سعودة الوطن العربي .. الى متى؟؟

 

الرصد والتحليل الموضوعي الرصين، يقوداننا إلى أن المجتمعات العربية عموماً والمجتمع المدني المصري خصوصا، جميعها تسير سيرا حثيثا نحو السعودة، والشجاعة الأدبية تقتضي منا تنبيه نخبنا المدنية والسياسية لهذه الظاهرة الخطيرة على هويتنا الوطنية الأردنية.
ففي الحالة الأمنية المصرية يفند الكاتب طارق رضوان عبر بوابة روز اليوسف بقوله : يجتهد البعض. ويظن أن اجتهاده وحده يكفى. وننسى فى غفلة من الزمن أننا نبنى دولة من جديد. دولة قوية بمفهوم حديث. والدولة لا يبنيها فرد ولا حتى مجموعة أفراد. الدولة يبنيها شعب.

ومصر تمتلك قوة بشرية هائلة. قوة مبدعة دؤوبة وصابرة وذات عَزْم وقوة تحمُّل كبيرة. قوة متروكة فى الهواء الطلق مُعرَّضة لتيارات مُغرضة فى قلبها مرض. يمكن أن توجهها من الخارج أو من خونة الداخل بمجموعة كلمات لا تتعدى مائة كلمة عبر «تويتر» أو عبر الـ«فيس بوك».
شعب متروك للأهواء الشخصية – وهذا عين ما يجري في الأردن وبقية الأرض العربية للأسف – لأنه لم يجد من صفوته الاهتمام اللازم والملائم. ولم يلقَ منها الرعاية العقلية المتكاملة. أزمة بلادنا الآن هى غياب العقول وفقر الفكر فى النخبة. الرئيس يعمل وحده فعليًّا وحوله مجموعة من أخلص وأنبل الرجال. لكن هذا وحده لا يكفى. لا بُدَّ أن يعرف كل منّا دوره تجاه المجتمع. تجاه الأمّة.

تجاه المستقبل. الشعب متروك للمصالح الشخصية ويتعرض كل يوم لوحش العولمة يكمن فى داخلها تسطيح الشعب تمامًا؛ لأنه شعب قادر ومبدع لو تعلّم ولو تثقّف. وتجاربه عبر التاريخ تقول إنه شعب خطر لو وجد من مفكريه ومبدعيه وفنانيه الرعاية اللازمة.

مجتمعنا لو نظرنا لحالنا سنجده بعد أن تعرَّض للسعودة عن طريق الوهابية يتعرض الآن للخلجنة. أى أن المجتمع أصبح يتعرض كل يوم وفى كل مكان لسمات وصفات الخليج. ليس لدينا اعتراض على ما يتم فى دول الخليج فهم أدرَى بما يفعلون. لكن مصر شىء آخر تمامًا. فى الخليج هناك ثقافة «المول» التى أصبحت متنزهًا للشعب هناك. محلات ومطاعم وسينمات ومسارح بداخلها. اختفى فى مصر شكل السينما القديم والمسرح القديم. مبنى وواجهة ومناخًا محيطًا.

واندثرت مبانى السينمات المستقل بذاته ودخلت السينمات المولات باردة بلا روح. فقد الناس رؤية أفيشات الأفلام المبهجة على واجهات السينمات والمسارح مضاءة بأحدث وسائل الإضاءة كما كان من قبل.

قد تكون ثقافة المول مناسبة لدول الخليج لطبيعة الطقس الحار هناك. لكن مصر حياتها مفتوحة فى الهواء الطلق. اختفت المسارح من الأقاليم. وتكاسل النجوم الكبار عن العمل المسرحى. ولو تم فهو داخل القاهرة. لم تعد هناك فرقة مسرحية تلف المدن وتعرض فنّها ليشعر أهل الأقاليم أنهم فى دائرة الاهتمام بدلًا من شعورهم بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية. اكتفت الشاشات التليفزيونية بنقل واقع القاهرة فقط.

ونست فنون وإبداعات الأقاليم. لا بُدّ أن يكون هناك مسرح فى كل مدينة فى مصر، فالمسرح سيد الفنون. أغلقت المسارح أنوارها خوفًا من فاتورة الكهرباء الباهظة الثمن. وهنا يأتى دور الدولة فى دعم المسارح والسينمات وضخ الأموال لإصلاحها ودعمها لتقوم بدورها دون خوف من الخسارة. المسرح والسينما والأوبرا تبنى أممًا وهى قوة مصر الناعمة فعليّا التى تتميز بها عن محيطها الإقليمى.

اكتفى الفنانون بحضور افتتاح عرضهم السينمائى فى سينمات القاهرة داخل المولات. نسوا أن هناك شعبًا متذوقًا محرومًا من رؤيتهم فى مُدُنهم. ما الذى يحدث لو أن أبطال فيلم سينمائى جديد ذهبوا جميعًا لحضور حفل افتتاح لفيلمهم فى أسيوط أو فى النوبة أو فى الدلتا.

ستجد هناك آلافًا فى انتظارهم ممتنين بتواجدهم بينهم. فى مصر أوبرا تعرض كل الفنون محصورة فى مكانها وزبائنها. فنون كالباليه والأوبرا والموسيقى العربية والموسيقى العالمية كلها موجودة بالفعل داخل جدران الأوبرا فى موقعها بالجزيرة ولها زبائنها المحدودون.

لم تخرج فِرَق الأوبرا المتعددة الفنون إلى الأقاليم تعرض فى مسارح الجامعات أو فى مسارح قصور الثقافة المنتشرة فى كل المدن ومعظمها خرابات ينعق فى سقوفها الغربان. هناك قنوات إقليمية تليفزيونية وإذاعية يمكن أن تنقل الحدث الفنى فور عرضه بدلًا من عرضها لقضايا عامة مَلَّ منها الجمهور المستهدف. فى مصر فنون متعددة. فنون نوبية وإفريقية وصحراوية ومتوسطية وقبطية وغيرها. مصر كبيرة وغنية ولا ينضب الإبداع فيها أبدًا.

هناك فنانون تشكيليون مبدعون إبداعًا مذهلًا لا يعرف الناس عنهم شيئًا وبالتالى لا يعرف العالم عنهم شيئًا.

على سبيل المثال فى الأقصر عاصمة آثار العالم لا يوجد بها مسرح فعّال ولا قاعات للفنون التشكيلية يمكن للسائح زيارتها ليعرف أن بمصر فنّا حديثًا لا يقل عن فنونهم. فى مصر معهد للباليه يضخ لمصر فنانين وفنانات من طراز فريد، وهو من أرقى الفنون فى العالم، فنّه هو الآخر محصور بداخل جدران مسارح الأوبرا فى القاهرة.

لو قامت فرقة باليه الأوبرا بعرض إبداعها فى الأقاليم سيندهش القائمون عليها بكم الجماهير الغفيرة المتواجدة للمشاهدة والتذوّق والاستمتاع. فى كل مدن مصر تقريبًا مبانٍ أثرية تحتاج إلى الترميم لا إلى الهدم وبناء أبراج سكنية باردة.

تاريخ مصر المعمارى يُباد الآن أمام أعين الجميع. لا بُدّ أن يسافر إليها المعماريون والفنانون التشكيليون وطلبة كليات الفنون كافة؛ لترميمها وإعادة ما طمس منها عبر التاريخ الردىء التى مرّت به.

حتى فى الرياضة انحصرت هى الأخرى فى القاهرة وماتت الأندية الشعبية مقابل أندية الشركات والبيزنس وأصبح نادٍ كبير كالأهلى والزمالك لا يخرج من القاهرة تقريبًا؛ لأن معظم أندية الدورى أصبح مقرها القاهرة، فلم تَعُد جماهير المنصورة أو المحلة أو الشرقية أو القليوبية أو مدن الصعيد كلها ترى ناديهم المحبوب ولاعبيهم المحبوبين فى الأهلى أو الزمالك. انحصرت مصر داخل القاهرة. ففقدت الدولة تأثير قوتها الناعمة؛ لأن قوتها الناعمة خاملة كسولة مكبلة بمجموعة عقول فقيرة الفكر تضع مصالحها الشخصية قبل مصلحة الأمة. شيخ الأزهر وبابا الكنيسة القبطية والمفكرون- لو وجد- والفنانون والفنانات والراقصون والراقصات للفنون الرفيعة والمطربون والمطربات والمخرجون ولاعبو الكرة لا بُدّ أن يتواجدوا طوال العام فى كل مدن مصر فى برنامج زمنى وموسمى- شتاءً فى الصعيد وصيفًا فى السواحل والدلتا-.

علينا أن نبنى فى كل قرية مسرحًا وسينما بجوار كل مدرسة. فقد استولى الإخوان الفاشيست بتمويل خليجى على الشارع ببناء مسجد وزاوية بجوار كل مدرسة وفى كل شارع تقريبًا. وغرضهم لم يكن الدين بل كان غرضًا سياسيّا قذرًا يسحق الهوية المصرية. ونجحوا فى سعودة المجتمع المصرى.

علينا أن نقدم يد المساعدة والدعم لكل فنون الأقاليم وهى مبهرة لو تعلمون. بدلًا من الحروب والخناقات الضيقة فى وسط القوة الناعمة.

لا بُدّ من ثورة ثقافية تعم البلاد كلها. ثورة لبناء الإنسان المصرى؛ لإعادة قوة مصر الناعمة التى غزت بها العالم وليس الدول المجاورة فقط. مَن يعرف مصر فى الخارج يعرف أهراماتها ومعابدها ومسلاتها ومقابرها الأثرية وعمر الشريف ويوسف شاهين ومَن يعرف مصر فى إفريقيا والعرب والشرق الأوسط يعرفها من أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم وفريد الأطرش وإسماعيل يس وعادل إمام وفاتن حمامة وسعاد حسنى وعلى إسماعيل وماجدة صالح وسليم سحاب ومحمود الخطيب وحسن شحاتة ومحمود الجوهرى. قوة وعظمة وحضارة مصر ناعمة نظيفة نبيلة وعلى عقولها أن تتخلص نهائيّا من المصالح الشخصية وأن تقوم بثورة ثقافية شاملة متوازية مع ثورة الرئيس السيسى فى الاقتصاد والتعمير والأمن والسلام. الرجُل لا يمكن أن يعمل وحده. على الجميع أن يعمل ويجتهد أو يترك مكانه لمن يريد أن يعمل ويجتهد لبناء الإنسان المصرى وبناء الدولة القوية الحديثة.

اما في الحالة الوطنية الأردنية فالكثير يذكر ازدهار دور السينما في وسط البلد كالحسين وفلسطين وبسمان ورغدان وغيرها، فلما لا يتم إعادة ترميم الباقي منها على غرار مسرح البلد والذي نجح على أنقاض سينما الأردن وفرساي، وانا هنا أطالب القطاع الخاص للشروع بهذا الشأن لإعادة الجمهور الذواق لسينما وسط البلد لبناء شخصية الإنسان الذي نريد من خلال الفلم السينمائي والعرض المسرحي ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى