بسام الشكعة.. ثبات على العهد من المهد الى اللحد

صدر في نابلس مؤخرا كتاب “صفحات لا يمحوها النسيان” متضمنا سيرة المناضل الفلسطيني العروبي العظيم بسام الشكعة، وبعض ما قيل وكتب فيه.. وقد كانت لي في هذا الكتاب المداخلة التالية..

 

الكتابة عن المناضل التاريخي النبيل، بسام الشكعة، شرف ليس له بل لمن يكتب عنه، وشهادة ليست بحقة بل بحق من يشهد له، وتكريم ليس لاسمه بل تفضل وتكريم منه للآخرين.. ذلك لانه قد اعتاد طوال عمره ان يقود ولا ينقاد، وان يُعطي ولا يستعطي، وان يضيف ولا يُضاف اليه، وان يرتاد ميادين التضحية والبذل والفداء من تلقاء نفسه، وليس بطلب او تكليف من غيره.

لقد كان بسام الشكعة – وسيبقى – اسماً شامخاً فوق ذرى جبال النار، وراسخاً في ذاكرة الوطن الفلسطيني، وساطعاً في دفاتر النضال العربي، وثابتاً على عهده القومي – بصيغتيه البعثية والناصرية – من بواكير الصبا حتى نهاية العمر.

هذا الفارس الشجاع اختار، بمحض ارادته الابية وقوة ضميره الحر، ان يغادر رغد العيش في كنف عائلته البرجوازية الثرية، لينضم الى صفوف المقاتلين الفلسطينيين اواخر الاربعينات، ثم ينحاز الى جموع الكادحين المكافحين في سبيل الوحدة والحرية والاشتراكية، ثم يتصدر ركب اسود الصمود والمقاومة الشعبية والمدنية بعد الاحتلال الصهيوني للضفة الغربية عام ١٩٦٧.

لم تحظ”لجنة التوجيه الوطني” التي قادها “ابو نضال” بالكثير من الرصد والتحليل، رغم انها شكلت، في النصف الثاني من عقد السبعينات، رافعة كفاحية ضمت كل قيادات المجتمع المدني في الضفة، واقضت مضاجع العدو المحتل الذي رأى فيها نسخة من نضالات غاندي في الهند، ومانديلا في جنوب افريقيا، فسارع الى وأدها قبل ان يستفحل نفوذها الداخلي، وتحظى بالدعم والتأييد والاسناد العالمي.. ولا ضرورة، في هذه المناسبة، للتذكير بالموقف الحقيقي لمنظمة التحرير العرفاتية من هذه اللجنة.

في الزمن الناصري الجميل، تعرفت الى الاخ العزيز “ابي نضال” اوائل عقد الستينات، في دارة المفكر القومي الكبير العم عبد الله الريماوي بحي الدقي في القاهرة.. كنت طالباً في كلية الآداب/ قسم الصحافة بجامعة القاهرة، وكان هو شاباً متألقاً ضمن كوكبة اللاجئين السياسيين الاردنيين لدى مصر الناصرية، وحين غادرنا الدارة معاً اصر ان يقلني معه، في سيارته المكشوفة السقف والناصعة الاحمرار، الى مسكني في حي العجوزة القريب من الدقي.. وكم دُهشت صبايا الحي باناقة سيارة”ابي نضال” التي لم يكن يقتني مثلها الا كبار الفنانين المصريين.

دارت الايام وافترقنا حيناً والتقينا حيناً آخر .. ولكن ما ان اقدم العدو الغادر على اغتيال نصف “ابي نضال” عام ١٩٨٠ ، وانتقال نصفه الثاني الى مدينة الحسين الطبية في عمان، حتى غشيتني الفجيعة، وهرعتُ الى زيارته كل يوم، وتعرفتُ الى عقيلتة الصابرة والمثابرة على رعايته حد العبادة، وتكفلتُ بتغطية اخباره للعديد من الصحف ووسائل الاعلام العربية.. ولازلت اذكر انه وعقيلته وانا قد كنا في استقبال المصاب ايضاً، كريم خلف، رئيس بلدية رام الله لدى وصوله بطائرة مروحية للمدينة الطبية، وعندما دمعت عينا بسام، وهو يعانق رفيقه وزميله، التفت الينا وقال: هذه دموع شوق لكريم وليست دموع ضعف.

اوائل عقد التسعينات اختلف “ابو نضالً” مع رفاقه واحبائه في القيادة السورية التي سبق لها ان كرّمته بارفع الاوسمة، حول المشاركة العسكرية السورية في التحالف الدولي لضرب الجيش العراقي بالكويت، ولم نكن لنسكت كقوميين عن هذا الخلاف الطارئ، حيث تدخلنا، بقيادة المناضل البعثي العريق الرفيق سامي العطاري، لرأب الصدع واصلاح ذات البين.. وهكذا كان، حيث انقشعت الغُمة، وهدأت الخواطر، وعادت المياه الى منابعها الاولى.

رحم الله اخانا القائد الماجد “ابا نضال”، صاحب الفطرة الوطنية النقية، الذي رحل عن دنيانا راضياً مرضياً وموفور العزة والكرامة والاحترام العام.. وعسى ان يكون الباري عز وجل قد رزقه بجناحين في الجنة بعدما بُترت ساقاه، مثلما رزق من قبله جناحين للصحابي الجليل جعفر ابن ابي طالب بعدما بُترت ذراعاه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى