الانتخابات التشرعية التونسية والخوف من المجهول المعلوم القادم

لاتزال الديمقراطية الناشئة حديثًافي تونس تشق طريقها في ظل عالم عربي محكوم بثلاثيّة بنية العصبيّات الطائفية والمذهبية والعائلية،والفكرالأصولي الديني والاستبداد السياسي.ورغم حضور مبدأ المواطنية في هذه التجرية الديمقراطية، فإنّه لم يستطع أن يزحزح الكيانات المعرقلة لبناء الدولة الوطنيّة الديمقراطيّة الحضاريّة الحديثة.
فتجربة ثماني سنوات من الانتقال الديمقراطي المتعثرفي تونس أظهرت أنّ فكرة الديمقرطة بالصيغة التي جاءت بها أحداث الربيع العربي تبدو غير مقنعة وإن كانت إيجابية في مدى ما. فمادام المشروع الديمقراطي غير مرتبط بحل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، ورسم أفق جديدة للتنمية المستقلة و المستدامة، ومادام سرطان المحافظة على الأنموذج الاقتصادي والاجتماعي القديم للتنمية الذي لفظ أنفاسه في سنة 2011، بشهادة المؤسسات الدولية المانحة،ومتى أبقي على سرطان الاندماج في نظام العولمة الرأسمالية المتوحشة من موقع الطرف التابع و الضعيف في هذا المشروع الديمقراطي التونسي الناشئ،فليس هناك حل لمعضلات الشعب التونسي،لأنَّ الديمقراطية التونسية الناشئة تبدو مشروعاً ديمقراطيًا لفظياً اليوم. لكن المشروع بعمومه يبدو ضرورياً على رغم اصطدامه بعقبات أساسية :غياب المشروع الوطني الديمقراطي لإعادة بناء الدولة الوطنية الحديثة، وغياب لأي استراتيجية وطنية لمحاربة الفساد،وغياب كلي لأي أنموذج جديد للتنمية المستدامة من أجل بناء اقتصاد وطني منتج ومستقل.
خوف حركة النهضة من الهزيمة في الانتخابات التشريعية
في النظام السياسي التونسي الجديد الذي تم إنشاؤه بعد الثورة في سنة 2011، البرلمان هو المؤسسة السياسية الأساسية فأغلبيته هي التي تقترح رئيس الحكومة وهي التي تتولى تسيير السلطة التنفيذية وتمنحها الشرعية.ولهذا تحظى الانتخابات التشريعية بأهمية حقيقية،لكن السمة الخاصة لهذه الانتخابات التشريعية التي ستجرى يوم الأحد 6أكتوبر(تشرين الأول) الجاري، أنَّها تأتي بعدإجراء الانتخابات الرئاسية المبكرة التي حصلت في 15سبتمبر /أيلول الماضي(بسبب رحيل الرئيس الباجي قائد السبسي)، وفاز في جولتها الأولى كل من المرشحين قيس سعيد و نبيل القروي، ماجعل المواطنون التونسيون يركزون رهاناتهم على الانتخابات الرئاسية،الأمر الذي قاد إلى فقدان الانتخابات التشريعية بريقها وجاذبيتها ، من دون التنكر لأهميتها في تشكيل المشهد السياسي العام في البلاد ،خلال السنوات الخمس القادمة، لأنَّ الحكومة المنبثقة عن البرلمان هي التي تضبط السياسات العامة للدولة -باستثناء ما يتعلق بالسياسة الخارجية والدفاع ، بوصفها من صلاحيات رئيس الجمهورية.
والحال هذه يتوجه يوم الأحد 6أكتوبر أكثر من7ملايين ناخب تونسي لانتخاب أعضاء البرلمان الجديد المتكون من 217 مقعدًا، إذ من بين 1572 قائمة ترشحت للانتخابات التشريعية سيكون التونسيون يوم الأحد القادم في مواجهة 722 قائمة قدمت نفسها بصفتها مستقلة، والقائمات المستقلة تعني هنا عدم الانتماء إلى أحزاب سياسية،ومن دون خلفيات إيديولوجية، حسب المروجين لها.
يجمع المحللون التونسيون أنّ تداعيات الانتخابات الرئاسية ستكون شديدة على الانتخابات التشريعية، لجهة أنّ التسونامي الذي حصل في الدور الأول للانتخابات الرئاسية وضرب بقوة مرشحي الأحزاب المركزية المنتمية إلى المنظومة القديمة(السيستام)سيواصل موجته العاتية في الانتخابات التشريعية، وسيقود إلى فوز أحزاب جديدة، وعدد كبير من المستقلين.
الغنوشي والعودةإلى الاستثمار في “خطاب الثورة “
فالهزيمة التي مني بها مرشح حركة النهضة في الانتخابات الرئاسية،جعلت رئيس الحركة الشيخ راشد الغنوشي ينزل إلى الميدان ويقوم بجولة في كامل محافظات الجمهورية لتقديم الدعم لمرشحي حركته في مناطقهم (جهاتهم)من خلال مشاركتهم في الاجتماعات الشعبية التي ينظمونها طلبًا لتجديد ثقة المواطنين في حركتهم في الانتخابات التشريعية ، لا سيما أنّ كل المؤشرات تَدُّلُ على أنَّ النهضة قد تتعرض لهزيمة جديدة في الانتخابات البرلمانية، وبالتالي لن تُصْبِحَ حزب الأغلبية في البرلمان.
ورغم أنَّ حركة النهضة تنتمي إلى منظومة الحكم القديمة طيلة السنوات الثماني الماضية التي تعرضت لتصويت عقابي في الانتخابات الرئاسية،فإنَّ الشيخ راشد الغنوشي اعتمد في جولته الانتخابية خطابًا راديكاليًا ثوريًا،واستخدم مفاهيم دينية، ليغازل من خلالهما أغلب الغاضبين من النهضة الذين صوتوا للمرشح قيس سعيّد ،ومجموعات الثورة ، والمجموعات الإسلامية الراديكالية ،بهدف استرجاع أبناءحركة النهضة والمتعاطفين معها دون أن تفقد خزانها الانتخابي المنضبط ،وبهذا كسب دعمها في الانتخابات التشريعية لتتمكن حركة النهضة من داخل البرلمان إلى إيصال مشروعها إلى آخره. وبما أنّ جزءًا من قاعدة النهضة، إضافة لشباب الثورة المحبطين والناقمين على منظومة الحكم القديمة صوتت لمصلحة المرشح قيس سعيد بالرئاسية في دورها الأول، جاء خطاب الغنوشي ليؤكد مناصرة هذا الأخير في الدور الثاني ويضع منافسه القروي في خانة خصوم النهضة وأعدائها السياسيين ذلك أن القاعدة النهضوية كانت -حتى قبل الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية -تهاجم القروي وتتغزل بسعيد.  وبالمقابل يدعو الغنوشي للتصويت لحركة النهضة لتفادي كل تصادم سواء داخل المجلس التشريعي أو بين رأسي السلطة التنفيذية.
وعبر الغنوشي في مختلف الاجتماعات الشعبية عن اعتزام حركته التحالف هذه المرّة مع القوى الثورية والمضي إلى البناء الاقتصادي والاجتماعي والتنمية كما يعكسه شعارها للتشريعية “العدل أساس العمران”. ويتمثل أحد أركان برنامج حركة النهضة في إرساء هيئة وطنية للزكاة من أجل محاربة الفقر والبطالة وإحداث التنمية.وهذه النقطة الأخيرة بالذات تثير حولها أكثر من نقطة استفهام نظرًا للبعد الديني لمسألة الزكاة  التي شرّعها الاسلام وجعلها فريضة من فرائضه وبعدها عمّا تفرضه الدولة المدنية من جباية(الضرائب) وكأنَّ بالغنوشي عاد الى خطابه الديني ومرجعيته الإخوانية وجاء اليوم لِيُمَرِّرَ برنامجها في المجتمع التونسي.
وتُعَدُّ هذه الخطوة مهمة جدًّا من جانب رئيس حركة النهضة ، لكي يَكْسِبَ القاعدة الراديكالية لحركةالنهضة التي ذهبت أصواتها في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية للمرشح قيس سعيد، ويُذَكِّرَ الجماعات الاسلامية المتشددة بأنَّه لا يزال مُتَمَسِّكًا ببناء الدولة الإسلامية ،وما دُخُولِهِ في منظومة الحكم القديمة وقبوله بمسألة الدولة المدنية والديمقراطية سوى خطوة تكتيكية تدخل في اتباع سياسة المراحل من جهة ومحاولة منه لتجاوز الحملة المضادة له حتى يتمكن من التمركز في البلاد ويتغلغل في مفاصل الدولة حتى ينطلق في تطبيق مشروعه وهو أسلمة المجتمع حتى لا يقال أخونته.
ويأتي ترشح راشد الغنوشي في الانتخابات التشريعية في دائرة تونس 1 بهدف الوصول إلى رئاسة البرلمان التونسي لكي يتمتّع بالحصانة البرلمانيّة (ولاسيّما أنّ حركة النهضة أصبحت مُحاصَرة بقضايا عدّة، أبرزها قضيّة “الجهاز السرّي” وعلاقته بالاغتيالات السياسيّة، وقضيّة تسفير الجهاديّين التونسيّين إلى بؤر التوتّر، ولاسيما إلى سورية وليبيا.
ففي ضوء المؤتمر القادم لحركة النهضة، لن يستطيع راشد الغنّوشي أن يبقى رئيساً للحزب، بحُكم عامل السنّ، والقانون الأساسي للحزب الذي يؤمن بالتداول على قيادته. لذا حرصت “حركة النهضة” على الزجّ بزعيمها راشد الغنّوشي للبرلمان كي يتبوّأ منصب رئاسته، ويُمارس من خلاله حياته السياسيّة، بدلاً من إحالته على التقاعد.ثم إنّ وصول الغنّوشي إلى البرلمان، وترؤّسه المتوقَّع للمجلس النيابي، يشير إلى استمرار سياسة التوافُق التي باتت تكرِّس نِظام الحُكم المُعولَم في تونس، من خلال هَيمنة القوى الإقليميّة والدوليّة على القرار السيادي التونسي، إذ تتولّى النهضة بمُقتضاها رئاسة المجلس النيابي القادم الذي يُعَدُّ في النظام البرلماني السلطة الأصلية ومنه سيمرّر مضمون مشروعه المذكور،ويفرغ الدستور الجديد من طابعه الديمقراطي بالتدرج حتى يصبح خاليًا من المحتوى المدني وهو ما سيوصل البلاد إلى معركة عقائدية حول الهوية علما وأن عودة الحديث عن الثورة وموجة العنف التي رافقتها، فإنَّ المقصود به بالنسبة الى الحركات الدينية هو “الثورة الدينية”.
السيناريوهات المطروحة في ضوء فسيفساء التشتت
الانتخابات التشريعية في 2019، تختلف كثيرًا عن الانتخابات التشريعية التي حصلت في سنة 2011، وكذلك في سنة 2014، فما يمكن استنتاجه من خلال نتائج الدور الأول من الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي شكلت هزيمة كبرى لأحزاب المنظومة القديمة(السيستام)،أنّ سياسة التوافق التي حصلت مع بداية سنة2015،بين حزب “نداء تونس” العلماني الذي كان يمتلك 86مقعدا في البرلمان، وحزب”النهضة الإسلامي” الذي كانت كتلته النيابية تحتل المرتبة الثانية بنحو 69 مقعدا، قد انتهى رسميًا منذربيع سنة2018.
أما في البرلمان الجديد الذي سينبثق عن الانتخابات التشريعية الحالية، فإنّ معظم آراء الخبراء والمحللين ، واستطلاعات الرأي، تُرَجِّحُ فوزحزب”قلب تونس” الذي يتزعمه المرشح الثاني في الانتخابات الرئاسية نبيل القروي، بالمرتبة الأولى.و ستحتل حركة النهضة المرتبة الثانية ،بعدد من النواب أقل من 50نائبًا ،أي أضعف من كتلة2014.
حال البرلمان التونسي المقبل سيكون عبارةعن فسيفساء من الكتل في برلمان مشتت لا يبلغ أقواها حاجز العشرين مقعدًا، وقد يكون الاستثناء لكتلة “قلب تونس” المتوقع أن تتجاوز حاجز العشرين مستفيدة من مرور رئيس الحزب نبيل القروي إلى الدوري الثاني.
يتوقع المراقبون أن تُسْفِرَ نتائج الانتخابات التشريعية عن تشكل كتلتين برلمانيتين هما “قلب تونس” و”حركة النهضة” أقوى من باقي الكتل البرلمانية .وفي هذه الحالة،حتى لوتحالفت كتلة”قلب تونس” مع كتلتين أخريين أو أكثر ، فإنَّها لن تشكل أكثرية برلمانية تُمَكِّنُهَا من تشكيل الحكومة.والأمر عينه ينطبق أيضًا على كتلة “حركةالنهضة”.من هنا تبرز عدة سيناريوهات:
السيناريو الأول: بما أنّ المرشح نبيل القروي يعتبر “حركة النهضة” ورئيس الحكومة يوسف الشاهد وراء إيقافه لحسابات سياسية، حسب ماورد في رسالته الأخيرة الموجهة للشيخ راشد الغنوشي، فإنّ حزب”قلب تونس” لن يتحالف مع حركة “النهضة “التي تقف إلى جانب قيس سعيد بعد أن وقفت إلى جانب يوسف الشاهد العدو الأول لزميله السابق في حزب نداء تونس نبيل القروي.وفي المقابل لن تتحالف حركة “النهضة ا ” مع حزب”قلب تونس”، إذا فاز المرشح نبيل القروي بالانتخابات الرئاسية. هذا ما أكده رئيس الحركة راشد الغنوشي خلال مؤتمر صحفي عقده مؤخرًا، قبل أن يضيف إنًّ النهضة “لن تتحالف مع أي حزب تحوم حوله شبهة الفساد”. حينها ستختار النهضة موقع المعارضة في صورة عدم الحصول على المرتبة الأولى.
وكان رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي حذر من سيناريو “نجاح سعيد في الرئاسية وحزب القروي (قلب تونس) في التشريعية”.وأوضح الغنوشي خلال ندوة صحفية عقدتها حركته مؤخرًا أن “هذا السيناريو لن يعين على تحقيق أهداف الثورة” لأنَّه سَيُفْرِزُ تصادمًا على رأسي السلطة التنفيذية(رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة)على حدِّ رأيه،ويتردَّدُ صداه تحت قبة البرلمان بين داعمي كل رئيس منهما. في مثل هذه الحالات سيجبر “قلب تونس” على إقامة تحالفات هشة مع الأحزاب الموصوفة بـ”الديمقراطية” أو “الوسطية” فضلا عمن سيكتب له الفوز ببعض المقاعد من بين خصوم النهضة التقليديين، لكن هذه التحالفات لن تكون استراتيجية ولا متينة بالنظر إلى الخلافات القائمة بين الحزب الأول والأحزاب التي يطمع في دعمها.
السيناريو الثاني: أن يفوز القروي بالرئاسية وأن تؤول الغلبة البرلمانية ورئاسة الحكومة إلى النهضة أو المستقلين.
السيناريو الثالث: ألا يجد الرئيس القادم أغلبية برلمانية تساعده على تمرير مبادراته فيصبح مجرد رئيس من دون سلطة تنفيذية قوية لا يقوى إلا على بعض التعيينات وإدارة ملفي الأمن القومي والعلاقات الخارجية.
السيناريو الرابع :ألا تجد الحكومة ظروفًا ملائمة للعمل ولا يجد البرلمان سبيلاً لسحب الثقة منها ولا يجد رئيس الجمهورية القدرة على تطبيق الفصل 99 من الدستور (طلب التصويت على الثقة للحكومة)…على أن النجاة لا تكمن فقط في فوز سعيد بالرئاسية ومؤيديه بالتشريعية بل أيضا في فوز القروي بالرئاسية وحزبه بالتشريعية.
الديمقراطية الناشئة في تونس لا تستطيع أن تتطور لكي تتحول إلى ديمقراطية تمثيلية حقيقية،ما لم تقم بتغيير القانون الانتخابي الحالي، الذي أصبح عائقًا أمام تشكيل أكثرية نيابية في البرلمان، قادرةعلى تشكيل حكومة ثابتة .فهذا القانون فتح الباب للمستقلين لخوض تجارب انتخابية. وإذا كانت انتخابات 2014 لم تُعْطِ حُظُوظًا للمستقلين، فإنّ الانتخابات البلدية لسنة 2018، جعلت المستقلين يحتلون المرتبة الثانية بعد حركة النهضة،وهناك نجاحات محتملة حسب الاستطلاعات المنشورة في الانتخابات التشريعية الحالية.
المستقلون فرصة للإصلاح أم أوهام ثورية تصطدم بالوقائع العنيدة
برزت القوائم المستقلة بقوة في الانتخابات البلدية التي جرت في شهر مايو 2018، وحققت فوزًا انتخابيًا مُهِمًا ،على أمل أن يسهم في تدعيم الحكم الديمقراطي المحلي ،واللامركزية الإدارية.لكنَّ في الديمقراطية التمثيلية الحديثة تظل الأحزاب السياسية تلعب دورًا مركزيًا في دينامكيتها الداخلية.
فمن الناحية التاريخية تواكب اختراع الديموقراطية الحديثة مع اختراع المدرسة العمومية أو الحكومية. فالمدرسة هي مكان كبير للتجريد ولاكتساب حق المساواة ووعي المواطنة. ولقد كان الفيلسوف التنويري كوندورسيه (1743 ـ 1794) أول من اقترح المجانية التامة للتعليم، بشرط ألا يتضمن التعليم العام تعليم أي مذهب ديني. وقد قرن روبسبير مجانية التعليم وعلمانيته بإلزاميته. فالمدرسة العامة، المجانية والإلزامية والعلمانية، هي وحدها القادرة على تكوين مواطنين قادرين على ممارسة التفكير العقلي والنقدي بما يتيح لهم التجرد من انتماءاتهم الطبقية والطائفية والمحلية الخاصة ليصيروا أعضاء في الجسد الكوني المجرد الذي تؤلفه جماعة المواطنين..
وإذا كانت الديموقراطية تعطي مثل هذا الدور للمعلم، فإنَّها تعطي دوراً لايقل أهمية للمثقف. فالمثقف هو الحامل للوعي الأكثر تجريداً والأكثر شمولية في آن معاً. ولقد ولدت طبقة المثقفين نظرياً في عصر التنوير وعملياً في عهد الثورة الفرنسية. ثم ما فتئ دورها يتعاظم أواخر القرن التاسع عشر مع قضية دريفوس، ليبلغ أوجه في عصر الإيديولوجيات(الليبرالية والقومية والاشتراكية ) حيث تأكدت الوظيفة الالتزامية للمثقف، ومرّة ثانية في عصر موت الإيديولوجيات حيث تأكدت وظيفته النقدية. فالوعي الديموقراطي هو في جوهره وعي نقدي. وهو يقوم على الاستعمال العام والعلني للعقل.
ومن هنا كان آخر مخاض للنظام الديمقراطي الحديث هو “المجتمع المدني”. فبعد أن كانت الفلسفة السياسية للديموقراطية قد اكتشفت مع مونتسكيو مبدأ “حدِّ السلطة بالسلطة”، وبالتالي ضرورة الفصل بين السلطات للحؤول دون تراكم السلطة وتداركاً لعسفها، جاءت تجربة الأنظمة الشمولية في القرن العشرين لتؤكد على الحاجة إلى تطوير المجتمع المدني كسلطة مقابلة للمجتمع السياسي الذي تمثله الدولة، وكقوة اجتماعية تحتية قادرة على موازنة القوة الفوقية للنخبة السياسية وأجهزة الدولة الممركزة، وأخيراً كطاقة مجتمعية عينية تعارض ميل الدولة المسرف إلى التجريد وتأخذ على عاتقها التعبير والدفاع عن المصالح المحلية والقطاعية والمهنية والانتمائية للمواطنين، وتضغط باتجاه تطوير الديمقراطية من ديمقراطية تمثيل إلى ديمقراطية مشاركة واستشارة متواصلة.
ونعود إلى تجربة المستقلين الذين خاضوا تجربة الانتخابات في مايو2018،أوالذين بصدد دخولهم في تجربة الانتخابات التشريعية لخريف 2019،هل هم فعلاً يشكلون كيانًا حقيقيًا ينتمي إلى حراك المجتمع المدني الحديث المتمرد على سطوة الأحزاب السياسية المركزية. علمًاأنّ البرلمان هو مؤسسة سياسية بامتياز وهذه المؤسسة ركيزتها الأحزاب التي تتكون من مجموعة معروفة ذات تاريخ وبرامج ورؤى وخلفيّة ولها مشاريع، في حين كل ذلك غير واضح بالنسبة الى المستقلين وبالتالي المغامرة بالمستقلين في البرلمان مغامرة غير محسوبة العواقب .فالعملية الديمقراطية قامت على ديناميكية الأحزاب السياسية.ولكنَّ في ظل تراجع الأحزاب الإيديولوجية الكبرى التي عرفها القرن العشرين من الليبرالية والماركسية والقومية والإسلامية على الساحة العربيةعامة،وتونس على وجه الخصوص، بحكم ،تداعيات العولمة الليبرالية المتوحشة التي توخت استراتيجية التفكيك وإعادة التركيب للدول الوطنية ،ولكل الكيانات السياسية والنقابية العريقة ،لا سيما في الوطن العربي، انتعشت في تونس مع تفجر الثورة في سنة2011ظاهرة المستقلين،كتعبير عن حالة اليأس والإحباط و انعدام الثقة في الأحزاب الإيديولوجية والسياسية التي قبرت الثورة والتغيير الاجتماعي الراديكالي في مقبرة التاريخ.
يرى بعض المراقبين في تونس إنَّ هذا العدد الكبير من المترشحين للانتخابات التشريعية الحاملين لصفة “مستقلين”،والباحثين عن مقعد في البرلمان بما له من امتيازات وصلاحيات يُثِيرُ الكثير من الريبة على الجانب الآخر وذلك لعدة أسباب:
أولا: إنَّ إعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية تحتاج إلى أحزاب سياسية مركزية جديدة،وإلى قيادات وطنية حديثة، ولا يمكن أن يضطلع بهذاالدور مستقلون مهما ادعوا الطهرية الثورية ، ولم يمارسوا العمل السياسي ،ولم ينخرطوا سابقا في المنظومة الحزبية، بل يركزون على ثروات البلاد المنهوبة من بترول وملح وفسفاط وتحمّل المستعمر المسؤولية ، ويتبنون شعارات الثورة ومحاربة الفساد وتشغيل الشباب العاطل عن العمل ،ويلعنون الأحزاب والحكام …. ورغم أهمية دور الشباب في صنع الثورة ، فإنَّ هؤلاء عجزوا عن بناء حزبهم الثوري في زمن الانتقال الديمقراطي ،وتحول قسم منهم إلى تشكيل قائمات مستقلة هي في حقيقة الأمر ليست سوى واجهة لأحزاب سياسية أيقنت أنَّ فشلها آتٍ لا محالة رغم ترويجها لعكس ذلك ، فاختارت المخاتلة والمغالطة  عبر بوابة المستقلين ،ولأحزاب إسلامية متشددة خارجة عن القانون  لها مشاريعها التي فشلت في فرضها على المجتمع من خارج الصناديق، فلجأت للديمقراطية لتكتسح بها مؤسسات الدولة  علَّها تَبْنِيَ “الدولة الإسلامية” التي حَلِمَتْ بها منذ سنوات.
ثانيا: إنَّ القائمات المستقلة لا تضم بالضرورة مستقلين إذ نجد فيها متحزبين غاضبين لم ترشحهم أحزابهم على قائماتهم أو لم تترشح أحزابهم أصلاً، فَخَيَرُّوا تشكيل قائمة أطْلَقُوا عليها بشكل انتهازي صفة”المستقلة”.
ثالثا: لقد أثبتت التجربة طيلة السنوات الأخيرة أنَّ الاستقلالية خدعة كبيرة انطلت على التونسيين  لا صلة لها  بأرض الواقع فكم من مستقل خلناه كذلك لكنَّ الأيام أثبتت أنّ استقلاليته لم تكن إلاّ كذبة…. كم من وزير دخل الحكومات المتعاقبة على قصر القصبة منذ سنة 2011 بصفة مستقل ثم ثبت وثبّت انتماءه بعد ذلك لأحد الأحزاب الحاكمة وهنا نتحدث خاصة عن حركة النهضة…كم من مدير ومن مسؤول  تم تعيينه في منصب حساس بدعوى استقلاليته لكنَّه لم يكن كذلك ففعل ما فعل خدمة لطرف سياسي معين…كم من قائمة أوهمتنا بأنها مستقلة تم انتخابها في البلديات ولكنها لم تكن مستقلة… ولم يقرّ رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي بأنَّ حزبه هو من أوصل مرشح الرئاسة قيس سعيد للدور الثاني وهو الذي قدّم للتونسيين كمستقل؟
رابعًا:إنَّ القادمين الجدد إلى البرلمان سيصطدمون بالوقائع الاقتصادية و الاجتماعية التي تعاني منها تونس طيلة السنوات الثماني الأخيرة ،ومنها مديونية مرتفعة تكاد تناهز %80 من الناتج المحلي الاجتماعي ونفقات عمومية لا يمكن التصرف فيها بالتقليص وخدمة دين تجاوزت 9 مليار دينار وموارد جبائية ،رغم ارتفاعها المطرد غير قادرة – لو حدها- على التقليص من نسق ارتفاع المديونية .. .. وكانت نتائج الاقتصاد الكلي مفزعة وخاصة في مستوى نسبة نمو الناتج المحلي الاجمالي التي بلغت 0 بالمائة خلال الثلاثي الأول من سنة 2019 بالأسعار القارة لسنة 2010 فضلا عن تراجع أداء القطاع الصناعي خلال نفس الفترة ، إضافة لزيادة المخاطر المحيطة بآفاق الاقتصاد لسنة 2019 ليراجع صندوق النقد الدولي نسبة النمو نحو التخفيض من 3.1 بالمائة مقدرة في ميزانية الدولة لسنة 2019 الى 1.8 بالمائة.
خامسًا: إنّ النواب المستقلين الذين ستتشكل منهم السلطة الجديدة،إضافة إلى الكتل البرلمانية المنتمية إلى الأحزاب السياسية ، سيجدون أنفسهم في مواجهة عجز تجاري سيتجاوز في هذه السنة عتبة عشرين مليون دينارًا، وعجز في ميزان الدفوعات رغم موسم سياحي ممتاز،وتغول الاقتصاد الموازي ، حيث قدّر الخبير في الدفاع الشامل طه الشتيوي خسائر الدولة الناجمة عن تغول الاقتصاد الموازي بنحو 25 ألف مليار كل عام. وهي مبالغ مرشحة للارتفاع إذا لم يقع إيقاف النزيف.حيث لا تأخذ بعين الاعتبار خسائر الصناديق الاجتماعية الناجمة عن تضخم عدد العاملين في الأنشطة الموازية.
وتابع الشتيوي قائلا: أنّه خلافا للأرقام الرسمية وتقديرات المنظمات المالية الدولية فإنّ حصة الاقتصاد الموازي تعادل 75 ٪ من الدورة الاقتصادية ملاحظا أن النسب المتداولة لا تأخذ بعين الاعتبار السلع التي تورد بتصاريح توريد مغلوطة من حيث القيمة. ثم تروج في المساحات التجارية وغيرها على أساس أنها بضائع نظيفة وكذلك سلع الشركات المنظمة التي تروج دون فوترة في المسالك الموازية.وأشار في السياق ذاته إلى أن الحدود بين القطاعين الموازي والمنظم لم تعد واضحة في خضم اضطرار العديد من المؤسسات المنظمة إلى التعامل مع المسالك الموازية لتأمين قدر من التوازن المالي يضمن استدامة نشاطهما.كما أشار إلى أن حجم الأموال المتداولة في المسالك الموازية يزيد في تعقيد مسؤولية الأجهزة المعنية بالأمن القومي. كما يفرز مناخا يتعارض مع شفافية الانتخابات خاصة في خضم توسع مساحات الفقر والتهميش.
خاتمة:إذا ما انتخب المرشح قيس سعيد في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي ستجرى يوم الأحد13أكتوبر/تشرين الأول الجاري ، فستكون له سلطة مضادة في إطار مجلس نواب الشعب (البرلمان)، الذي سيكون عبارة عن فسيفساء سياسية، ولن تكون فيه أغلبية لأي طرف.
وفضلاً عن ذلك، فإنّ هذه الانتخابات الرئاسية لن تكون شفافة ، بسبب عدم تكافؤ الفرص بين المترشحين الإثنين للإنتخابات الرئاسيّة السابقة لأوانها في دورها الثاني (قيس سعيد ونبيل القروي) .
فقد اتخذالقضاء موقفه ورفض كلّ المطالب المقدّمة للإفراج عن نبيل القروي ، ونعتقد أنّ القضاء التونسي يتحمل مسؤولية تاريخية في وجود هذا الوضع الانتخابي الشاذ بوجود مترشّح في السجن وآخر طليق ويقوم بحملته الانتخابية ويتنقّل بين المنابر الإعلامية رغم أنّ الخطأ ليس خطأه ، لأنَّه قد أخلّ بمبدأ الشفافيّة .فكان بإمكان القضاء أن لا يَظَّلَ سَجِينَ الزاوية الإجرائية الضيقة ،وأنْ يُرَاعِيَ مصلحة البلاد واستقرارها ،وأنْ يُخْرِجَ القروي من السجن، باعتباره الحل الوحيدالذي سيضع حدًّا لمسألة عدم تكافؤ الفرص .
إنّ المزاج الانتخابي العام في تونس يميل إلى معاداة منظومة الحكم القديمة،ولا يمكن للنهضة أن تتخلص من هذه التهمة إلا عبر خيار مساندة قيس سعيد باعتباره معاديًا “للسيستام”،ولأنَّه أيضًا لا يملك حزبًا، قديعقد معها صفقة،فينفذ سياستها مقابل تمكينه من حزام سياسي وبرلماني وبهذا يمكن أن يصبح تابعًا لها على خلاف القروي المحمي بحزبه.
إنَّ هزيمة محتملة للمترشح نبيل القروي ستفتح الباب على مصراعيه للشك في نزاهة الدور الثاني ومن ورائه في كل العملية الانتخابية في البلاد..فهل إنّ تونس مقبلة على الدخول في نفق المجهول -المعلوم القادم،ألاوهوعدم الاستقرار السياسي والمؤسساتي؟.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى