حيادية “الزنديق” الفلسطيني وكآبة الاحتلال الاسرائيلي!

 

عرضت الملكية للأفلام فيلم “الزنديق” لميشيل خليفة، الفيلم جميل وجاذب، ويحفل بالعديد من اللقطات الواقعية المعبرة والمجازية ذات الدلالات الرمزية، وهو من نوع البطولة المطلقة (للممثل المسرحي اللامع محمد البكري)، ولن أتطرق هنا لتفاصيل قصة الفيلم الكاملة، ولكني سأعرض انطباعاتي المختصرة: فالبطل العائد لمسقط رأسه الناصره بعد غياب طويل بالخارج، يصور فيلما وثائقيا عن تداعيات نكبة ال48… يعرض البطل “مشاهداته” كشخصية حيادية (انسانية-مسالمة ومتسامحة)، وليس كشخصية فلسطينية منتمية، ويبدو كسائح اجنبي، وكمصور محترف، يتنقل بسيارة “فور وييل درايف” حديثة، يريد ان ينجز شريطه ويهرب، كما تظهر مدينة الناصرة كمدينة أشباح مأزومة، حيث تركز الأحداث على تداعيات حادث قتل “مقصود” بين عائلتين، وتستعرض المشاهد مجموعة من الزعران الأشرار وهم يثيرون الخوف بأزقة المدينة العريقة، وينتهي الأمر بضربهم للبطل وتحطيم كاميرته، كما يستعرض كعادة الأفلام الفلسطينية عربدة الشرطة الاسرائيلية، وملاحقتها للفتيان قاذفي الحجارة ومحاولة اعتقالهم، كما نرى مبادرة تعاطف ما بين المصور وأحد الفتيان الهاربين، الذي يتبين أنه هارب من غزة وأن والده معتقل من قبل شرطة حماس، حيث يبادر بانقاذه وصديقة وتهريبه بسيارته…وفي لقطة استرجاعية ذات دلالة نراه يسأل والدته بغرابة: لماذا بقيتم؟ ثم يقول لوالدته:نحن صناع أفلام ولسنا جنود حرب، وتنصحه والدته “الطيبة” بأن يكف عن تعرية الفتيات بأفلامه، ثم نراه يتورط بعلاقة عاطفية حميمية مع فتاة اسرائيلية جميلة، فيما يعشق ويحلم بزميلته الفلسطينية دون ان تسمح له بعلاقة جسدية، فهي تبدو بالنسبة له كضوء الخلاص (وخاصةعندما تظهر بأخر اللقطات بلباس ملائكي أبيض وهي تختفي كشبح في ماء البحر)!

كما نراه يدور هاربا ويائسا في أرجاء وأزقة المدينة “المظلمة”، محاولا عبثا أن يجد غرفة للمبيت دون جدوى، فيما نجد الغرف الفندقية مستباحة للاسرائيليين والعملاء وسفالاتهم…دمج المخرج “الذكي” الواقع وتدعياته البائسة برموز اسطورية ورؤيا حضارية متقدمة، وبدا المصور وكأنه يائس بلا بارقة أمل وخلاص، وبلقطة مثيرة للجدل يفسر سبب سرعته لشرطة السير الاسرائيلية التي أوقفته: بأنه يهرب من الارهاب، فيما يجيب الضابط الاسرائيلي بلا تردد: لا يوجد ارهاب في اسرائيل! وبدا وكأن الاسرائيلي يسخر ، لأن اسرائيل هي دولة ارهابية بامتياز!
باعتقادي لا يمكن مواجهة ارهاب الدولة بممارسات حضارية انسانية، فالأولوية هي للتحرر أولا من الاحتلال والاستيطان، وبلقطة جدلية اخرى نسمع احدى الشخصيات وهي تقول بأنه لا توجد ترجمة عبرية لكلمة “استعمار”

أجل لا معنى للحيادية في ظل احتلال قاهر بغيض واستطياني “استئصالي- فريد من نوعه”، ومهما كانت فرقتنا كفلسطينيين او معاناتنا من الاختلافات والتناقضات والممارسات الرثة البالية، فذلك لن يعطي الاحتلال الاسرائيلي البغيض صك البراءة والغفران، وربما يحمل السينمائي الفلسطيني مسؤولية وطنية كبيرة، تضاهي العمل الكفاحي المقاوم والمقارعة السياسية الدؤوبة، فسلاحه الأخطر يكمن هنا بالكاميرا الكاشفة لممارسات الاحتلال اليومية القاهرة المتمثلة بجدار الفصل العنصري والملاحقات والاعتقالات والاغتيالات، وتخريب الأراضي الزراعية واستفزاز حثالات المستوطنين والتعرض للأقصى، ومشاريع الاستيطان السرطانية…ولا معنى قط (بالنسبة لنا كعرب وفلسطينيين) من الاكتفاء بتصوير وثائقي “بارد” لتداعيات النكبة وممارسات الاحتلال الراهنة بحق الفلسطينيين “أصحاب الأرض الأصليين”، الذين تسعى اسرائيل لاحتواءهم وتحييدهم ودمجهم بالظاهر، فيما تحاول بلا جدوى (لابادتهم كما حدث بحرب غزة الأخيرة)، أو لتحويلهم ل”هنود حمر جدد” في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، متناسية تقدم العصر ووعي الشعوب وانتشار الميديا، فالعالم لن يقبل وجود آخر استعمار “احتلال-استيطاني” بالعقد الثاني للقرن الحادي والعشرين، وما تأييد البرلمان البريطاني لقيام دولة فلسطينية، واعتراف السويد العلني الأخير بالدولة الفلسطينية الا مؤشر عالمي ذي دلالة كبرى.

والسؤال هنا :من سيقتنع بقضيتنا اذا لم نقتنع نحن بها؟!
ميشيل خليفي مخرج فلسطيني عالمي الاسلوب بامتياز، ويعكس فيلمه الأخير هذا بالعام 2009، قتامة الواقع الفلسطيني وتغول الاحتلال الاسرائيلي الغاشم، وربما لم تختلف الأحداث كثيرا بعد مضي خمس سنوات، وكما عبر احد النقاد بايجاز وبلاغة : “لكن وبالعودة إلى تتبع خليفي للمتغيرات التي طرأت على النضال الفلسطيني فإنه لن يجد إلا ما يدفعه إلى سخرية سوداء وسوداوية ساخرة، وجلد الذات أمام فداحة ما وصلت إليه أحوال النضال والمناضلين”!.

[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى