اردوغان يهوي بتركيا من ذرى “صفر مشاكل” إلى حضيض” صفر استقرار”

تغيرت ملامح السياسة الخارجية التركية في السنوات الأخيرة تغيرا جذريا بعدما نسفت سياسة رئيسها رجب طيب أردوغان مبادئها التي تتلخص في مقولة مصطفى كمال أتاتورك “تركيا ليست لها رغبة في إنش من أراضي الغير ولكنها لن تتخلى عن إنش من ترابها”. اليوم صار اسم تركيا حاضرا عند الحديث عن الأجندات التخريبية والتدخلات الخارجية التي تتسبب في صناعة المشاكل وإثارة الفوضى في عدة دول.
ففي مقال نشرته مجلة فورين بوليسي الأميركية، بتاريخ 20 مايو 2010، قدّم أحمد داود أوغلو، الذي كان يشتغل منصب وزير الخارجية في ذلك الوقت، لرؤيته في السياسة الخارجية، والتي تقوم على تصفير المشاكل مع الجيران، وكانت لتنجح لولا سياسات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التي تقوم على افتعال المشاكل، وأفشلت علاقات تركيا مع عديد الدول.
حملت هذه السياسة ملامح الدبلوماسية التركية الأتاتوركية، من حيث تصفير المشاكل، لكنها حملت بعض النقاط التي تعكس طبيعة العثمانيين الجدد مثلا عند الحديث عن “الدولة القومية” التي يقع على عاتقها إيجاد حلول للاضطراب السياسي والثقافي والاقتصادي العالمي الذي من المرجح أن يستمر للعقد القادم وما بعده”.
نظّرت استراتيجية أوغلو لعدة مبادئ رئيسية للسياسة الخارجية، تمثلت في ما وصفه بالتوازن في معادلة الأمن والحريات، وصفر مشاكل مع دول الجوار، وسياسة خارجية متعددة الأبعاد، بالإضافة إلى سياسة إقليمية استباقية ونشطة، ضمن ما وصفه بأسلوب دبلوماسي جديد ودبلوماسية إيقاعية.
كان داود أوغلو يبني أحلاما كبيرة على سياسته تلك، وهو الأكاديمي الذي تصادم مع زعيمه رجب طيب أردوغان بعد ذلك، وفُرض عليه نوع من التهميش والإقصاء من قبل أردوغان، ثم عاد بقوة مؤخّرا إلى المشهد السياسيّ، من خلال حزب منافس للعدالة والتنمية، وهو حزب المستقبل.
حافظ أردوغان على بعض تفاصيل هذه السياسة، بعد إقصاء أحمد داود أوغلو، لكنه في نفس الوقت استثمر في ما حققته هذه السياسة، على مدى السنوات التي عمل فيها أوغلو وزيرا للخارجية، والتي سبقت تحولات الربيع العربي في 2011، بشكل حوّل البلاد إلى صانعة مشاكل ومؤسسة للفوضى.
اليوم، يتابع معارضون أتراك صورة بلادهم على المستوى الدولي متسائلين: أين تركيا من تلك المبادئ التي أعلنت عنها؟ مَن يتحمّل أعباء انهيار العلاقات التركية مع دول الجوار، ومع الدول الأوروبية، وحتى الولايات المتحدة؟ لماذا ابتعد أردوغان عن تلك السياسة المفترضة وتوجّه إلى سياسة توصف بالعدوانية والتوسعية تروم تحقيق أطماع شخصية؟ وإلى متى ستبقى تركيا رهينة أطماع أردوغان الذي يورّطها بحروب عبثية في سوريا وليبيا، ويعمل على توسيع تنظيم الإخوان المسلمين العالمي الذي يشكل أساس مشروعه المزعوم؟ ما جدوى التورّط في مناكفات سياسية مع الحلفاء في الاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي؟
دولة الرئيس
قبل سنوات، وعد الرئيس التركي باحتفالية ضخمة في الذكرى المئوية للجمهورية التركية الحديثة (سنة 2023)، ستتوج سلسلة من الأهداف الطموحة التي حققها حزب العدالة والتنمية. لكن، في السنة الماضية، قال أردوغان إن أهداف مئوية الجمهورية التركية ستتأخر. وبرر ذلك بما شهده الاقتصاد التركي من تراجع، في حين قال معارضون أتراك إن الأمر يتجاوز وضع الاقتصاد الصعب وتأثيراته إلى سياسات أردوغان التي تهدد بتحويل الجمهورية التركية إلى دولة فاشلة.
ويشير محللون، في موقع أحوال تركية، إلى أنّ الرئيس أردوغان استغلّ تكريس سلطة حزب العدالة والتنمية من أجل ترسيخ سلطته الشخصية كزعيم أوحد لا تمكن مناقشته أو معارضته، ولاسيما أنّه أقصى من حوله تباعا جميع الشخصيات الوازنة ذات الثقل في الحزب، كي ينفرد بالسلطة والقرار، ويؤسس دكتاتوريته الشخصية، على حساب إضعاف مؤسسات الدولة وتهميشها.
بدأ أردوغان بإقصاء الأصوات التي كان يرى فيها تهديدا على نفوذه وزعامته داخل حزب العدالة والتنمية، وقام بتهميشهم، كأحمد داود أوغلو، وعلي باباجان، وعبدالله غول. وصدّر قيادات تذعن لأوامره، ولا تفكر بمعارضته أو مناقشته، أو الوقوف في وجهه، لأنّ طموحه بالزعامة الفردية كان يقوده في عملية القضاء على الشخصيات التي يمكن أن تنافسه.
وبعد أن قام بعملية التطهير داخل حزبه. وصاغ قيادة جديدة تعتمد على التكسّب من الامتيازات والمنافع، أعاد وضع مبادئ سياسته الخارجية واستراتيجيته الجديدة، بعيدا عن سياسة تصفير المشاكل، بل انتقل إلى الجانب الهجومي، وبدأ بافتعال المشاكل، وتوريط تركيا في الأزمات، ما أوقعها في سلسلة متتالية من الأزمات السياسية والاقتصادية، داخليا وخارجيا، لا تزال تداعياتها وتأثيراتها تتّسع باطّراد وتثقل كواهل المواطنين الأتراك.
الرئيس أردوغان استغلّ تكريس سلطة حزب العدالة والتنمية من أجل ترسيخ سلطته الشخصية كزعيم أوحد لا تمكن مناقشته أو معارضته كي ينفرد بالسلطة والقرار
وسّع أردوغان دائرة التهميش والانتقام، واستغلّ محاولة الانقلاب الفاشلة في منتصف يوليو 2016، من أجل تطهير مؤسسات الدولة ممّن يشتبه بأنّهم معارضون له، أو قد يعارضون، أو من أولئك الذين لا يرضخون لإملاءاته وشروطه. وقام بالتنكيل بعشرات الألوف من المواطنين الأتراك في مؤسساتهم، وطردهم منها بذريعة الاشتباه بصلاتهم مع الداعية فتح الله غولن الذي كان صديقه وداعمه سابقا.
كما تمادى الرئيس التركي بممارساته للقضاء على خصومه المحتملين داخل المؤسسة العسكرية، وأعاد صياغة هويتها العقائدية، ليحوّل الجيش التركي من حارس للعلمانية، إلى حارس لحزبه الإسلامي الحاكم، بعد أن اعتقل العشرات من القيادات ذات الرتب العالية بذريعة المشاركة في الانقلاب أو التواصل مع الانقلابيين. وبعد تلك العمليات التي قسّمت المجتمع التركي إلى أنصار أردوغان وأعدائه، وخلّفت شروخا عميقة في بنيته، أطلق الأستاذ الجامعي دويغون يارسوفات، الرئيس البارز لمؤسسة القانون الجنائي التركي، تحذيرا قال فيه “إذا أخذنا بالحسبان الهيمنة غير القانونية على البلاد والعنف المتصاعد، فالجمهورية التركية على شفير أن تصبح دولة فاشلة”.
وفي نوفمبر من العام 2016، وضعت مجلة إيكونوميست عنوانا يرثي لحال تركيا الجديدة في ظل حكم الرئيس رجب طيب أردوغان، قالت فيه وداعا لـ”الجمهورية”.
وتكرّرت التحذيرات من قبل محلّلين ومفكرين وعلماء اجتماع من أن لاضمحلال سيادة القانون عواقب لا تترتب على السياسة فحسب، بل كذلك على جوانب الحياة الاجتماعية كافة.
تفتيت مؤسسات الدولة
يلفت المحللون إلى أنّ أردوغان يواصل تفتيت مؤسسات الدولة وإضعافها من أجل أن يجد الأتراك فيه المنقذ والمخلّص، وتراه يمارس أسلوبه الذي أصبح يعرف بالهروب إلى الأمام، والإبقاء على افتعال الأزمات وتوريط البلاد في حروب مع دول الجوار، وتصوير تركيا على أنّها دولة مارقة تمارس سياسة الابتزاز بحقّ الحلفاء، كحالة أردوغان في ابتزازه للاتحاد الأوروبي باللاجئين الذين يلقي بهم على الحدود الأوروبية، ويستعملهم كسلاح للضغط والابتزاز.
اليوم، ترزح تركيا تحت أعباء مشاكل كثيرة تحاصرها وتثقل كاهلها. فالأزمة الاقتصادية لا تزال ضاغطة منذ أكثر من عامين.
وفقدت الليرة على إثرها أكثر من أربعين بالمئة من قيمتها. ناهيك عن الأزمات السياسية الداخلية الناجمة عن سياسات أردوغان، وإصراره على تقديم نفسه كمخلّص لتركيا ومؤسس للجمهورية الحديثة، منقلبا على إرث مصطفى كمال أتاتورك، ومبلورا هوية خاصة بحزبه الإسلامي الحاكم، زاعما أنه يعيد بناء مشروع نهضوي يقتدي بالأمجاد العثمانية ويستعيدها بشكل أو آخر.
ومن هنا يحذّر معارضون أتراك من مغبّة التمادي في السياسات العدوانية، وأساليب الابتزاز السياسي، كي لا تتشوّه صورة تركيا أكثر، وعسى أن يكون هناك مجال لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مؤسسات حكومية، قبل أن تقع في هاوية الفشل الشامل، وتتجاوز حدود تدارك الكوارث وإمكانيات الإصلاح المفترضة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى