بوتين يعيد لروسيا مكانة الدولة العظمى التي كانت للاتحاد السوفياتي

 

في سنة 2014، ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، وفي سنة 2015 تدخلت عسكريا في سوريا، وسطّر هذان الحدثان إعلان دخول موسكو بقوة في المشهد السياسي الدولي، وبداية ترميم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لصورة “روسيا العظمى”.
دخلت روسيا منذ ذلك التاريخ في امتحان يبدو أنها اجتازته بنجاح، بعد أن تجاوزت أزمة ضم القرم وقضية تسميم العميل الروسي في بريطانيا سيرجي سكريبال، وقبلها قضية التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية، وأزمة موسكو مع حلف شمال الأطلسي (ناتو).
خلال عرض لأسلحة روسية جديدة، في مارس 2018، توجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لخصومه قائلا “لم يكن أحد يريد التحدث إلينا، لم يكن أحد يريد الاستماع إلينا. استمعوا إلينا الآن!”، وهو ما بدأ يحدث فعلا اليوم.
اليوم بالنظر إلى خارطة القوى في المنطقة تبدو موسكو الطرف الوحيد الذي يمسك العصا من الوسط في كل الصراعات تقريبا، منافسو واشنطن في ملعبها. تجمع بوتين، الذي بات يتحرك بهدوء وثقة أكبر من السنوات الماضية، علاقة جيدة بدول الخليج العربي، وهو في نفس الوقت حليف إيران الذي يمسك بها من ذراعها التي تؤلمها، وذات الأمر مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي يتلاعب به بوتين لدرجة أنه لم يعد بمقدوره الإفلات من مصيدته.
ولا يختلف الأمر في علاقتها بأوروبا، حيث تقف موسكو في المنتصف بين دول أوروبية حليفة لها، على غرار النمسا، ودول أخرى توترت بينهما العلاقة منذ أزمة أوكرانيا وتصاعدت بعد حادثة تسميم سكريبال وطرد بريطانيا وغالبية الدول الأوروبية لدبلوماسيين روس ردا على اتهام الكرملين بتسميم الجاسوس الروسي السابق.
ويقول خبراء إن روسيا، رغم ما تعانيه من ضعف في الداخل ورغم العقوبات، استفادت من ضعف المنظومة العالمية. لكن، يلفت الخبراء إلى أن الأمر يسبق وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ويعود أساسا إلى استراتيجية التحول الأميركي نحو آسيا لمواجهة الصين.
ركزت الولايات المتحدة برئاسة الديمقراطي باراك أوباما، على نقطتين، هما اعتراض تقدم الصين وتوقيع الاتفاق النووي مع إيران. فتحت هذه الاستراتيجية ثغرات في سياسات واشنطن في الشرق الأوسط وأحدثت شروخا في علاقتها بحلفائها التقليديين، خاصة إثر انغماس إدارة أوباما في ملف الاتفاق النووي.
دخلت روسيا من هذه الثغرات، وأعلنت عن وجودها بقوة مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وحوّلت الاتهامات الأميركية بالتدخل في الانتخابات إلى مصدر لاستعراض قوة في وقت لم يعد فيه العالم يتطلع إلى القيادة الأميركية، وفقدت فيه أوروبا ريادتها وأصبحت تمثل عبئا من وجهة نظر الرئيس الأميركي.
ويتعرف الخبراء اليوم أن بوتين، الذي وصف تفكك الاتحاد السوفييتي بأنه “أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين”، نجح في إعادة روسيا إلى واجهة الساحة الدولية وإن كان على حساب أسوأ الخلافات مع الغرب تسجل منذ الحرب الباردة.
روسيا في الخليج

 علاقات جيدة مع دول الخليج
تظهر روسيا اليوم في صورة صديقة الكل. ويرى الصحافي حلمي همامي أن “بوتين ذكي في تعامله مع الملفات في الشرق الأوسط، وسياسته تمنحه نقاطا على حساب الولايات المتحدة”. ويطرح كمثال هنا الموقف من إيران، فروسيا حليفة إيران من جهة، ومن جهة أخرى حليفة للسعودية، ولم تؤثر علاقتها بهذه الدولة بعلاقتها مع الدولة الأخرى.
ويقول همامي إن هذا الواقع يجعل بوتين “الوحيد القادر على لجم تحركات إيران في المنطقة”، ويمنحه أفضلية على “سياسات الردع والعقوبات التي تنتهجها واشنطن والتي لم تُؤت ثمارها”. كما يقدم همامي أمثلة أخرى من قبيل علاقة روسيا بفنزويلا وكوريا الشمالية ودروها في سوريا وحتى في أفغانستان.
لكن، وبعد أن رسخ دوره في سوريا، وفي الساحة الدولية بدأ بوتين يميل أكثر إلى انتهاج سياسة براغماتية. وترجمت موسكو بوتين معالم هذه السياسة، عبر تقديمها عرضا للسعودية بشراء أسلحة، في سياق ردها على الهجوم الذي استهدف منشأتين لشركة أرامكو السعودية للنفط.
وقال بوتين عقب الهجوم الذي تتهم فيه السعودية والولايات المتحدة وأوروبا إيران بالوقوف وراءه، خلال قمة عقدت بالعاصمة التركية أنقرة “نحن على استعداد لدعم السعودية بالشكل المناسب”. وأشار الرئيس الروسي إلى إمكانية بيع أنظمة صواريخ الدفاع الجوي أس300 وأس400، قائلا إن هذه الأسلحة “يمكن الاعتماد عليها في حماية كل البنية التحتية بالسعودية”، وترك للسعودية حرية الاختيار بين نظام أس300 والنظام المعدّل أس400، وهي الأسلحة التي كانت سببا في توتر علاقة أنقرة وواشنطن، وثمن دخول أردوغان في المعادلة السورية.
ويرى المراقبون أن بوتين بلغ الآن مرحلة استغلال الفرصة من خلال الدفع بسياسات بلده إلى توظيف الأزمات المتصاعدة في المنطقة، واستغلال التطورات لفائدته وبما يُبقي حظوظ تمدده في المنطقة وافرة على المدى الطويل.
وتستند رؤية موسكو الحالية على مفهوم “السياسة الخارجية في الاتحاد الروسي” الذي أعلن عنه بوتين بوضوح في عام 2016، والذي يهدف أساسا إلى وجوب “ترسيخ وضع روسيا كمركز نفوذ في العالم الحالي”، وعبّر عنه بوتين بقوله “حدود روسيا لا تنتهي أبدا”.
ويقول الباحث الأميركي جيمس دورسي “تعد الجهود الروسية للاستفادة من التوترات المتصاعدة انتهازية بقدر ما هي استراتيجية”، لافتا إلى أن موقف بوتين من الهجوم الذي استهدف السعودية، ولئن لم يتضمن اتهاما صريحا، إلا أنه يحمل بين طياته رسالة إلى إيران وتركيا أيضا.
ورغم أن تصريحه لم يحمل موقفا واضحا إلا موقف بوتين يبدو أكثر إقناعا من موقف الولايات المتحدة، خاصة في ما يتعلق بالتعامل مع إيران. ففي الوقت الذي يبدو فيه ترامب مترددا، ورغم العقوبات التي سلّطها على إيران، إلا أن الشرخ الذي حدث منذ عهد أوباما يبدو أنه لم يتلئم بشكل كامل وبقيت هناك بعض الصّدوع.
ويعبر عن ذلك ستيفن أ. كوك، الباحث في مجلس العلاقات الخارجية ومقره نيويورك بقوله “القادة في الرياض وأبوظبي والمنامة ومسقط يفهمون ما يحدث، وقد تحوّطوا ضد رحيل الولايات المتحدة باتخاذهم مجموعة من الإجراءات، منها تقديم مبادرات إلى الصين وروسيا”.

تحالف مع ايران

ولعل نقطة قوة روسيا هنا هي أنها حليفة إيران وغريمتها في نفس الوقت. فالميليشيات الإيرانية في سوريا ولئن ساعدت على ترسيخ امن الدولة السورية، إلا أنها بدأت تشكل مصدر قلق لمصالح روسيا في سوريا على المدى الطويل.

ويرى المراقبون أن روسيا ستحاول اختراق الأزمة الأخيرة منذ الهجوم الحوثي على السفن في مضيق هرمز وصولا إلى استهداف المنشآت النفطية التابعة لشركة أرامكو وتبعات ذلك على سوق النفط العالمية، عبر الرهان على مواطن الضعف والخلل في السياسة الخارجية الأميركية في منطقة الخليج خاصة أنها ستكون ضمن اقتراح واشنطن الساعي إلى تشكيل نظام أمني “عالمي وشامل” يأخذ في الاعتبار “مصالح جميع الأطراف الإقليمية التي تشارك فيه”، وهو يضم دول الخليج وروسيا والصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والهند بالإضافة إلى أصحاب المصلحة الآخرين، في إشارة محتملة إلى إيران.
ويشبّه المراقبون الخطوات الروسية الأخيرة بخطواتها السابقة انطلاقا من ديسمبر 2015 عند دخولها على خط الأزمة السورية. ووضعت موسكو موطئ قدم في سوريا بنفس الطريقة التي تريد توظيفها الآن في منطقة الخليج، حيث جاء تدخلها بدعوة من الرئيس السوري بشار الأسد، فكانت أولى الورقات التي لعبتها في سوريا هي مشاركتها في بعث مركز معلوماتي ضمّ إيران والعراق وسوريا بهدف محاربة تنظيم الدولة الإسلامية.

وسحبت روسيا وفق المتابعين البساط من تحت أقدام اللاعبين الدوليين في هذه القضية بعد نجاحها أولا في اسناد الرئيس الأسد رغم معارضة دول الغرب وعلى رأسها واشنطن وعدة عواصم أوروبية في مقدّمتها باريس.
كما تمكنت من تحقيق انتصار عسكري بعد دحر مقاتلي تنظيم داعش، وكذلك عقب دعوة الرئيس الأميركي لسحب قوات بلاده من سوريا، لتتوجه روسيا إلى إدارة جولات من المفاوضات بشأن سوريا عبر محادثات سوتشي وأستانة مع كل من تركيا وإيران.
وبعدما استحوذت تقريبا على كامل مفاصل الملف السوري، توجهت موسكو لتعظيم أدوارها في مناطق عدة من العالم، حيث كانت لها مواقف هامة في أميركا اللاتينية، حين اصطفت إلى جانب الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو على حساب خوان غوايدو الذي تتهمه روسيا بمحاولة القيام بانقلاب على نظام مادورو “بمساعدة الإمبرياليين الأميركيين”.
كما وجهت موسكو منذ عام 2016، بوصلتها نحو شمال أفريقيا وتحديدا إلى ليبيا التي تعيش على وقع توترات وأزمات منذ عام 2011 عقب سقوط نظام العقيد معمر القذافي. ويندرج اهتمام الكرملين المتجدد بليبيا في سياق الدفع إلى إعادة النفوذ الروسي إقليميا ودوليا، حيث استقبل الكرملين في مناسبتين المشير خليفة حفتر القائد العام للجيش الليبي عام 2016 ومن بعده استقبل رئيس حكومة الوفاق فايز السراج لتتأكد بداية تعاظم الدور الروسي في القضية الليبية.
ويراهن الروس على إعادة تموقعهم في القارة الأفريقية أيضا عبر الدخول من بوابة المناطق التي تشهد توترات، فبعد أن بقيت خارج المنافسة طيلة عقود تاركة المجال لأوروبا والولايات المتحدة سياسيا وعسكريا وكذلك الصين من الناحية الاقتصادية، بدأت روسيا تهتم بأفريقيا وتبحث لها عن موطئ قدم هناك.

العلاقات مع أوروبا
دفعت السياسة الخارجية الروسية المتطورة القوى الأوروبية إلى مراجعة مقاطعتها لروسيا، والتفكير في إعادة بناء العلاقات بينهما على ضوء التطورات الأخيرة، خاصة وأن دولا مثل فرنسا وألمانيا تتطلع إلى دور في مرحلة إعادة بناء سوريا، وهو أمر يرى المتابعون أن القرار فيه بات بيد الروس أكثر من النظام السوري.
وتظهر الاستدارة الأوروبية من خلال تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي قال في تجمع للدبلوماسيين الفرنسيين بعد اختتام قمة مجموعة السبع “أصبحنا نعيش في نهاية الهيمنة الغربية على العالم. اعتدنا على نظام القرن الثامن عشر العالمي، والذي تأسس على هذه الهيمنة، لكن الأمور تغيّرت بسبب أخطاء الغرب في التعامل مع بعض الأزمات”.
ويلفت إلى هذا التحول الكاتب الأميركي سكوت ريتر في مقال نشرته مجلة ذي أميركان كنسرفاتيف، يقول فيه “بينما يتشبث حلفاء الولايات المتحدة بمواقف الحرب الباردة، يواجه قادة مثل إيمانويل ماكرون واقعا جديدا متعدد الأقطاب”. ويضيف ريتر “بينما يواصل الأميركيون النظر إلى روسيا باعتبارها تهديدا عالميا تجاه سياسة بلادهم الداخلية، تحرك بعض قادة أوروبا في اتجاه مختلف تماما”.
وفقا لماكرون، ستجلب نهاية الهيمنة الغربية، التي تستند على فرضية هيمنة الولايات المتحدة العسكرية والاقتصادية، معها نهاية “المشروع الأوروبي للحضارة” (الاتحاد الأوروبي). ولن تتجنب القارة ذلك إذا لم تكن قادرة على التكيّف مع هذا الواقع الجديد وتغيير مسار علاقاتها وفقا له.
وقال ماكرون “يعد دفع روسيا بعيدا عن أوروبا خطأ كبيرا”، وشدد على ضرورة إعادة النظر في العلاقة التي تجمع الاتحاد مع البلد. وأضاف “منذ سقوط جدار برلين، بنيت علاقتنا مع روسيا على أساس غياب الثقة”. وذكر بأن روسيا موجودة في أوروبا، وحذر من أن دفع موسكو سيرسلها إلى أحضان الصين.
وأشار ماكرون إلى وجوب عمل أوروبا على تحديد طرق للتقارب مع روسيا دون التخلي عن أوكرانيا. وأكد أن الفشل في ذلك “سيبقي توترا غير لازم، وستتواصل النزاعات المجمدة في جميع أنحاء أوروبا التي ستبقى مسرحا لمعركة استراتيجية بين الولايات المتحدة وروسيا. ويعني ذلك أننا سنستمر في مواجهة عواقب الحرب الباردة على أرضينا”.
لا شك أن التهديدات التي حذر ماكرون منها تعتبر واقعا تواجهه أوروبا اليوم. ويلفت ريتر إلى أنه يجب إدراك وجود الوضع الراهن في يد روسيا وحدها. فبحلول نهاية العام، سيتم تفعيل خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2 الذي سيربط إمدادات الغاز الطبيعي الروسية بالاقتصاد الألماني والأوروبي. بالإضافة إلى تحويل أوروبا إلى طرف أكثر اعتمادا على إمدادات الغاز الروسية، تجعل الخطوة من خطوط الأنابيب القديمة التي تمر عبر أوكرانيا زائدة عن الحاجة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى