كيف يخفت النفط الصخري الأميركي إيقاع التوتر في الشرق الأوسط

 
عندما تعرّضت ناقلات نفط لهجوم في مضيق هرمز في الآونة الأخيرة، سارع بعض المحللين إلى توقع انتشار الفوضى في الأسواق النفطية العالمية وكان من الممكن فهم هذا التوقع منذ مدة غير بعيدة، لأن المضيق الواقع بين إيران وعُمان يشكّل أهم ممر مائي من الناحية الاستراتيجية، بالنسبة إلى تجارة النفط العالمية، فهو يربط كبرى الدول المنتجة للنفط في الشرق الأوسط بالمناطق المتبقية من العالم. يمر عبر هذا المضيق حوالى ثلث النفط الخام العالمي المنقول بحراً. في أيار 2019، تعرضت ناقلات نفط سعودية وعدة سفن أخرى للتخريب قبالة ساحل الفجيرة في الإمارات العربية المتحدة وبعد شهر أصيبت ناقلتا نفط، إحداهما يابانية والثانية تحمل العلم النروجي، بأضرار في خليج عُمان، جنوبي مضيق هرمز.

لكن على الرغم من أهمية المضيق الاستراتيجية، بالكاد تأثرت أسواق النفط بما حدث، ما يشكل تناقضاً صارخاً مع ما كان العالم معتاداً عليه قبل سنوات قليلة فقط. فقد شهدت أسواق النفط تعديلاً جوهرياً إثر ثورة النفط الصخري في أميركا الشمالية. بدأت ملامح ازدهار النفط الصخري الخفيف تظهر في الولايات المتحدة في العام 2010 ولم يزود السوق بمصادر تموين جديدة فحسب بل بمصادر أكثر مرونة وهذا عنصر على القدر ذاته من الأهمية. من الناحية التقليدية، قد يستغرق مشروعاً نفطياً ما بين 7 و10 سنوات ليحوّل الاستثمار إلى إنتاج. أما بالنسبة إلى مشاريع النفط الصخري، المعروف بدقة أكبر بالنفط الخفيف، فيتقلص هذا الفاصل الزمني إلى أشهر مما يخفض كلفة الإنتاج كثيراً. وقد تركت هذه الميزة البسيطة والقوية في آن تبعات كبيرة على الأسواق النفطية العالمية وعلى الدول المنتجة الموجودة وكذلك على الواقع الجيوسياسي وستستمر في فرض اتجاهات الأسواق في المستقبل المنظور.

حقبة ما قبل النفط الصخري
قبل دخول النفط الصخري إلى السوق، كان تأمين النفط العالمي موزّعاً بشكل واضح بين منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) والدول المنتجة غير المنضوية في المنظمة. في بداية هذا القرن، كانت منظمة أوبك تؤمن ما يقارب 42% من النفط العالمي حيث تعود حصة الأسد منها إلى الدول المنتجة في الشرق الأوسط. لم تكتسب المنظمة تأثيرها بفعل مساهمتها الكبيرة في السوق النفطية، بل بالأحرى بفعل قدرتها الاحتياطية التي أتاحت لها إضافة الأحجام الإنتاجية إلى السوق أو سحبها منها بسرعة نسبية ما أكسبها لقب “المنتجة المرجحة”.

تقع غالبية قدرة الأوبك الاحتياطية في المملكة العربية السعودية التي لطالما تباهت بدورها كـ”مصرف النفط المركزي” وكانت تعدّل إنتاجها بما يتلاءم مع حاجات السوق. خلال مراحل النقص في السوق، كانت منظمة الأوبك بقيادة السعودية تستخدم قدرتها الاحتياطية وتطرح براميل النفط الإضافية في السوق للتخفيف من حماوة الأسعار. وقد حدد هذا النمط أسواق النفط منذ إنشاء المنظمة في العام 1960.

في الوقت ذاته، كان الإنتاج في الدول الكبرى غير الأعضاء في المنظمة، لا سيما الولايات المتحدة الأميركية يشهد تراجعاً مستمراً مؤمناً أرضية خصبة لدعاة “الذروة النفطية” للتحذير من ارتفاع حاد وشيك في إنتاج النفط العالمي، يليه انخفاض سريع قد يسبب صدمة حادة في الاقتصادات المعتمدة على النفط.

في ظل هذه الظروف، إن أي اضطراب في التموين لدى الدول الأساسية المنتجة للنفط، أو حتى مجرّد التهديد بإقفال ممرات النقل الهامة كمضيق هرمز، وفق الخطاب النموذجي الإيراني في السنوات القليلة الماضية، كان قد يولّد قلقاً كبيراً في السوق ويفرض ضغطاً على الأسعار يؤدي إلى ارتفاعها. هكذا كان الوضع السائد في بداية هذا العقد وكان سعر برميل النفط يتراوح بين 100 دولار أميركي و110 دولارات ويُعتبر طبيعياً.

من ثم ظهر النفط الصخري
إلا أن أسعار النفط انهارت في صيف العام 2014. تخطى إنتاج النفط الصخري التوقعات وانتشر بسرعة معوّضاً الخلل وأكثر من ذلك في الدول المنتجة الهامة مثل إيران والعراق وليبيا ونيجيريا.

عكست الولايات المتحدة بشكل جذري عقوداً من التراجع في الإنتاج متخطية روسيا والمملكة العربية السعودية، لتصبح أكبر دولة منتجة للنفط في العالم. من المتوقع أيضاً أن تصبح دولة مصدّرة صافية بحلول العام 2020 بعد عقود من الاعتماد على الاستيراد. وفقاً لإدارة معلومات الطاقة، سجّل صافي التجارة النفطية الأميركية، أي الواردات ناقص الصادرات، هبوطاً إلى أدنى مستوى له منذ العام 1967. أرخى هذا التبدّل الملحوظ في الظروف تبعات أوسع نطاقاً على المشهد الجيوسياسي فاتخذت الولايات المتحدة موقفاً أكثر استقلالية لا سيما تجاه الشرق الأوسط مع تقلص اعتمادها على واردات النفط من المنطقة.

نتيجةً لذلك، أدت قدرة النفط الصخري في التجاوب سريعاً مع التغييرات في الأسعار إلى الحد من تأثير منظمة الأوبك في السوق. فاستراتيجية الأوبك التقليدية القائمة على خفض إنتاجها لفرض الضغط على الأسعار ورفعها سيولّد اليوم حلقة مفرغة بكل بساطة: كلما خفضت أوبك الإنتاج ارتفعت أسعار النفط وتسارعت وتيرة إنتاج النفط الصخري الأميركي مما يمارس بدروه ضغطاً معاكساً على الأسعار فيتطلب خفضاً إضافياً في الإنتاج للحؤول دون هبوطها.

أدركت منظمة أوبك حجم التحدي وكان عليها اللجوء إلى استراتيجية جديدة لذا جمعت في العام 2016 أكبر تحالف لقطاع النفط في التاريخ، مع دول غير أعضاء فيها بقيادة روسيا، للاتفاق على تخفيضات منسقة في الإنتاج، وقد عُرف التحالف باسم أوبك بلس ودام أكثر مما توقع له كثيرون في الأساس وهو يواصل محاولاته تحقيق التوازن في السوق بسعر نفط مرتفع أكثر مما كان النظام السابق سيولّد لو تُرك على حاله. بيد أن نجاح هذا التحالف يبقى مقيداً، فمع أنه استطاع تمهيد أرضية لأسعار النفط، إلا أن النفط الصخري يواصل تحديد السقف والحد من الارتفاع في الأسعار.
في سياق آخر، كانت المخاوف بشأن “عرض الذروة النفطية” شائعة قبل خمس سنوات فقط، إلا أن الحديث عن “طلب الذروة النفطية” قد حل محلها مع أن معظم التوقعات تعتبر أننا لن نشهد حدوث ذلك قبل 20 سنة.

على الرغم من التقلبات اليومية والتوتر المتزايد والاضطراب في معظم المناطق الكبرى المنتجة للنفط والخطر الأكبر من حصول خلل في التموين في الدول الأساسية المنتجة للنفط، واصلت أسعار النفط تحركها في ممر محدد بوضوح. في الواقع لم تتأثر هذه الأسعار كثيراً بالتوتر المتصاعد لا سيما في الشرق الأوسط. تأثرت أسعار نفط خام برنت بشكل آنيّ بالأحداث التي شهدها مضيق هرمز في شهر أيار الماضي وارتفع سعر البرميل البالغ 72،35 دولاراً 72 سنتاً. ومع أن الزخم استمر لأسبوع تقريباً وسجلت الأسعار ارتفاعاً وصل إلى 74 دولاراً للبرميل الواحد، إلا أنها سرعان ما عادت إلى مستويات ما قبل الهجمات. في الإطار نفسه، كان رد الأسعار على هجوم حزيران في خليج عُمان خافتاً. قفزت أسعار برنت بنسبة 4% كرد مباشر على الاعتداء، إلا أنها عادت بسرعة إلى مستواها السابق وخسرت حوالى 23 سنتاً فبلغ معدل البرميل 61،08 دولاراً في اليوم التالي، أي بالكاد أعلى بدولار واحد من سعر النفط في الأسبوع السابق للحادث. لم يكن بالإمكان توقع رد فعل مماثل قبل سنوات قليلة بكل بساطة.

من الواضح أن سوق النفط قد وجد “واقعاً عادياً جديداً” كما يبدو.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى