السادات: مصيبة مصر الكبرى

 
عانت مصر في تاريخها الطويل العريق من الكثير من نوائب الدهر المتنوعة مثل المجاعات والقحط والأمراض والحروب والإحتلال والطغيان. لكن أرض الكنانة كانت دائماً تتعافى من أمراضها وجروحها وتتغلب على آلامها وتعود إلى سابق عهدها أو أشد عزيمة وأمضى قوة. لكن مصر بليت قبل نحو نصف قرن من الزمان بمصيبة لم تتعافى منها أبداً ولا تزال تعاني من جراحها وآلامها، بل لا يبدوا لنا أنها ستتعافى منها في وقت قريب. تلك المصيبه تجسدت في أن يحكمها أنور السادات لفترة من الزمن كانت كافية له لأن يعيد بلاده طواعية إلى حظيرة الإستعمار ويضعها تحت نير النفوذ الأجنبي ويحكم ألأربطة حول عنقها ويكبَّلها تماماً ويعصَّبَ أعينها ويقضي على أي أمل لها في أن تتحرر من قيودها، بل إنه عمد إلى تخدير أحاسيسها حتى لا تحس يوماً بآلامها أو بسلاسل قيودها.

في عقد واحد من الزمن قام السادات بتحويل مصر من دولة تتربع على مركز القيادة في العالم العربي إلى دولة تجلس في الصفوف الخلفية و تابعة لغيرها من دويلات الخليج، بل وتلهث وتنافق لتنال رضاها وتسمي شوارعها وميادينها بأسماء حثالة من الشيوخ الذين صنعهم الإستعمار. في عقد واحد من الزمن قام السادات بتحويل مصر من دولة تتزعم القارة الإفريقية والدول النامية والدول الإسلامية إلى دولة لا يكاد يكون لها وزن أو حضور.

ما أن إستقرت الأمور له حتى إنهال السادات بمعوله المشئوم على كل ما أنجزه جمال عبدالناصر
من إستقلال سياسي وإقتصادي وبناء صناعي حضاري، وثورة إجتماعية كبرى أعطت للفلاح حقوقه وآدميته، وثورة ثقافية رفعت بالإنتاج الثقافي المصري إلى عنان السماء. ولم يكتف السادات بتحطيم كل تلك الحضارة بل زرع في نفوس الكثير من شعبه روحاً إنهزامية تخلفية ترى في إنجازات الثورة عنتريات وحماقات وترى الحكمة والحضارة في إستنكار ونبذ ذلك كله ثم اللهث وراء السيد العدو وتنفيذ تعليماته.

قبل نحو أربعين عاماً وقع السادات معاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل وأميريكا، تلك المعاهدة التي رسخت بالوثائق والأوراق الرسمية ما كان السادات قد عقد عزمة عليه سلفاً وبدأ في تنفيذه فعلاً قبل سنوات، وهو تقديم مصر، أكبر الدول العربية وقلعة العروبة والتحرر، راضخة صاغرة مستسلمة لأميريكا وإسرائيل. ما وقع في كامب ديفيد لم يكن وليد عام أو عامين من التخطيط بل كان في ذهن السادات منذ تولية السلطة. فنحن نعرف الآن وبالتأكيد، وبناء على إعترافات أميركية مؤكدة وصريحة نشرتها الواشنطن بوست يوم ٢٢/٢/١٩٧٧، أن الرجل كان عميلاً للمخابرات الأميريكية منذ الستينات وكان يتقاضى مرتباً شهرياً من سيده كمال أدهم، رئيس المخابرات السعودية في ذلك الوقت.

كنا على دراية من أن قوى الشر المتمثلة في إسرائيل والغرب والرجعية العربية كانت دائماً تتصيد الفرص لإغتيال الزعيم الخالد والقضاء على مشاريعه الوطنية والتقدمية. وكنا نتنفس الصعداء و نحمد الله كلما إنكشفت محاولة من محاولاتهم المتكرره للنيل من جمال عبدالناصر، ولكن وللأسف الشديد كان قد تم زرع السادات (وغيره) في دولة عبد الناصر منذ أواسط الستينات وظل كامناً مراوغاً ينتظر اللحظة المناسبة للإجهاز على الثورة ومنجزاتها. وأغلب الظن أنه كان له دور في تطور الأحداث التي أدت إلى حرب ٦٧ وربما كان له أيضاً دور في تدهور صحة الزعيم الخالد ووفاته المبكرة. ونعرف الآن، بإعتراف الغرب، أن ما سمي وقتها بثورة التصحيح لم تكن ثورةً ولم تكن تصحيحاً بل إنقلابٌ تم بإيعاز من المخابرات الأمريكية للتخلص من رفاق عبدالناصر والزج بهم جميعاً في السجون لينفرد بالحكم. بعد ذلك أخذ السادات يتصرف وكأن أميركا هي الدنيا كلها ولا تجوز الحياة إلا بمباركتها، بل أنه ظهر وكأنه لا يستطيع صبراً ليقدم بلاده هدية لها.

قام بإلإفراج عن أعداء الثورة من سجونهم وأعطاهم مفاتيح الإعلام والجامعات والمساجد وأطلق لهم العنان ليعملوا بحقد وثأر و يلصقوا كل نقيصة تحت الشمس بالثورة وزعيمها ومنجزاتها. وفي نفس الوقت وضع في المعتقلات كل من وقف في وجهه أو كتب كلمة حق. كان ينتقد ما أسماه ”دكتاتورية“ عبدالناصر بينما ينفرد في كل القرارات. حتى معاهدة كامب ديفيد ما أن إستكملت بنودها حتى كان السادات قد أطاح بثلاثة من وزراء خارجيتة واحداً بعد الآخر.
تميزت حقبة السبعينات، حقبة السادات، بحالة من الإحباط في مصر والعالم العربي، فقد إعتاد العرب على أن مصر عبد الناصر هي شقيقتهم الكبرى وقائدتهم وزعيمتهم وحصنهم المنيع، فإذا بها تصبح دولة لا هم لها سوى الإنصياع للعدو والإرتماء في أحضانه. وتميزت تلك الحقبة كذلك بإعلام كاذب متهافت، سعودي الهوى وإخواني الإتجاه، ومُسوِّقاً نفسه على أنه إعلام حر. وتميزت كذلك بثقافة سطحية تافهة وإنتاج ثقافي متدني، فشاعت كتب الإشاعات والمذكرات الكاذبة والأفلام الساقطة. وكان من البديهي أن تنتج تلك البيئة السقيمة جيلاً إنتشرت فيه الأمراض والسموم الثقافية وتفاقمت وإستعصت. فأصبحنا نرى نسبةً متزايدةً من ”المثقفين“ المصريين الذين يرون أن عين المنطق هي في عكس المنطق. فهم يرون أنهم ليسوا عرباً وأنه من الحكمة الإعتراف بإسرائيل وأن التطبيع معها نوع من الرقي والحضارة، وأن علاقتهم بالعالم العربي وإفريقيا كانت خطوة للوراء فالمفروض أن ينظروا إلى أميركا وأوروبا. أولئك ”المثقفون“ ناقمون على الثورة وقادتها، بإستثناء السادات طبعاً، وعلى كل إنجازاتها. فتأميم قناة السويس كان في منظورهم تهوراً وبناء السد العالي أضر بمصر، ومجانية التعليم أساءت إلى التعليم. ذلك الجيل الذي نخر فيه الفساد لا يرى في السادات إلا البطولة والعبقرية والدهاء، فكيف لا والرجل قد إكتشف الْإعتراف بالكيان الصهيوني والإستسلام لشروطه؟

المؤسف أن تعليم الجهل والترويج له لم ينتهيا بمقتل السادات، فسياسة مبارك كانت إستمراراً لسياسة سلفه، بل زاد في عهدة إختراع الأكاذيب والترويج لها. والمؤسف أن مصر الآن لا تزال تنتهج نفس النهج حتى بعد ربيعها المزعوم الذي لم ينتج سوى رئيساً جديداً على نفس النهج القديم. نتيجة لثقافة الإنحطاط أصبحنا مثلاً نسمع عن ثراء مصر الزائف و رفاهيتها في العصر الملكي وكأن ذلك حقيقة ثابته، متناسين أن الغالبية العظمى من المصريين كانوا تحت الفقر وأن تلك الرفاهية كانت مقصورة على سكان القصور. طبعاً لم يكن ممكناً ترويج مثل تلك الأكاذيب في العقدين أو الثلاثة التي أعقبت زوال الملكية لأن الذين عاشوا في الخمسينات والستينات غالباً ما كانوا هم أنفسهم الذين عاصروا العصر الملكي ويعرفون تماماً كيف كانت الحياة وكيف كانت مشاعر الناس التي وصلت درجة الغليان.

لم يكن السادات يعمل بمفرده فقد كان مدعوماً بأكثر أجهزة المخابرات تطوراً في العالم، ولهذا فما قام به من تدمير في السبعينات لا يزال فعالاً إلى أيامنا هذه. السادات لم يدمر إنجازات عبدالناصر فقط بل دمر أيضاً، وإلى حد كبير، الأمل في أن ينهض الشعب المصري في أي فترة لاحقة.

قد يكون السادات ألغى الكثير من إنجازات ثورة يوليو التي لم يكن له شرف المشاركة في تفجيرها ( وربما سبب له هذا عقداً نفسية و حقداً دفيناً عليها) لكن مبادىء عبد الناصر لا تموت وهي باقية أبد الدهر، وهو ما ينغص على أعدائه حتى هذا اليوم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى