” الثّورة المضادّة ” و ” الثّورة ” ( مغامرة العقل السّياسيّ القائد ، في نموذج تاريخيّ )

1 – من الثّابت ، واقعيّاً ، أنّ للقيادات السّياسيّة التّاريخيّة دوراً أساسياً ، وطنيّاً ، في الأمم و البلدان ”المتحضّرة” اليوم ، و ذلك مهما كانت نظرتنا الفكريّة إلى ”الأيديولوجيّات” التي تتجذّر في عمق تاريخ سياسات دول العالم المعاصر ، بعد أن اشتدّت المنافسات بين ”الأمم” المختلفة ، ليس على الرّيادة العالميّة و حسب ، و إنّما أيضاً على التّصوّرات العقلانيّة السّياسيّة المُجذّرة للموجوديّة ، للقادة التّاريخيين الذين دخلوا التّاريخ و إلى الأبد .
و من الطّبيعيّ أن تتنافر الاتّجاهات الفكريّة و السّياسيّة الجذريّة للعقول التّاريخيّة ، حتّى إذا ما دخلت في امتحانات ”تناقضات الإرادات السّياسيّة في ”الثّورات” و ”الثّورات المضادّة” ، نتج عنها النّموذج السّياسيّ الواقعيّ الأبقى و الأقدر على الرّسوخ و الاستمرار .
2 – و إذ تختلف التّجارب البشريّة القائمة على أفكار الأفراد ، فإنّ هذا الأمر هو ما يؤكّد دور الأفراد القادة و المفكّرين و السّاسة في التّاريخ ، على عكس ما ينتظره التّفكير المنعزل و الانعزاليّ لتكذيب هذه الحقيقة بواسطة أضغاث أفكار يُراد لها و منها أن تكون بديلاً فوضويّاً خالصاً يشكّل المطيّة الصّلبة للخيانات التّاريخيّة للعقول المحدودة ، و التي تجعل من شعوبها أشلاءً في فضاءات عواصف السّياسة العالميّة في التّاريخ .
و لمن يشكّ ، في تصرّفٍ مفضوحِ الخيانةِ التّاريخيّة عارية و محدودة الأهداف بشخوصها أو بجماعاتها ، في هذه الحقائق ، فإنّ التّاريخ نفسه يتكفّل بتكذيبه و لفظه خارج كون الدّور الوطنيّ المؤسّس لأمجاد الأوطان ، إن من النّاحية السّياسيّة القريبة أو من الجانب الأخلاقيّ الأبعد الذي تختلف أو قد تختلف عليه ”العقول” في صراعاتها الذّاتيّة التي لا يأبه لها التّاريخ و لا يحفَل بتعلّاتها الفارغة .
3 – يُفيدنا استرجاع التّاريخ ، أو استعادة بعض قِطاعاته ، في إعمال قانون القياس البشريّ ، مع أنّه من الواجب أن نكون حذرين فكريّاً من ”المطابقة” الكلّيّة ما بين ماضي التّجارب و حاضرها ، إذ يبقى قانون ”القياس” معلّلاً للبشر و نزعاتهم الطّبيعيّة و الفطريّة و بخاصّة بالنّسبة إلى تطلّعاتهم إلى العنف و ممارسة القوّة في معرض ما هو ثابتٌ بالمطلق من ميل الأفراد و الجماعات و القوى نحو التّسلّط و السّلطة و التّفوّق و السّيطرة بأثمانٍ غير ذات بال .
4 – و من منطلق التّشابه الإنسانيّ في نزعاته الفطريّة يمكننا أن نقف بالاعتبار و التّأمّل عند تجارب بعض الأفراد و القادة التّاريخيين ، في انعكاسها على شعوبهم و مجتمعاتهم و مستقبل دولهم حتّى عندما يكون هؤلاء قد زالوا من الحياة و بقيت آثارهم العقليّة و السّياسيّة شاهدةً على حياتهم التي كانت حافلة بالتّفوّق العقليّ و الإدراكيّ ، بما كانوا به سبّاقين و فاتحين .
5 – في العام ( ١٩٤٩ ) أعلن ( ماو تسي تونغ ) عن تأسيس ”جمهوريّة الصّين الشّعبيّة” في ظروف دامية بعد الانتصار على (اليابان) التي غزت ( الصّين ) في عام ( ١٩٣٧) ، ثمّ هزيمتها أمام الصّينيين عام ( ١٩٤٥ ) و دخول (الصّين ) في حربٍ أهليّة دامية .
و في بلد ضعيف الموارد الاقتصاديّة و البنية التّحتيّة ، أطلق (ماو) حملة ”القفزة الكبيرة إلى الأمام” في العام ( ١٩٥٨ ) ، لمضاعفة الإنتاج الصّناعيّ و الَزّراعيّ .
حَمَّلَتْ سياسات ”الدّولة” في (الصّين) ، نتائج الظّروف الطّبيعيّة القاهرة التي عصَفت بالصّين خلال الأعوام ( ١٩٥٩- ١٩٦١ ) ، و التي أدّت إلى موت عشرات الملايين من الصّينيين في كوارث طبيعيّة ، و هو ما حال دون نجاح حملة ( ماو ) التّطويريّة .. عندما استغلّ خصومه السّياسيّون الشّيوعيّون هذا الواقع الموضوعيّ ، و أبعدوا ( ماو ) عن قيادة الدّولة حينما أجبروه على ذلك في عام ( ١٩٦٢ ) ؛ و ذلك ليعود ( ماو ) إلى الظّهور في الواجهة السياسيّة مٌجَدَّداً في العام ( ١٩٦٦ ) بقوّة المغامرة الواثقة و المبنيّة على ما أعلنه ممّا عُرف بإسم ”الثّورة الثّقافيّة” .
و بحسّ القائد السّياسيّ التّاريخيّ واجه ( ماو ) بحرب عاصفة كبيرة موجّهة إلى جميع إرث الماضي ، من ”رأس مال” طفيليّ و كومبرادوريّ ؛ في الوقت الذي عمل فيه ، إلى جانب ذلك ، على تغيير ”ثقافيّ” عميق في بنية الدّولة و المجتمع ، هذه البنية التي وجدها هذا القائد العالميّ التّاريخيّ مهدّدة بالخراب و التّخريب المتعمّد و الانهيار الشّامل ؛ فأغلق المدارس الصّينيّة التّقليديّة ، و عمل على إعادة تعليم و تأهيل الأجيال الجديدة في غمار ”العمل اليدويّ” الذي طبّقه على الجميع ، فيما أخذ ، و بمسؤوليّة تاريخيّة أخلاقيّة و جريئة و متجرّدة ، بكنس جميع مظاهر و أسباب و أدوات ”الماضي” ، بما في ذلك من ”تمزيق” للتّراث التّقليديّ للصّين ، و إتلاف كلّ ما له علاقة بالماضي من مناهج دراسيّة و ”نصوص” “ تافهة كانت تشكّل عقبة فكريّة ، ثقافيّة و علميّة و معرفيّة أمام التّطوّر الجامع للبلاد .
و إلى وهلة بسيطة ، إذا قورنت بمسيرة التّاريخ الطّويلة التي تحتاج إلى عقول استراتيجيّة و مغامرة ، بدا أنّ (الصّين) قد دخلت في فوضَى تاريخيّة ، استغلّها خصومه و أعداؤه ، كما استغلّها بعض السّياسيين ”الستالينيين” ( أو الستالينويين ! ) في ( الاتّحاد السّوفييتيّ ) ، لغرض تشويه صورة ( ماو) أمام شعبه العريض ، في الوقت الذي لم يخرج فيه ( ماو ) عن أصول و جذور ”الماركسيّة” التي تجمع في الثّقافة ما بين ”الأساس” أو ”البنية التّحتيّة” و ”البنية الفوقيّة” ، و لكن في تصوّر واحد و منسجم و فكرة نظريّة و تطبيقها العمليّ في ممارسة متلازمةٍ و واحدة .
فيما أثبت التّاريخ ، في ما بعد ، عمق الصّوابيّة ”الماويّة” في مواجهة المدّ السّياسيّ ”الشّيوعيّ” التّروتسكيّ في العالم ، و القائم على ”تصدير الثّورة” ، و على نقيضه ، غالباً ؛ كما في مواجهة الواقع الصيني ؛ و هو ما نعيش ، اليومَ ، نتائجه أمامنا في محكمة التّاريخ ”العادلة”، و لو بفارق ”استثناءات” مجازيّة و وجيزة .
6 – كان يمكن للبعث أو لِ( حافظ الأسد ) أن يقوم بالدّور نفسه ، بالنّسبة إلى مواجهة الواقع الفلّاحيّ المتشابه ، في حينه ، ما بين ( سورية ) و ( الصّين ) ، و بخاصّة فيما كانت تلحّ الحاجة في ( سورية ) إليه من تجديد ثقافيّ كامل و عميق لأفكار و ثقافة واقع اجتماعيّ رديء و متخلّف و كابح للتّطوّر ، في سلوك ما يُشبه ”الثّورة الثّقافيّة” الصّينيّة ..
لولا مشكلة تبدو في ظاهرها بسيطة ، و لكنّها كانت في حينها عقبة كأداء أمام ( حافظ الأسد ) ، و هي استحالة مواجهة مجتمع موروث من تاريخ ”إسلاميّ” رسميّ طائفيّ و مانِع لغيره من ”ثقافات” ، تحت طائلة احتمال نشوب حرب أهليّة تقوم في جذرها على الانقسام المذهبيّ و الطّائفيّ ، حيث لم يكن ، بالمطلق ، من المقبول من قبل ( حافظ الأسد ) تجشّم أخطار هذا الدّور التّاريخيّ في ”ثورة ثقافيّة” تكنس جميع تاريخ ”السّلف” – أعني ، و بخاصّة تاريخ السّلف – بتراثه ذي الطّبقات الجيولوجيّة – السّياسيّة السّميكة و الكتيمة .
7 – لا يشبه الكلام المجرّد الواقع الصّعب الذي دخلت فيه ( سورية ) ، في إطار حكومات ”البعث” المتوالية ، فكان لا بدّ من التّضحية ببعض الضّرورات التي يقوم دور تغييرها على ”الشّخص” ، و لكن التي أثبت تاريخ البلد في ما ، بعد ، أنّها كانت فوق ما كانت عليه من ضرورات ظرفيّة ، بحيث نواجه ، اليوم ، نتائج كونها كانت من الضّرورات التّاريخيّة الحاسمة ، و ذلك مهما كان لنا أن ندفع ، في الماضي القريب ، أمامها ، من أثمان .
8 – لا تتعلق الأَهمّيّة الثّقافيّة التي يتوقف عليها نجاح تقدّم أمّة من الأمم أو دولة من الدّول بشعبٍ يعاني بشدّة من التّخلّف الثّقافيّ ، في ميدان العمل و العدالة الأخلاقيّة ، بالسّطوع أو الانتشار السّياسيّ لأفكار القادة السّياسيين و الإداريين ، على برامج و تصوّرات و رغبات مكتوبة أو مقولة في خُطبة سياسيّة أو أخلاقيّة مباشرة ، و لا كذلك بالتّوجيهات أو التّهديدات أو التّرغيبات أو الشّروحات المكثّفة ؛
ذلك لأن الواقع المتخلّف ثقافيّاً قادر على خلق نقيض ذلك ، من وقائيّات و مبادرات ، تشتغل وفق الميل الأعظميّ لأخلاقيّات المجتمع و الجماعات و استعداداته الرّاسخة و ”ثقافات” السّلوك الأخلاقيّ الوضيع و عادات الكتلة الاجتماعيّة الأوسع ، و مكامن مصالح الغالبيّة الكثيرة من المواطنين و االسّكان ؛ لا سيّما في واقع متأخّر عن ”الآخرين” ؛
ما يجعل ”الطّموحات” الفرديّة و الشّخصيّة و الخاصّة و القادرة و المسؤولة تتطلّع إلى تقليد ”الآخر” الذي في ”الدّاخل” أو في ”الخارج” و الذي يخضع إلى ظروف خاصّة و موضوعيّة مختلفة تماماً ، و لكنّه الذي يُشكّل و سيشكّل ، دوماً ، منسوب القياس و المقارنة و التّقليد ؛
و هنا تنعدم ، ببساطة ، كلّ وصفة أخلاقيّة مسلكيّة اجتماعيّة و سياسيّة و إداريّة ، ناهيك عن أنّ الفعل ”الثّقافيّ” الذي نقصده ، هنا ، يتجاوز نوعيّاً و اقع التّنظير السّياسيّ البعيد ، كلّ االبعد ، عن آليّات اشتغال الواقع و استدامته بواسطة متطلّبات أقلّ بكثير من متطلّبات الوعي الضّروريّ من أجل تجاوزه الأخلاقيّ الطّوعيّ أو المطبّق قسراً على البنى الاجتماعيّة و السّياسيّة و المؤسّسيّة بقرار تنفيذيّ .
9 – و هكذا كانت المعاناة السّوريّة التي تمظهرت و تظاهرت في هذه الحرب الفظيعة و الفاجرة ، اليوم ، تترنّح في مكانٍ هو فوق عقول السّياسيين البعثيين الذين عاصروا ( حافظ الأسد ) معاصرة جسديّة فقط ، و أكبر من رؤى البعض منهم ، القاصرة و ”المتآمرة” ، هذا إذا اتّهمنا أنفسَنا بأنّنا كنّا نمتلك في ”الدّولة” مثل هؤلاء الأشخاص التّاريخيين ؛
و لهذا نعتقد ، أنّ ( حافظ الأسد ) كان شَخصاً فرداً و قائداً تاريخيّاً فذاً، ولكن بلا أدوات قادرة على النهوض بمشروع تاريخيّ سياسيّ و ثقافيّ و حضاريّ ”حقيقيّ” ؛
و هذا ، في الوقت عينه ، الذي كان فيه ( حافظ الأسد ) واعياً للمستقبل بما فيه هذا المستقبل من انتحارات اجتماعيّة و سياسيّة دَوريّة و متكرّرة ، و لم يغب عن باله أنّنا قادمون إلى ما وصلنا إليه اليوم ، و هذا ما تُثبته جَردةٌ بسيطة و سريعة لخُطَبِ ( الأسد ) الرّاحل ، الخالد ، في مختلف المناسبات السّياسيّة المفصليّة منذ ( حرب تشرين ) الخالدة مروراً في طول بقيّة عقد السّبعينات ، و على طول عقد الثّمانينات ، من القرن العشرين .
10 – لقد أوصَلتنا هذه الحرب إلى ضرورة نقديّة عميقة للأسباب التي ساهمت مساهمة فعّالة في تسعير لهيبها الذي لن ينطفئ بهذه السّرعة التي تتشكّل على معاقل رجاءاتنا و منعقدات هذا الرّجاء ، مع عدم إهمالنا لحقيقة أنّ ثمّة الكثيرين الذين يرجون عكس هذا الأمر ، و هم ممّن اعتاشوا على التّجارة بدماء الشّهداء و القتلى ، و عملوا بكلّ ما أوتوا على استدامة هذه الحرب .
و يحضرُ في هذه المناسبة أمامنا مشخّصاً دورُ القائد بالعقل السّياسيّ الشّجاع و المفارق و الأخلاقيّ ، و ذلك بعد أن جرّبت السّياسة العامّة كلّ الوسائل و الأدوات القيميّة و الأخلاقيّة و التّرغيبيّة و التّرهيبيّة و التّشجيعيّة و الاستبعاديّة .. و التّبديليّة و التّغييريّة ، و التي أثبتت جميعها عصيان الواقع ، بوقاحات تاريخيّة مأثورة ، و استهتاريّة فائقة و عجيبة بمصالح التّقدّم و التّحضَر و الانتقال ، و بدون خوف أو حياءٍ ، و باحتقارٍ لمعاناة الإنسانيّة التي تجسّدت ، قاطبة ، كلّها ، في المجتمع العربيّ السّوريّ جرّاء هذه الحرب الضّارية ، على الشِّفاءِ من هذا التّعويق التّاريخيّ و الحضاريّ المتسرطن ، و الذي حان ، وقت قلبه رأساً على عقِب ، و ذلك مهما كانت الكلفة السّياسية و الاجتماعيّة و التّاريخيّة لتحقيق الانقلاب الثّقافيّ في ”النّصّ” و ”الخطاب” ، و التي لن تتجاوز ، في كلّ حال ، ما قد تكلّفه المجتمع و الجماعات و الأفراد من تضحيات و مآثر لن يتجاوزها شكلٌ آخَرُ لها مهما بلغ من القوّة و العنف .
11 – الذي ننظر إليه بعين الضرورة التّاريخيّة ، هو أن يحافظ النّظام السّياسيّ المعاصر على مشروعه التّاريخيّ ، أمام ”إحراجات” الحرب و مطاليبها المزيّفة ، و لا سيّما ، أنّ ما تُريد تحقيقه الحرب ، كحرب ، على المستوى الاجتماعيّ الدّاخليّ ، فعلاً ، إنّما قد تحقّق نهائيّاً بفضل مزَيَّفي و مزوَّري أبطال المؤسّسات الحكوميَّة ”القائدة” و الآمرة و السّيّدة ، و متعهّدي تخريب التَّربية و الإعلام و الاقتصاد و الرّقابة و القضاء ، و جهابذة الثَّقافة ، و مستثمري الإبداع المزيّف و ”عبقريّة” الآفاق الأخلاقيّة التي تستخفّ بعقول المواطنين المحرومين و الشّهداء و الشّهداء الأحياء .. ،إلخ ، إلخ ؛ و بعد أن لم يبقَ أمامَ هؤلاء سوى استعادة و تكرار مآسي البلد التي خرجتْ على العَدّ و الصَّبر و الأمل المفتوح .
الخطِرُ هو أنّنا أصبحنا ، اليوم ، أمام مفترق ثقافيّ – حضاريّ ، ضلّ عنه و فيه من ادّعى أنّه مواطنٌ فاعل في مفاصل القوّة و المعرفة و التّغيير و التّفسير ، بحيث أثبتوا عجزهم الإراديّ عن مواجهة مخلّفات الحرب و مخلّفات ما قبل الحرب من عجز تاريخيّ لا يمكن أن يتصوّر عاقلٌ أنّ الوطن قد خلا من بدائلهم التّاريخيين كقادة اجتماعيين و سياسيين و ثقافيين و إداريين .
12 – و لتبسيط هذه الصّورة ، بالمقارنة مع ما يطمح إليه هذا الحديث .. فإنّنا لا نرى البتةَ أنّ في الأمر أيّة مغامرة تاريخيّة يُمكن أن تُرتّب علينا صعوبات التّأسيس من أجلها ، مع ما تتحمّله صعوبات التأسيس من نتائج كارثيّة أو شبه كارثيّة و لكنّها محسوبة ، كما كنّا قد بدأنا بدايات حديثنا هذا على مثال من ”التّجربة الصّينيّة” ؛
مع أنّ كلّ فتح تاريخيّ جديد في السّياسة و الثّقافة و المجتمع ، إنّما يحتاج ، بالطّبيعة ، إلى اجتراح إبداعيّ و جريء تكمن أهمّيّته في الأدوات و الأساليب ، بعد أن مهّد التّاريخ له ، في هذه الحرب و ظروف و نتائج هذه الحرب ، بالمسوّغات و المبرّرات التّاريخيّة التي تكفي ، للكثير من تجاوزات مراحل التّأسيس الشّاقّة و الصّعبة .
13 – إنّ عكس الثّقافة المعاصرة ، أو عكس التّبنّي المعاصر للثّقافة ، هو أمرٌ يؤدّي بنا ، و سوف يبقى يجعلنا ، كمجتمع ، نراوح في ”أوهام” كان قد تحدّث عليها ( فرنسيس بيكون ) ( ١٥٦١- ١٦٢٦ ) ، منذ أيّامه ، و هي لا زالت صالحة للحديث ، متحدّية الزّمان ، حتّى هذا اليوم .
لقد حدّد ( بيكون ) الأوهام التي تبقى في الأحوال الطّبيعيّة و غير الصّنعيّة اجتماعيّاً ، تمارس سطوتها على العقل البشريّ ، وفق ما لخّصها المستشرق الإنكليزيّ ( وليم رايت ) ( ١٨٣٠- ١٨٩٩ )، في أربعة أصناف ، و ذلك على أنّها :
أوّلاً ” أوهام القبيلة ” و هي ، وفق رأينا ، الأوهام التي يتواطأ عليها جماعات البشر قاطبةً ، و كُلٌ من هذه الجماعات وفق لغتها التي تُؤسّس لحدود فهم العالم و تتمتزج في ما بينها بصلابة و انسجام حول القناعات المتناقلة ضمن سلطان القبيلة المعرّف في الّلغات الحديثة بالطوطم و التّابو ؛
و ثانياً ” أوهام الكهف” ، و ننظر ، نحن ، إليها ، بوصفها الانغلاق على الذّات بوصف هذه الذّات هي الملاذ الوهميّ الحصين ، و لكن أيضاً بما هي أوهام التّربية و العادة و التّقاليد التي يخشى صاحبها الخروج منها إلى عراء الضّوء ؛
و أما ”أوهام السّوق” ، ثالثاً ، فهي ما ينتج عن التّبادل النّوعيّ بين الأفراد عن طريق اللغة الحاملة هي أيضاً للتّراث المنظور إليه بتقديس مزيّف ؛
و تأتي في التّرتيب الرّابع ”أوهام المسرح” ، و هي التي تفتح الباب الاجتماعيّ للعروض التي تدخل في إطار الزّيوف ، في برنامج اجتماعيّ مزيّف من العلاقات التّركيبيّة المليئة بالتّبييت الذّاتي الذي يُطرح على أنّه قيمة أو ضرورات اجتماعيّة متبادلة الحاجة و مزوّرة .
في إطار هذه ”الأوهام” تنتكس الثّقافة انتكاسات منظّمة في محيط اعتراف الجماعات الاجتماعيّة جميعها بها ، و قبولها على أنّها مبادئ للتّنظيم الاجتماعيّ و قد بدا على أنّه قائم على قيم ثقافيّة كاملة أو كافية .
14 – و فق ما نرى فإنّ تعريف ”الثّقافة” على أنّها ، كما ينظر إليها البعض ، منظومة ”معارف” ، إنّما هو تعريف إيهاميّ ، أو على الأقلّ صادر عن أشخاص قليلي الباع في الغوص في الفروق الأكيدة و المعروفة ما بين ”الثّقافة” و المعرفة ، عندما يكون الحديث حديثاً يتناول الأبجديّات التّفكيريّة الفكريّة السّياسيّة المعاصرة ، و التي تُعنى ، فعلاً ، بالقيمة بوصفها مجموعةً من الثّوابت التي تؤلّف وطناً أو يحتاج إليها الوطن ؛ و هو الأمر الذي يدفعنا إلى ضرورة التّخلّي النّقديّ و الجائر عن الكثير من ”ثقافاتنا” ، فيما نحتفظ بالمعارف ، بالمعرفة ، على أنّها شيء من المقدّسات .
15 – في ظروف الحرب المعاصرة ، و بعد نهايتها التي أصبحت أقرب ممّا يتصوّره الكثيرون من المشتغلين بالشأن العام و الموسّسات الاستراتيجيّة المتّصلة بالشأن العام ، فإنّ عودة أهمّيّة النّظرة إلى ”الثّقافة” و ”المعرفة” سوف تزداد تسارعاً ، على اعتبار الخواء الثّقافيّ و المعرفيّ اللذين أظهرت هذه الحرب أنّ المجتمع و الجماعات والفئات السّوريّة التي كان لها تأثيرها المباشر في الحرب ، تسبح في لجتهما ، فيما كانا أن رتّبا على القيادة السّياسيّة مسؤوليّات وطنيّة كبيرة لم تكن ، تاريخيّاً ، على مستواهما النّقديّين التّاريخيّين ؛ أو لم تؤدِّ دورها في مواجهتهما بعناية و تحدٍّ كما كان متوقّعاً أو واجباً عليها فيهما و معهما أن تكون .
و على هذا المستقبل ، مستقبل التّحوّلات الثّقافيّة الجريئة التي تتيح للعقل الاجتماعيّ فرص المعرفة الدّافعة بالقيم المختلفة إلى الأمام سوف يتوقّف مستقبل التّحوّلات في السّلم و التي تضمن لمستقبل البشر في ( سورية ) تجاوزاً لتركات الحرب الثّقيلة في كلّ ميدان و على كلّ صعيد .
سوف نحتاج ثقافة جامعة و لو تعالَيْنا جميعاً على جراحاتنا التي تسبّبت لنا أو للبعض بمآسٍ و ويلات تاريخيّة ، ربّما تحتاج من أجل تجاوزها أصحابها ، إلى الكثير و الكثير من الوقت غير الفارغ و الخمول ، و لكن ذلك الذي علينا أن نملأه بثقافات مدروسة ، يقودها في مشروع تاريخيٍ ، رجالاتٌ و أدواتٌ وعقولٌ وقراراتٌ جريئة لا تأخذ في الحسبان وقائعَ الماضي البعيد و القريب ، إلّا على أنّها تركات غير مقدّسة ، و ذلك أيّاً كان مجالها و فضاؤها اللذان يُحصنانها تحصيناً تقليديّاً ، يَكُفُّ عن أن يكون مانحاً لأيّة قيمة مستقبليّة أو لأيّ وعد بالتّقدّم ، و ذلك على كلّ جهة و صعيد ، مهما بدت أو بدا أنّهما ممّا يدخلان في الوجدان ، و الذي أثبت زيفه ، على المستوى الاجتماعيّ أو السّياسّي في التّقدّم التّاريخيّ الذي انتهى في المنطقة إلى طريق شبه مسدود ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى