أردوغان يفقد زمام المبادرة ويورط تركيا في مغامرات عبثية شرقا وغربا

نجح سلوك أنقرة العدواني تجاه جوارها الإقليمي وتبنيها لاستراتيجيات هدامة مرتكزة على استخدام التنظيمات الإرهابية لتنفيذ أجنداتها، في زعزعة استقرار المنطقة وتفكيك وحدة دولها، في مسعى لتحقيق أطماع لم تبارح خيالات زعيمها رجب طيب أردوغان بالهيمنة والتمدد، لكن الخسارة الأساس التي جناها كانت عزلة متزايدة لبلاده ورفضا للتعامل معها. وقد دفع استشعار العزلة أردوغان لتوجيه انتقادات لموسكو رأى فيها مراقبون أنها تندرج في إطار تكتيك لاسترضاء الفصائل السورية القريبة من أنقرة والتي يعمل الرئيس التركي على إرسال الآلاف من مقاتليها نحو ليبيا لدعم الجهد التركي العسكري في دعم حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج في طرابلس.

لقد عمد هذا الاردوغان إلى السير على خيط رفيع في علاقاته الدولية بين الشرق والغرب، لكن تهوره واندفاعه المبالغ فيهما جراه إلى الفشل في الإمساك بزمام المبادرة في أي ملف أو نسج علاقات متينة مع أي بلد، وهو ما فاقم من عزلة تركيا في محيطها الإقليمي والدولي.
وبرهنت الانتقادات الأخيرة التي وجهها الرئيس التركي لروسيا عن تقلب متواصل في حسابات السياسة الخارجية لأنقرة، وهو الأمر الذي أثر سلبا على العلاقات التركية مع القوى الغربية والدول العربية لتأخذ منحى خطيرا، عقب التدخلات التركية في سوريا وليبيا والعراق وتزعمها لحركات الإسلام السياسي ناهيك عن رغبتها في الحصول على غاز المتوسط.
غير أن مراقبين في تركيا شككوا بجدية الانتقادات التي وجهها الرئيس التركي أردوغان ضد روسيا جراء القصف العنيف الذي تشنه قوات النظام السوري مدعومة بغطاء جوي روسي ضد محافظة إدلب شمال غرب سوريا.

اندفاع غير محسوب

يعتبر هؤلاء أن المعارك التي يخوضها تحالف دمشق موسكو طهران ضد مناطق تسيطر عليها فصائل المعارضة السورية الموالية لأنقرة، تسبب إحراجا حقيقيا لأردوغان وحكومة حزب العدالة والتنمية في تركيا، كما تربك كل السياسة الخارجية التركية التي تنتهجها، سواء في ملف سوريا أو ملف النزاع في البحر المتوسط أو ذلك في ليبيا.
لكن المراقبين يعتبرون أن تركيا باتت في موقف ضعيف أمام روسيا بسبب ما يربط البلدين من علاقات اقتصادية باتت متقدمة وحيوية بالنسبة لأنقرة، وأن مرور أنبوب الغاز الروسي عبر تركيا كطريق لوصوله إلى أوروبا جعل من تركيا بلدا مرتهنا لهذا التحول الجيواستراتيجي.
وبناء على ذلك يعتبر المراقبون أن انتقادات أردوغان لموسكو وحديثه عن موت عمليتي أستانة وسوتشي مجرد توزيع أدوار يتشارك في لعبها مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين.
لهجة الحزم في الإشارة إلى روسيا مباشرة بعد أن كانت الانتقادات توجه إلى دمشق والميليشيات التابعة لها، تهدف إلى تهدئة الفصائل السورية القريبة من أنقرة والتي يعمل بعضها على إرسال الآلاف من مقاتليها نحو ليبيا لدعم الجهد التركي العسكري في دعم حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج في طرابلس.
وكان أردوغان قد قال إن روسيا “لا تمتثل” لاتفاق سوتشي لعام 2018 لإنشاء منطقة منزوعة السلاح حول آخر معقل للمتمردين السوريين حيث يستمر تقدم قوات النظام السوري على الحدود المتاخمة لتركيا في ريف حلب ومدن إدلب. وأضاف الأربعاء “أصبحت عملية أستانة محتضرة”، وأنه “يجب على تركيا وروسيا وإيران البحث عن وسيلة لإحيائها”.
ويعتقد متخصصون في الشؤون التركية أن أردوغان الذي سبق له أن قبل بالضغط على المعارضة للانسحاب من مناطق استراتيجية وتسليمها للقوات الروسية وقوات النظام، لاسيما حلب، لن يتردد في تسليم مناطق جديدة مقابل صفقة ما قد تطال سيطرة تركيا على مناطق تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية في شرق سوريا، وهي ميليشيات لطالما اعتبرها الجانب التركي إرهابية تسيطر عليها وحدات حماية الشعب الكردية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني في تركيا والذي تعتبره تركيا ودول كثيرة، لاسيما الولايات المتحدة، إرهابيا.

عزلة دولية

يضيف هؤلاء أن أردوغان لا يملك ترف فتح معركة مع موسكو حول الشأن السوري في وقت باتت فيه أولوية تركيا الأمنية تتركز على “الخطر الكردي”، خصوصا أن الاجتماع الأمني الذي ضم مؤخرا رئيس مكتب الأمن الوطني السوري اللواء علي مملوك ورئيس جهاز الاستخبارات التركية حقان فيدان بدأ يحضر لمرحلة سيكون فيها الجيش التركي وجيش النظام في سوريا على تماس مباشر إذا ما تمت لدمشق السيطرة على إدلب، بما يعني أن أنقرة بدأت تعبر ضمنا عن استعدادها للتخلي عن إدلب مقابل ضمانات تقدمها دمشق وموسكو بشل قدرات الأكراد على تشكيل تهديد ضد تركيا.
وترى مصادر دبلوماسية أن أردوغان ليس جديا في الدخول في مواجهة مع روسيا في وقت تعاني فيه بلاده من شبه عزلة بسبب الموقف الأوروبي الأميركي الرافض للدور التركي في ليبيا، كما رفضت هذه القوى التحركات التركية المهددة لعمليات التنقيب التي تقوم بها دول عديدة في شرق المتوسط، لاسيما قبرص واليونان.
وكانت باريس قد وجهت انتقادات لاذعة لأنقرة بشأن إرسال مرتزقة سوريين إلى ليبيا ما يغذي الصراع هناك، وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تصريحات صحافية إن “فرنسا تدعم اليونان وقبرص في سيادتهما على حدودهما البحرية وندين من جديد الاتفاق بين تركيا وحكومة الوفاق الليبية”.
وهذا موقف تتقاسمه فرنسا مع الكثير من الدول الأوروبية الرافضة لسلوك أنقرة المهدد للاستقرار في المتوسط.
وتوضح هذه المصادر أن تركيا تحتاج لتضامن روسيا ووقوفها إلى جانبها في المعركة التي تخوضها ضد الأوروبيين لتعزيز حصتها من الموارد الطاقية المكتشفة في شرق المتوسط، لاسيما وأن موسكو أعربت عن استعدادها لتقديم الدعم، خصوصا وأن لروسيا مصلحة أكيدة في الدفاع عن سوق الغاز في العالم، وذلك الجديد الواعد في شرق البحر المتوسط.
وفيما كان أردوغان يعول على رمادية الموقف الأميركي من سياسة تركيا في ليبيا، إلا أن ما صدر عن مؤتمر برلين الأخير بشأن هذا البلد كشف عن مزاج غربي، لاسيما أميركي برز من خلال حضور وزير الخارجية مايك بومبيو للمؤتمر، باتجاه حل دولي للنزاع الليبي تكون فيه تركيا أحد أطرافه ولا تكون فيه الطرف الرئيسي الأقوى. وقد عبر اللغط الذي دار حول الاتصال الهاتفي بين أردوغان والرئيس الأميركي دونالد ترامب، الاثنين، عن خلاف واضح بين أنقرة وواشنطن حول الشأن الليبي.
أردوغان غير مستعد لمواجهة روسيا وهو في شبه عزلة بسبب الموقف الأوروبي الأميركي الرافض للدور التركي في ليبيا
ففي حين أكد البيت الأبيض على “الحاجة إلى القضاء على التدخل الأجنبي والحفاظ على وقف إطلاق النار في ليبيا”، قال أردوغان إن الاتصال كان للمجاملة في أعقاب الزلزال الذي ضرب شرق تركيا في نهاية الأسبوع.
وكشف البيت الأبيض في 28 يناير عن تفاصيل المكالمة بين الرئيس دونالد ترامب ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، مشيرا إلى أن الزعيمين ناقشا مجموعة واسعة من القضايا المثيرة للجدل التي تزعج حليفي الناتو. بالمقابل أصدر مكتب أردوغان قراءاته الخاصة للمكالمة، مؤكدا أنها كانت تتعلق بالزلزال الذي ضرب شرق تركيا في نهاية الأسبوع.
وقلل البيان التركي من شأن القضايا الجيوسياسية التي قال البيت الأبيض إن ترامب أثارها، من ليبيا إلى التوترات في شرق البحر المتوسط إلى سوريا.
ويخلص الخبراء في الشؤون الاستراتيجية إلى أن أردوغان يخسر الإمساك بزمام المبادرة في مسألة علاقاته بين الشرق والغرب، وأنه يهرب إلى الأمام ويحاول الضرب عشوائيا داخل ملفات دولية ساخنة معولا على أن تثمر هذه الفوضى عن الاعتراف به وتركيا لاعبا أساسيا في تقرير مصير هذه الملفات وبالتالي قطف ثمار أي تسويات وصفقات في شأنها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى