية ساهمت في انخفاض معامل “جيني” (مقياس إحصائيّ يُستخدم لقياس عدم المساواة الاقتصادية) بمقدار الثلث فيما ساهم نموّ الوظائف وإضفاء الطابع النظامي على الوظائف وزيادة الحدّ الأدنى للأجور في انخفاض هذا المقياس بمقدار الثلثين. (4)

أمّا العائق الأكبر أمام تعميم الخدمات وصياغة سياسات تراعي مصالح الفقراء فهو غياب الإرادة السياسية للتصدي للأفكار النيوليبرالية والمصالح المتجذرة للنخب الحاكمة والجهات المانحة، بدلاً من الاكتفاء بإجراء تغييرات هيكلية. فحتّى لو انخفضت معدلات الفقر في لبنان، تبقى معالجة الأسباب الهيكلية المسؤولة عن استمرار عدم المساواة النهج الرئيسي المفترَض اتباعه لمكافحة الفقر.

1) المعهد الدولي اللبحوث والتدريب من أجل التعليم والتنمية.
2) برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. 2008. “الفقر والنمو وتوزيع الدخل في لبنان”.
3) موس، د. 2010. “نهج علائقيّ تجاه استمرار الفقر وعدم المساواة والسلطة” (A Relational Approach to Durable Poverty, Inequality, and (Power مجلة الدراسات التنموية، المجلّد 46، العدد 7.
4) سعد-فيلهو، أ. “برنامج “بولسا فاميليا” في البرازيل”. التنمية والتغيير 46(6): 1252-1227.

 *باحثة في مؤسسة البحوث والاستشارات ومحاضِرة في الدراسات التنموية في الجامعة الأميركية في بيروت والجامعة اللبنانية الأميركية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى