الغنوشي رئيسًا للبرلمان التونسي

حين يجتمع النفاق السياسي مع الفساد تفقد مقولة الثورة مصداقيتها

بعد تنافس أربعة نواب على منصب رئاسة البرلمان التونسي الجديد ،الذي افتتح أولى جلساته يوم الإربعاء 13نوفمبر/تشرين الثاني 2019، حيث يجمع المحللون و الخبراء أنّ الولاية النيابية الجديدة لن تكون سهلة من كل الجوانب، إذ تواجه الأطراف السياسية الممثلة في مجلس النواب، برلماناً مشتتاً وانحساراً في حجم الكتل، ما يهدد استقرار العمل الحكومي والنيابي معاً بينهم،
وبعد سبع ساعات، من المفاوضات في الكواليس، بين كتلة حركة النهضة وعدد من الكتل البرلمانية ، ومن المشاورات والنقاشات بين قيادةحركة النهضة، وقيادات من قلب تونس وائتلاف الكرامة وتحيا تونس ونواب كتلة الإصلاح ،تمَّ تأثّيث الحزام السياسي الذي دفع بمرشح حركة النهضة راشد الغنوشي الى أن يفوز برئاسة البرلمان .
وهكذا ،صوتت أغلبية نواب البرلمان التونسي الجديد، فتم انتخاب مرشح حركة النهضة راشد الغنوشي رئيسا للبرلمان التونسي الجديد بـ123 صوتا، وتم انتخاب سميرة الشواشي عن حزب “قلب تونس” نائب أول لرئيس مجلس نواب الشعب بـ109 صوتا، طارق الفتايتي عن كتلة الإصلاح الوطني الثاني للرئيس .فيما صوت 45 نائبا لصالح غازي الشواشي مرشح التيار الديمقراطي و18 نائبا لمروان فلفال و21 نائبا لعبيرموسى عن الحزب الحر الدستوري .
أما الأصوات الـ123 التي تحصل عليها مرشح حركة النهضة راشد الغنوشي لتولي رئاسة مجلس نواب الشعب، فقد جاءت أساسا من أصوات الكتل النيابية التالية:حركة النهضة (52 صوتا) وحزب قلب تونس (38 صوتا) وإئتلاف الكرامة (21 صوتا) بالإضافة إلى كتلة الاصلاح الوطني (15صوتا)المتشكلة أساسا من أحزاب “نداء تونس” و”آفاق تونس” و”البديل التونسي ” و”مشروع تونس” والتي أعلن عن تكوينها النائب حسونة الناصفي مؤخرًا.
هذا التحالف الجديد بين حركة النهضة والقوى التي تحوم حولها شبهات فساد، أو القوى المنتمية للمنظومة القديمة ، ولا سيما مع حزب قلب تونس بزعامة نبيل القروي، تجلى في انتخابات النواب للشيخ راشد الغنوشي رئيسًا لمجلس النواب ، وقد نرى آثاره في التشكيل الحكومي المقبل.إنَّهُ التحالف الجديد الذي عدّل الاوتار في البرلمان الجديد،وشكّل ملامح “ائتلاف جديد للحكم”.
ولد راشد الغنوشي سنة 1941 بقرية الحامة بالجنوب التونسي، ويبلغ من العمر الآن (78عاما).تلقى تعليمه الابتدائي بالحامة ، ثم انتقل إلى مدينة قابس،ثم إلى تونس العاصمة، حيث أتم تعليمه في الزيتونة. ثم انتقل بعد ذلك إلى مصر لمواصلة دراسته،عندما كان يتبنى االقومية الناصرية و العروبة في عام 1967 ، لكنه لم يستقر بها طويلا، وانتقل إلى دمشق حيث درس في جامعة دمشق ،وتحصل على الإجازة في الفلسفة في عام 1970.
وانتقل إلى فرنسا لمواصلة الدراسة بجامعة السوربون، و لكنه ظل سنة واحدة في باريس ،إذ بموازاة الدراسة بدأ نشاطه الإسلامي وسط الطلبة العرب والمسلمين، كما تعرف على جماعة الدعوة والتبليغ ونشط معها في أوساط العمال المغاربة.في نهاية عام 1971عاد الغنوشي إلى تونس وبدأ نشاطه الدعوي وسط الطلاب وتلاميذ المعاهد الثانوية، الذين تشكلت منهم حركة الاتجاه الإسلامي في 6يونيو/حزيرانعام 1981، ثم حركة بالنهضة لاحقا في عام 1988. وحوكم الغنوشي بسبب نشاطه الدعوي والسياسي عدة مرات ، وغادر تونس سنة 1989 الى الجزائر ، ثم  ذهب الى السودان ثم الى احدى ضواحي لندن ،حيث تحصل على اللجوء السياسي ، قبل أن يعود الى تونس سنة 2011

النهضة و أزمة تشكيل الحكومة
تتميز حركة النهضة الإسلامية في تونس بشبقها السلطوي، أي أنها تريد أن تبقى في الحكم بأي طريقة،حتى لوقادها ذلك إلى استخدام الميكيافيلية الرديئة جدًّا . ففي الانتخابات التشريعية التي جرت يوم 6أكتوبر/ تشرين الأول الماضي ، حصلت حركة النهضةعلى المرتبة الأولى بنحو(52 مقعدًا) منأ صل 217 مقعدًا الذي يتشكل منه البرلمان التونسي.
وبما أنّه طبقًا للفصل 89 من الدستور التونسي،الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية هوالمعني بإجراء المشاورات مع بقية الكتل البرلمانية لتشكيل الحكومة الجديدة برئاسة حركة النهضة،لكنّ هذه الأخيرة رغم ماراثون اللقاءات التي جمعتها مع حزب”التيار الديمقراطي” بزعامة محمد عبو، وحركة الشعب بزعامة زهير المغزاوي ، منها المعلن ومنها ما في الخفاء، فإنّ كل هذه اللقاءات باءت بالفشل،لأنَّ حزبَا التيار الديموقراطي وحركة الشعب رفضَا المشاركة في حكومة النهضة القادمة،إلا بشروطهما المسبقة. فقد تمسك التيار الديمقراطي بمقاربته لتشكيل الحكومة المقبلة على رفض ترؤس حركة النهضة الحكومة مع تمسكه بالوزارات الثلاث”، في إشارة إلى الداخلية والعدل والإصلاح الإداري، إضافة إلى انفتاح الحكومة على كل الفائزين في الانتخابات التشريعية باستثناء حزبي “قلب تونس” و”الدستوري الحر”. أما حركة “الشعب” فقد أصرّت على عدم المشاركة في حكومة ترأسها “النهضة”.
فقد ذهبت قيادية في التيار الديموقراطي إلى ادّعاء أن التحالف مع حركة النهضة سيكون بمثابة صك غفران لها، يُدخلها جنة الثوريين الطاهرين. ولذا طالبتها بأن تدفع ثمن هذا، وهو ثلاث وزارات، فضلا عن كراس شروط مفصّل، لا تستثني حتى مسائلها الداخلية. أما شريكها الثاني المحتمل، أي حركة الشعب، فلم يشذ عن استراتيجية التفاوض هذه التي تعتقد أن التحالف مع “النهضة” يقتضي اعتراف الأخيرة بأنها ساهمت في تحريف مسار الثورة بتحالفها مع رموز النظام القديم، والانقلاب على أهدافها، وهي جزء من منظومة الفشل، وتوغل في المساومة، حين تدعوها إلى التخلي عن الشرعية الانتخابية، والذهاب، مستسلمة، تحت واقع فوز هزيل، إلى ما تسميها “حكومة الرئيس”.
وكانت حركة النهضة ضمنت تقريبا مشاركة “ائتلاف الكرامة” الذي يقوده سيف مخلوف بوصفه أحد قيادات ما يسمى “عصابة رابطات الثورة “،وقد ذهبت إليه مكرهة، مع أنه قدّم لها قائمة طويلة من الشروط، على غرار القطع مع النظام القديم بشكل صريح ومكافحة الفساد وفصل السياسي عن النقابي وفصل الإداري عن الأمني…
ولما وجدت حركة النهضة نفسها في مأزق حقيقي بهذا الخصوص، لأنها أعلنت منذ البداية أنَّ أولويتها ستكون التفاوض مع ما سمتها بأحزاب الثورة، “التيار الديمقراطي” وحركة “الشعب” و”ائتلاف الكرامة”، وفي مستوى ثانٍ حركة “تحيا تونس”، ولكنَّها اصطدمت برفض كل هؤلاء باستثناء “ائتلاف الكرامة”،غيّرت حركة “النهضة” من استراتيجيتها التفاوضية بالكامل، وربطت بين المسارين البرلماني والحكومي، معلنة صراحة أنَّها ستنتظر نتائج التصويت على رئيسها في البرلمان لكي تحدد شركاءها في الحكومة.
وفي اجتماع مجلس الشورى الذي عُقِدَ في نهاية الأسبوع الماضي بمدينة الحمامات، اختارت حركة النهضة ترشيح رئيسها راشد الغنوشي لمنصب رئيس البرلمان ، حيث أكَّدَ رئيس مجلس شورى النهضة عبد الكريم الهاروني  أنَّ مجلس شورى الحركة قَرَّرَ ترشيح الغنوشي لرئاسة البرلمان ، بعد أنْ كان الشورى قد رشَّح الغنوشي لرئاسة الحكومة.

النهضة وجددت نفسها أمام إكراهات حقيقية
أولاً: إنَّ النتيجة التي حصلت عليهاحركة النهضة في الانتخابات التشريعية تُعَدُّهزيلة(52مقعدا)، وتعكس التراجع الكبير في خزانها الانتخابي،إذ خسرت النهضة منذ عام 2011ولغاية الانتخابات الأخيرة أكثر من مليون ناخب، فالنهضة حصلت تقريبًا مابين 15 إلى 20 بالمائة من أصوات الناخبين .وكان العدد الإجمالي للناخبين التونسيين المسجلين هو 7 ملايين و65 ألفًا و885 ناخبًا، وعدد المصوتين بلغ مليونين و946 ألفًا و628 ناخبًا. ففي قراءة لنتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، نجدها أنها كانت ضد المنظومةالقديمة،التي تنتمي إليها حركة النهضة،أقدم قراءة مختلفة بعض الشيء للأرقام، من زاوية من هم في الحكم ومن هم خارجه.
بلغ مجموع أصوات أحزاب الائتلاف الحاكم طيلة الفترة الممتدةمن 2015 و لغاية 2019(أحزاب:النهضة وتحياتونس ومشروع تونس) 717 ألف صوت من مجموع 2.946 مليون ناخب، أي حوالي 25 في المئة أو ربع الناخبين. أي أن ثلاثة أرباع صوتوا ضد منظومة الحكم القديمة . هؤلاء توزعوا بين أحزاب ليست جديدة لكنَّهَا صاعدة (التيار والشعب مثلا بينهما 314 ألف صوت، أي 11 في المئة من الناخبين)، أو أحزاب/ ائتلافات تصل لأول مرة للبرلمان برزت في السنوات الأخيرة أو الأشهر الأخيرة (قلب تونس والدستوري الحر وائتلاف الكرامة وحزب المرايحي 830 الف أي حوالي 30 في المئة).
ثانيًا:إن الأحزاب الجديدة الصاعدة في الانتخابات التشريعية الأخيرة، أصبح خطابها السياسي ، يطالب حركة النهضة بالتواضع ، وأن تتخلّى عن فكرة “الحزب الكبير”، فهي لا تفوقهم إلا بفواصل صغيرة.
ثالثاً:إنَّ النهضة تفاوض خصومٌ متشدّدون، مثل التيار الديمقراطي وحركة الشعب ،طورًا تحت إملاءات الأيدولوجية ،وطورًا آخر تحت إملاءات التشفي والعناد، ولو على حساب استقرار البلد.
رابعًا: إنَّ الموجة الجديدة من الانتفاضات العربية تكشفت أنَّهَا مناهضة للفساد، وباتت تطالب بإسقاط الأنظمة القديمة، و لا تلعب فيها حركات الإسلام السياسي أي دور يذكر .
خامسًا:وأخيرا إنّ قواعد حركة النهضة التي تمردت على قيادتها، وصوت للرئيس قيس سعيد تريد من حركة النهضة أن تحكم، مهما كان الثمن.

النهضة والتحالف مع حزب الفساد
لقد دفعت الإكراهات الآنفة الذكر أعلاه حركة النهضة ،إضافة للعزلة التي أصبحت تعاني منها إلى توسيع رقعة المشاورات لتشمل أيضاً حزبي “تحيا تونس” (الشاهد)، و”قلب تونس” الذي يرأسه نبيل القروي، والذي يمثل الكتلة الثانية في البرلمان(38مقعدًا)، غير أن من شأن مثل هذا الخيار أن يضعها في مأزق آخر، نظراً لأنَّهَا وعدت قواعدها وجمهورها الانتخابي بعدم التحالف مع حزب القروي بحجة وجود شبهة فساد تحوم حوله، فيما وضعت هذه المسألة في مقدمة أهداف برنامجها الحكومي. ومن شأن التحالف مع “قلب تونس” إعادة تكرار السيناريو ذاته الذي حصل مع “النداء”، بحسب رأيها.
في إحدى لقاءاته مع قناة الزيتونة التابعة لحركة النهضة الإسلامية ضمن برنامج الحصادالسياسي ، قال الشيخ راشد الغنوشي حول احتمال تحالفه مع حزب قلب تونس، الذي يتزعمه السيد نبيل القروي ،المترشح المهزوم في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، :”قلنا ونكرّر لن نتحالف مع نبيل القروي،لن نتحالف مع حزب قلب تونس لأنه حزب فاسد”..ولأنَّ هذا التحالف ضدخيارنا في اختيار الرئيس قيس سعيد، فمن غير الممكن أن نختار قيس من جهة، وفيما بعدنختار ضدّه، ونتحالف مع مشروع معادٍ له، مشروع تحوم حوله شبهة كل يوم، شبهة جديدة من الفساد . أفعال العقلاء، تتنزه عن العبث ،نوع من العبث ، كوننا نؤيد من جهة قيس رئيسًا،ونتحالف مع قلب تونس من جهة أخرى،هذا تناقض،ولا يؤدي الى الغرض الذي نحن فيه، قلنا أنه شرط من شروط التقدم، ومحاربة الفساد، ومحاربة الجريمة المنظمة،ومحاربة كل أنواع الغش .ونحن نرى أنَّ هذا الحزب قام على نوع من الغش،استغل أهله مدة طويلة في العمل الخيري، ثم وضعوا على العمل الخيري لا حقًا لافتة حزب سياسي كتب عليها قلب تونس”.
ماقاله راشد الغنوشي يتماهى كليا مع ماقاله رئيس “قلب تونس” نبيل القروي الذي شدَّدَ  في أكثر من تصريحٍ إعلاميٍ على أنَّه لن يتحالف مع حركة النهضة ولن يكون حزب قلب تونس في الحكومة التي ستشكلها.وأضاف القروي “كل من تحالفت معهم النهضة طوال 8 سنوات ، تم تحطيمهم ، يتقربون منه في البداية يغازلونه يضمّونه للتحالف ثم يحطمونه ويمرون لمن بعده ولا يملكون حتى الاخلاقيات للاعتراف بذلك”.
غير أنَّهُ في السياسة لا يوجدأعداءٌ دائمون، أوأصدقاء دائمون ،بل توجدمصالح مشتركة، ويبدو أن هاجس طريقة اختتام الغنوشي مسيرته السياسية سيطر على مفاوضات “النهضة” في الأسابيع الأخيرة، حيث كانت تبحث عن موقع مناسب لزعيمها، وتشددت في ذلك أكثر بعد رفض شركائها لذلك، ما اعتبرته قواعد وقيادات بمثابة الإهانة والابتزاز للحركة. وكانت “النهضة” تدفع في البداية بالغنوشي لرئاسة الحكومة غير أنها تراجعت عن ذلك واقتنعت بأن المنصب الأكثر ملاءمة للغنوشي هو رئاسة البرلمان، وهو القرار الذي توصل إليه مجلس شوراها بعد نقاشات طويلة.
وجاء هذا التغيير الجذري في استراتيجية التحالفات لحزب “النهضة” أساساً من القيادي لطفي زيتون، مستشار الغنوشي السابق الذي استقال من منصبه منذ فترة بسبب خلافات حول قرارات وخيارات داخل “النهضة”.فبعد تعثر النهضة في مشاوراتها مع حركة الشعب والتيار الديمقراطي من أجل تشكيل الحكومة ،برز تصريح القيادي في النهضة لطفي زيتون كطرح مغاير للمسار الأول الذي اتبعته النهضة ، حين قال “إنَّ إقصاء الحزب الحرّ الدستوري، وحزب قلب تونس من مشاورات تشكيل الحكومة ” خطأ ” ،و أنَّ اقصاء هذين الحزبين ، يعني إقصاء جزء من التونسيين، وإقصاء الناخبين التونسيين الذين وضعوا ورقة الإنتخاب في الصندوق.
ويشارك تصريح لطفي زيتون ، في هذا التصور عدد من قيادات الحركة ،مخالف كليا للتصريحات السابقة لقياديي النهضة الذين تحدثوا مؤخرًا عن استحالة التوافق مع حزب “قلب تونس “والحزب “الدستوري الحرّ”، حتى أنَّ رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، أكَّدَ أنَّ النهضة لن تتحالف مع حزب قلب تونس والحزب الدستوري الحرّ.
لقد اكتسبت حركة النهضة الخبرة في العمل البرلماني،حيث أنَّ الحركة لن تجازف بإجراء التصويت قبل أن تكون متأكدة من فوز الغنوشي ،ومادام الأمر قابلًا للشَّكِ فقد قامت حركة النهضة بإجراء مشاورات ومفاوضات من تحت الطاولة مع حزب”قلب تونس” ، لكي تضمن هذا العدد الكافي لفوزراشد الغنوشي بمنصب رئاسة البرلمان.
ليس مصادفة أن يحصل هذا التحالف بين حركة النهضة وحزب “قلب تونس”، فحركة النهضة وحلفاؤها من جهة ،وحزب “قلب تونس” (المنافس القوي لحركة النهضة،ولذي يتزعمه السيدنبيل القروي ) من جهة أخرى، يتفقان على نموذج الاقتصاد الليبرالي،والانخراط في نظام العولمة الليبرالية من موقع الطرف التابع لمراكز النفوذ السياسية والاقتصادية الرأسمالية المؤثرة في العالم الأوروبية والأمريكية.غير أنَّ هذا الاتفاق لا يمنع وجود صراعات بينهما الآن – ولفترة أخرى من الوقت – مدارها احتكار الحكم السياسي والنفوذ الاقتصادي والاجتماعي من جهة ونوعية النموذج القيمي الاجتماعي للحياة العامة الحضارية والثقافية للشعب التونسي.
فكما هو معروف يتبنى حزب”قلب تونس” ومجمل القوى الليبرالية المتحالفة معه أوالتي يمكن أن تحذو حذوه نمطاً عصرانياً حداثياًللمجتمع يُكَرِّسُ مفهوماً خاصاً للحرّيات العامة والفردية على الطريقة الغربية بمضمونها البرجوازي الاستهلاكي والذي يبقى قابلاً للتكييف والتطويع ما بين الطابع الديمقراطي الليبرالي والشكل الاستبدادي حسب تقلب موازين القوى.بينما تعمل حركة النهضة وكل القوى المتغلفة بالدين وطائفة من الأحزاب المتحالفة معها والقريبة منها، علاوة على تمسكها بالخيارات الليبرالية المملاة من الدوائر الغربية الأوروبية و الأمريكية ، على فرض نموذج جديد على المجتمع التونسي يقوم على قيم محافظة ومتخلفة تجاوزها الزمن يريدون إحياءها وتفعيلها في العلاقات الاجتماعية العامة أساساً .
والحال هذه، فإنَّ تصريح لطفي زيتون ليس منفصلاً عن الواقع بل يمكن اعتباره مخالفًا لتصريحات باقي قيادات النهضة ، وهو تصريح يكشف ما يحدث داخل مؤسسات الحركة من جدل خاصة في سياق فرضية التحالف مع حزب قلب تونس وإمكانية التخلي عن التحالف مع ائتلاف الكرامة.
وفي هذا السياق يقول الخبير الاقتصادي عبد القادر بودريقة “أنًّ  معدل التوافق بين برنامج النهضة الحكومي والأحزاب السياسية الأخرى يُبَيِّنُ أنَّ الأحزاب السياسية الثلاثة التي يمكن أن تحكم معا ،هي النهضة ، تحيا تونس وقلب تونس.وبيَّنّ أنَّ حركة النهضة ضمّنت 60 بالمائة فقط من برنامجها الانتخابي في البرنامج الحكومي وفسَّرَ أنَّ أعْلَى توافق مع البرنامج الحكومي للنهضة هو برنامج قلب تونس بنسبة 64 بالمائة وتحيا تونس بنسبة  46 بالمائة.
فمن بين 113 اقتراحًا للنهضة ، لا يوجد سوى 7 نقاط توافق مع ائتلاف الكرامة. بمعدل توافق يصل الى 17 بالمائة ،أما التيار الديمقراطي فنسبة التوافق معه تصل الى  40 بالمائة.
اما بالنسبة لحركة الشعب ، هناك 13 اقتراحًا مشتركا مع برنامج النهضة  أما الدستوري الحرّ فإنَّ معدل التوافق هو الأدنى ، مع اقتراح واحد فقط يتفق عليه الطرفان.

خاتمة:
لقد استعادت حركة النهضة ومعها الجماعات التي تدور في فلكها مقولة الثورة في خطابها السياسي خلال الحملة الانتخابية الأخيرة ، بعد أن صوت جزء من قاعدتها الانتخابية لمصلحة الرئيس قيس سعيد، علمًا أنه بعد مرور ثماني سنوات على الثورة التونسية، يعلم الجميع أنَّ النهضة ركبت موجة الثورة بعد سقوط النظام السابق في 2011، و نجحت في قطف ثمار الثورة بفوزها في الانتخابات ، لأنَّها كانت القوة السياسية الأكثر تنظيماً ،والأكثر قدرة ،والأكثر تمويلاً ،والأكثر تمكناً من الاستمرار.
كما أكدت تجربة حكم التوافق أنَّ النهضة تنتمي إلى السيستام، أي المنظومة القديمة المتشكلة من اليمين العلماني المتحالف مع اليمين الديني، والذي تجسد في الحكم المعولم برعايةأوروبية وأمريكية لتونس ،بقيادةالشيخين الباجي قائدالسبسي وراشد الغنوشي.
ولم يكن التحالف الجديد بين “النهضة” و”قلب تونس” بوصفه تعبيرًا عن حسابات السياسة التي تختلف تماما عن وعود الانتخابات،والذي أوصل الشيخ راشد الغنوشي إلى رئاسة البرلمان،سوى نسخة عن التحالف السابق بين اليمين العلماني و الإسلام السياسي .وإذا كان هذا التحالف سيسهم في تشكيل الحكومة الجديدة التي طال انتظارها من خلال تشكيل ائتلاف حكومي ، يضم “النهضة”و”قلب تونس” و”تحيا تونس” و”ائتلاف الكرامة”،
وكتلة “الإصلاح الوطني “،والتي سيترأسها شخصية من خارج حركة النهضة ، لكنَّها قريبة منها،فإنَّ الحكومة الجديدة سوف تكون مثل الحكومات المتعاقبة التي عرفتها تونس منذ سنة 2011 ولغاية الآن،أي حكومة تعيد إنتاج الفشل ، وعاجزة عن حل المعضلات الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها البلاد، مثل البطالة، وقضايا الأجور ،ومحاربة الفساد، وتحقيق التنمية المستقلة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى