” يا لذكراك التي عاشت بها روحي”

 
هي ثورة 23 يوليو الخالدة، ثورة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، ثورة الضباط الأحرار، ثورة شعب مصر العظيم.. وقد التفّت الأمة، يوم كان هناك أمة، حول مصر.
أعود لأوراقي القديمة، بعد أن جفّ القلب، وصمتت الروح في ظل وضع عربي مهترئ. وقد كتبت ذات يوم حول رسالة كتبها الشاعر الكبير نزار قباني إلى الزعيم جمال عبد الناصر، والتي اعتبرها الكاتب والصحافي ورئيس تحرير مجلة الهلال المصرية رجاء النقاش:نصا أدبيا بديعا، وهي في نفس الوقت وثيقة تاريخية تثبت ما كان جمال عبد الناصر يتسم به كقائد وزعيم من نظرة رحبة واعية عميقة إلى دور الأدباء والفنانين والمفكرين في بناء المجتمع العربي، وحرصه الكبير على أن ينطلق الفنان في التعبير عن مشاعره الصادقة بلا خوف ولا التواء.
ففي عدد من مجلة الهلال المصرية في نوفمبر1970، كتب رجاء النقاش مقالة بعنوان”أدباؤنا ومواقف لا تنسى لعبد الناصر”، وهي مواقف كثيرة مشرّفة تجاه الأدباء والفنانين،وخاصة موقفه من الشاعر نزار قباني بعد هزيمة حزيران 1967 . فلقد نشر نزار قباني قصيدته المشهورة” هوامش على دفتر النكسة”، وانتشرت القصيدة بين الناس انتشارا كبيرا لما كانت تتضمنه من صدق وانفعال حاد في تلك اللحظة المريرة من تاريخنا، كما يقول النقاش، لكن بعض الأقلام في الجمهورية العربية هاجمت نزار على قصيدته أشد الهجوم، وطالبت بمنع نزار من دخول الجمهورية العربية وطالبت بمنع إذاعة أغانيه. وقد أدت هذه الحملة إلى منع القصيدة من الدخول إلى مصر.
يقول النقاش بأنه طلب من نزار أن يرسل القصيدة إلى الرئيس جمال عبد الناصر مع رسالة للرئيس. قرأ الرئيس القصيدة والرسالة وكتب بخط يده على رسالة نزار قباني بالسماح للقصيدة بالدخول وإيقاف أي إجراء ضد الشاعر أو شعره. وكان البعض يرى أن القصيدة فيها هجوم على عبد الناصر. ولكن نزار كان يقول: ليس في القصيدة أي هجوم على عبد الناصر.. ولست أنا الذي يهاجم زعيما مثل عبد الناصر. يقول النقاش” وقد أتيح لي أن أحصل على نسخة من رسالة نزار قباني إلى الرئيس عبد الناصر، والتي قرر الرئيس بعدها رفع أي حظر على نزار قباني أو شعره..

نص الرسالة:

” سيادة الرئيس جمال عبد الناصر
في هذه الأيام التي أصبحت فيها أعصابنا رمادا، وطوقتنا الأحزان من كل مكان، يكتب إليك شاعر عربي يتعرض اليوم لنوع من الظلم لا مثيل له في تاريخ الظلم.
وتفصيل القصة أنني نشرت في أعقاب نكسة الخامس من يونيو قصيدة عنوانها”هوامش على دفتر النكسة” أودعتها خلاصة ألمي وتمزقي، وكشفت فيها عن مناطق الوجع في جسد أمتي العربية لاقتناعي بأن ما انتهينا إليه لا يعالج بالتواري والهروب وإنما بالمواجهة الكاملة لعيوبنا وسيئاتنا.
وإذا كانت صرختي حادة وجارحة، وأنا أعترف سلفا بأنها كذلك، فلأن الصرخة تكون بحجم الطعنة، ولأن النزيف يكون بمساحة الجرح.
من منا يا سيادة الرئيس لم يصرخ بعد 5 يونيو؟
من منا لم يخدش السماء بأظافره؟
من منا لم يكره نفسه وثيابه وظله على الأرض؟
إن قصيدتي كانت محاولة لإعادة تقييم أنفسنا كما نحن، بعيدا عن التبجح والمغالاة والانفعال، وبالتالي كانت محاولة لبناء فكر عربي جديد يختلف بملامحه وتكوينه عن فكر ما قبل 5 يونيو.
إنني لم أقل أكثر مما قال غيري، ولم أغضب أكثر مما غضب غيري، وكل ما فعلته أنني صغت بأسلوب شعري ما صاغه غيري بأسلوب سياسي أو صحفي.
وإذا سمحت لي يا سيادة الرئيس أن أكون أكثر وضوحا وصراحة، قلت إنني لم أتجاوز في قصيدتي نطاق أفكارك في النقد الذاتي يوم وقفت بعد النكسة تكشف بشرف وأمانة حساب المعركة وتعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
إنني لم أخترع شيئا من عندي، فأخطاء العرب النفسية والسياسية والسلوكية مكشوفة كالكتاب المفتوح.
وماذا تكون قيمة الأديب يوم يجبن عن مواجهة الحياة بوجهها الأبيض ووجهها الأسود معا؟ ومن يكون الشاعر يوم يتحول إلى مهرج يمسح أذيال المجتمع وينافق له.
لذلك أوجعني يا سيادة الرئيس أن تمنع قصيدتي من دخول مصر وأن يفرض حصار على اسمي وشعري في إذاعة الجمهورية العربية المتحدة وصحافتها. والقضية ليست قضية مصادرة قصيدة أو مصادرة شاعر، ولكن القضية أعمق وأبعد.
القضية هي أن نحدد موقفنا من الفكر العربي. كيف نريده؟ حرا أم نصف حر؟ شجاعا أم جبانا؟ نبيا أم مهرجا؟
والقضية أخيرا هي أن نعرف ما إذا كان تاريخ 5يونيو سيكون تاريخا نولد فيه من جديد بجلود جديدة، وأفكار جديدة، ومنطق جديد.
قصيدتي أمامك يا سيادة الرئيس، أرجو أن تقرأها بكل ما عرفناه عنك من سعة أفق وبعد رؤية، ولسوف تقتنع، برغم ملوحة الكلمات ومرارتها، بأنني كنت أنقل عن الواقع بأمانة وصدق، وأرسم صورة طبق الأصل لوجوهنا الشاحبة والمرهقة.
لم يكن بإمكاني، وبلادي تحترق، الوقوف على الحياد، فحياد الأدب موت له. لم يكن بوسعي أن أقف أمام جسد أمتي المريض أعالجه بالأدعية والحجابات والضراعات، فالذي يحب أمته يطهّر جراحها بالكحول، ويكوي-إذا لزم الأمر- المناطق المصابة بالنار.
سيادة الرئيس: إنني أشكو لك.. ولا أطلب أكثر من سماع صوتي، فمن أبسط قواعد العدالة أن يسمح للكاتب أن يفسر ما كتبه، وللمصلوب أن يسأل عن سبب صلبه.
لا أطالب يا سيادة الرئيس إلا بحرية الحوار. فأنا أُشتم في مصر ولا أحد يعرف لماذا أُشتم، وأنا أُطعن بوطنيتي وكرامتي لأنني كتبت قصيدة، ولا أحد قرأ حرفا من هذه القصيدة.
لقد دخلت قصيدتي كل مدينة عربية وأثارت جدلا كبيرا بين المثقفين العرب إيجابا وسلبا، فلماذا أُحرم من هذا الحق في مصر وحدها؟ ومتى كانت مصر تغلق أبوابها في وجه الكلمة وتضيق بها؟
يا سيادة الرئيس
لا أريد أن أصدق أن مثلك يعاقب النازف على نزيفه، والمجروح على جراحه، ويسمح باضطهاد شاعر أراد أن يكون شريفا وشجاعا في مواجهة نفسه وأمته، فدفع ثمن صدقه وشجاعته.
يا سيدي الرئيس
لا أصدق أن يحدث هذا في عصرك.

نزار قباني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى