1▪ من “المقولات” الكبرى المحمولة في جينات الإنسانيّة الطّويلة في تاريخ الحضارة البشرية ، و من الموضوعات المعطاة تلقائيّاً على الزّمان ، ما هو يتداخل في كثير من تعابير الدّلالة ، بسبب الاتّصال الأوّليّ بين تلك المتجاورات .
فالعدالة و المساواة و العطف و الرّحمة و الرّأفة و التّعاضد و التّضحية و المسؤوليّة و الشّعور بالواجب ، و الضّمير و الأخلاق الاجتماعيّة و الأخلاق الدّينيّة و ما يُسمّى ، خطأً ، بالأخلاق السّياسيّة عندما يُراد الحديث على “السّياسة الأخلاقيّة”.. و غيرها كثير من فئتها المحظورة في حظيرة دلاليّة واحدة ؛ كلّ ذلك من إشكاليّات التّفكير و الممارسة و العمل و الفعل و الحكم و التّقرير .
و لقد شغلت هذه “التّيمات” – في أقلّها كذلك – أرقى نماذج الأدمغة المفكّرة منذ فلاسفة الإغريق الكبار إلى عهد الديانة المسيحيّة التي حلّت في ظلّ ( روما ) ، حيث يعود تأسيس روما ، أو بداية هجرة “الرومان” من شرق أوروبا إلى الجزر الإيطالية ابتداء من سنة ( 1200 ق.م ) ، ثمّ تأسيس ( روما ) رسميّاً في القرن الثّامن قبل الميلاد ، ثمّ تأسيس جمهوريّة روما بعد انهيار المملكة الرومانيّة في أواخر القرن السّادس قبل الميلاد ؛ مستغرقة دين “المسيحيّة” و راهنة حتّى هذه الّلحظة من ثقافات و تقاليد فكر و أخلاق الشّعوب .
2▪ و في أصول هذه السّياقات شغلت هذه الفكرة كبار فلاسفة و لاهوتيي المسيحيّة في القرون الوسطى الأوروبّيّة ، مثل ( توما الإكوينيّ ) : ( 1225- 1274م ) الذي أفرد مطوّلاته حول ” العدل” الإلهيّ ، حيث يقول في ذلك :
( إن العدل ضربان ، أحدهما قائم في الإيجاب و القبول من الطّرفين كالعدل القائم في االشّراء و البيع و نحو ذلك من المشاركات و المبادلات ، و قد سمّاه الفيلسوف في الخلقيّات ” ك 5 ب 4 ” العدل البدليّ أي المدبّر للمبادلات و المشاركات و هذا ليس يلائم الله لأنّه من سبق فأعطى له فيكافأ كما قال الرسول في ” رو ١١ : ٣٥ ” . و الثاني قائم في التّوزيع و يقال له العدل التّوزيعي ) .
و ينقل ( الإكويني ) عن ( ديونيسيوس ) في “الأسماء الإلهيّة” ( ب 8 مق 4 ) أنّه : ( يجب أن يُعتبر أنّ عدل الله الحقيقيّ قائم بإيتائه كلّ شيء ما يخصّه بحسب مقامه و بحفظه على كلّ شيء طبيعته في رتبته و قوّته الخاصّة ) .
[ توما الإكويني – الخلاصة الّلاهوتيّة ] .
3▪ اقترنت جزئيّة فكرة العدالة” من مقولتها العامّة الكلّيّة ، مبكراً ، بمفهوم “الدّولة” . و حيث وجدناها متشابهة عند كلّ من ( أفلاطون ) و ( أرسطو ) ، إلّا أنّ الثّاني قد خرج عن معلّمه و اندفع نحو “منطقيّته” الشّهيرة ، فيما مارس قبل ذلك “السّوفسطائيّون” مفهوم العدالة من وجهة نظر نفعيّة مبكّرة سبقت “البنتاميّة” و تطوّراتها الّلاحقة في العصر الحديث .
كان ( أفلاطون ) ، “كبير فلاسفة ومفكّري الأقدمين” ( حسب وصف كارل ياسبرز ) ، تتمحور عنده العدالة السّياسيّة في أنّه : ل ( السّياسيّ الحقّ أن يفكّر تفكيراً صحيحاً في الغايات القصوى و في الله و في الإنسان ، و في علاقة هذا الثّالوث ببعضه.. ) [ أفلاطون – القوانين ] .
و من البيّن كم كانت فكرة العدالة واضحة في ذهن ( أفلاطون ) ، موجّهة لعقله في جميع ما أنتج من إرث فكريّ و إنسانيّ و معتقديّ و سياسيّ ، على مرّ حياته ، و ما تركه ذلك على اللّاحقين .
4▪ من مؤدّيات “العدالة” أنّها تُنتج الحرّيّة في “الأثر” و الممارسة الشّخصيّة و الخاصّة و العامّة ، حيث أنّ “عقلانيّتها” تتجاوز الاعتداءات و الافتئاتات على “الحقوق” الفرديّة و الشّخصيّة و الاجتماعيّة و العامّة ، فإنّ ” السّير ( تايلور ) ” – مترجم كتاب ( محاورة ) “القوانين” لأفلاطون عن “اليونانيّة القديمة” – يصف ( أفلاطون ) بأنّه كان هو “أوّل عَضو في حزب الأحرار في التّاريخ” !
5▪ و مقارنة بالحكمة و عفّة النّفس و احترام الحقوق ، و أخيراً الشّجاعة ، فإنّ ( أفلاطون ) يُفرد للعدالة في ، هذا التّرتيب على الحصر ، أعلى درجة من درجات الفضيلة البشريّة التي هي ليس أكثر من صدًى للفضيلة الإلهيّة .
[ المصدر ، أعلاه – ص( ٢٧-٢٩ ) ] .
6▪ يعارض ( أفلاطون ) مبدأ “العدالة” السّياسيّة في الدّولة بمبدأ “الامتيازات الشّحصيّة و الخاصّة” ، و كذلك تلك “الجماعيّة” في المجتمع الواحد و الدّولة الواحدة .
[ المصدر ، أعلاه – الكتاب الرّابع من “القوانين” ] ؛ و هو لهذا نراه يُفرد “الكتاب الخامس” من “القوانين” ، كلّه ، على العدالة الاجتماعيّة و السّياسيّة التي لا تقوم الحضارة إلّا على أساسها ، من منطلق أنّ هدف “القوانين” يجب أن يكون التّشريع للسّلم .. و ليس التّشريع للحرب بالإباحات و الامتيازات و الاعتداءات التي تؤسّس للحروب .
7▪ في “الباب التّاسع” من “الكتاب الثّامن” من مؤلّف ( أرسطو ) ، “الأخلاق” ، يفصّل ( أرسطو ) و يتوسّع في مفردات “العدل” ( أو العدالة ) . يقول في ( ص 665 و ما بعد) :
( يظهر ، كما قيل في البداية ، أنّ الصّداقة و العدل يخصّان الموضوعات الواحدة بعينها و ينطبقان على الكائنات الواحدة بعينها . ففي كل مجتمع كيفما كان يوجد العدل و الصّداقة معاً على درجة ما . (…) و بقدر ما يمتدّ المجتمع يمتدّ أيضاً مقدار الصّداقة لأنّ هذه هي أيضاً حدود العدل نفسه . لقد صدق المثل القائل “كلّ شيء مشاع بين الأصدقاء” … ، و الأمر كذلك بين “الإخوة” و الرّفقاء ، و هذا على عكس ما هو قائم في “العلاقات الأخرى” ) ..
و يتبع ذلك أنَّ – يتابع ( أرسطو ) – :
( روابط العدل و الحقوق لا تختلف عن ذلك في شيء ، فإنّ هذه الرّوابط ليست هي نفسها بين الوالدين و الأولاد ، و بين الإخوة بعضهم نحو بعض ، و لا بين الرّفقاء و رفقائهم ، و لا بين الأهالي و مواطنيهم ؛ و يمكن أيضاً تطبيق هذه التّصوّرات على جميع أنواع الصّداقات الأخرى) .
و لكنّ ( أرسطو ) لا يسهو عن ذكر “المظالم” في مواجهة “العدل” ( العدالة ) ، فيتابع بعد قليل من حديثه :
( كذلك المظالم تختلف بالنّسبة لكلّ واحد منهم [ من كان يتحدّث عليهم ( أرسطو ) ، أعلاه ] ، و تكون أعظم أهمّيّة كلّما كانت موجّهة إلى أصدقاء أشدّ خلطة (..) و إنّ واجب العدل يزداد طبعاً مع الصّداقة لأنّ كليهما ينطبقان على الأشخاص أعيانهم و يميلان إلى أن يكونا متساويين ) .
8▪ و على جري معلّمه ( أفلاطون ) لا يخرج ( أرسطو ) عن كونه يتوسّع ، و حسب ، في التّفاصيل الجانبيّة لفكرة “العدالة” الأفلاطونيّة ، ليصبّ أخيراً في نهر ( أفلاطون ) ، في حديثه على العدالة و السّياسة ، فيقول :
( على أنّ جميع المجتمعات الخصوصيّة لا يظهر إلّا أنّها أجزاء للمجتمع السّياسيّ . فإنّ النّاس يجتمعون دائماً لتحصيل منفعة عامّة ، و كلّ واحد ينتفع من المَرافق بالنّصيب النّافع لوجوده الخاصّ . إنّ المجتمع السّياسيّ ليس له ، بالبداهة ، غرض ، إلّا المنفعة المشتركة سواء أكانت لمبدئه عند التّكوّن أم لحفظه بعد ذلك . و المجتمع السّياسيّ يسعى إلى منفعة حياة الأهالي بأسرها ) .
[ راجع : أرسطو – الأخلاق ] .
9▪في زمن القرون الوسطى الأوربيّة ، فإنّ فلاسفة عرباً و مسلمين و مفكّرين و أدباء و شعراء قد تطرّقوا إلى هذه “المقولة” بعد أن ألفوها مع الرّسالة المحمّديّة ، و عن “القدماء” ؛ حتّى أنّهم قد اتّخذ بعضهم له موقعاً في “الوجوديّة” و الوجدانيّة العميقة في تعاليم الفكر الإنسانيّ المجرد ، و طرحوا ، جميعهم ، سؤالاً واحداً و كبيراً حول عدالة الحياة الاجتماعيّة و عدالة الحياة البشريّة و عدالة “الخلق” .. إلى أنّ بعضهم قد توصّل على طريقته إلى إدراك خاصّ لمقولة العدالة ، بينما خرّ آخرون تحت وطأة الحيرة و التّردّد و السّوداويّة و العدميّة و اليأس .
و ليست أسماءٌ من مثل ( الكنديّ ) و ( الفارابيّ ) و ( إبن سينا ) و ( عمر الخيّام ) و ( إبن المقفّع ) و ( الجاحظ ) ، و ( أبو العلاء المعرّيّ ) و ( أبو فراس الحمدانيّ ) و ( أبو النّواس ، الحسن بن هانئ ) في العصر “العبّاسيّ” ، بغريبة جدّاً .. عن المثقّفين و المهتمّين و المتخصّصين .
و لقد اقترنت العدالة عند أولئك بأسمى الفضائل المعروفة أخلاقيّاً ، بحيث أنّ ما يجمع ( أفلاطون ) مع ( الفارابي ) [ مثلاً ..] في هذه المسألة ، كما في غيرها ، هو أكثر من أن يذكر في هذه العجالة ؛ مع أنّ مسألة “الفضيلة” عند ( الفارابي ) لا يمكن الوصول إلى مراميها و مقاصدها إلّا في ظلّ نظريّته عن “الفيض الإلهيّ” و التي تفسّر كلّ أفكاره .
10▪في العصور الحديثة و منذ “عصر النّهضة” الأوربّيّ ، بدأ مبدأ “العدالة” يندغم في مفاهيم التّحرّر الإنسانيّ ، و يتشخّص في الانفلات من محدوديّة الحزام الذّهنيّ المضروب على الدّماغ البشريّ في قرون الظّلام القروسطيّة و تفكيرها “الإسكولائيّ”( أو السّكولائيّ) [ المدرسية أو السكولائية (فلسفة المدرسة) (بالإنكليزية: Scholasticism، بالفرنسية: Scolastique) هي فلسفة يحاول أتباعها تقديم برهان نظري للنظرة العامة الدينية للعالم . ] المُجترّ و الرّكيك ، و التي لم يشهد لها العالم في حضارتنا البشريّة ، هذه ، مثيلاً من الوحشيّة و العنف ضدّ الإنسانيّة و الإنسان ..
و هذا ما يُفسّر “مغالاة” الكثير من أفكار “التّنوير” ، في ما بعد ، التي تزامنت مع ثورة صناعيّة و علميّة تجريبيّة ، و فلسفيّة أيضاً ؛ ممّا جعل مبدأ “العدالة” يتداخل أو يتمازج مع مفهوم “المساواة” البشريّة المجرّدة ، هذا مع أنّ “الحقيقة” هي غير ذلك كما سوف نرى في الفصل الأخير من هذا الحديث .
11▪و منذ ( ديكارت ) ، الذي أسّس لمذهب “الوضوح” و التّميّز و التّمييز ما بين المتمايزات ، أخذ مبدأ “العدالة” صفة “أخلاقيّة” ، و أعني “قيميّة” ، حيث أنّ قيمة الأشياء و أخلاقيّتها إنّما تكمن في وضوحها العقليّ و الذي أسّس بدوره لما عُرف فيما بعد بالمذاهب الفكريّة و الفلسفيّة “العقلانيّة” التي كانت ، على عكس ما نفهمه منها اليوم ، تدّعي “الحقيقة” الخالصة المكتشفة بواسطة “التّجربة” العمليّة و الاختبار “الحقليّ” و “المخبريّ” و ما يُسمّى بحسيّة شديدة ، “الإمبيريقيّ” ..
و هو ما عزّز مبدأ “اليقين” المزعوم الذي أثارته أفكار الحداثة و التّنوير التي بدأت في ظهورها إلى ما قبل “الثّورة الفرنسيّة” و روادها الفكريين ، و ذلك اعتباراً من بدايات القرن السّابع عشر مع المفكّرين السّياسيين و الفلاسفة السّياسيين الإنكليز .
يُمكننا استنتاج تحوّلات فكرة “العدالة” و تحويراتها “المفهوميّة” ، مع ( ديكارت ) ، انطلاقاً من موقفه بواسطة الشّكّ الصّارم إزاء ” الأشياء” ، و هو ما يدفع ” عقليّاً ” إلى عدالة التّفكير التي تستبق ممارستها في الأحكام و القضايا و الممارسات ، لأنّ عدم التّسرّع باليقين أو بالاستبعاد و عدم التّصديق إن هو إلّا موقف من مواقف “العدالة” في صيغة “النّزاهة” ( قدر الإمكان ..) و التّموضع ، أو العمل على “التّموضع” ، في قلب الحدث .
12▪ في العصور الحديثة ، و اعتباراً من القرن السّابع عشر ، في إنكلترا و فرنسا و ألمانيا ، بخاصّة ، و التي كانت مقدّمات للتّنوير البورجوازيّ الفرنسيّ ، نجد أنّ العدالة كمبدأ و فكرة قد أصبح لها منظّروها الكثر بعد أن كانت متجذّرة في الوعي الفطريّ الاجتماعيّ ، الذي انعكس في التّاريخ عن ممارسات الظّلم التي اعتمدتها قوى الإنسان التي كانت لا زالت – و ما تزال ، على أيّة حال ! – تحمل ذكريّات الوحشيّة التي عاشها الإنسان في ظروف الأنانيّة الشّرطيّة التي كان يُسوّغها الحفاظ على الذّات ، أوّلاً ، ثمّ التّراكم الموضوعيّ في “الإنتاج” و في سياقاته تَرَاكُمُ هذا الوعي الرّمزيّ بشكل غير مباشر انطلاقاً من أدواته المادّيّة ، ليتحوّل إلى ممارسة مُبادِرة ( إيجابيّة ) للتّفوّق و الاستهتار و العَمَى الذي يحمل في جذره خوف الإنسان الأوّل القديم .
13▪في إطار حصيلة المردود المباشر للمارسات “العادلة” يجدر بنا أن نقرّ بأنّنا لسنا ، بعد ، كبشر ، بقادرين – على مستوى التّجمّعات و الجماعات و المجتمعات – على إدراك “الهدف” المتقدّم من إحقاق و تحقيق الوضع الذي تسمح فيه “الأشياء” أن تمارسَ مضمونها على هيئتها الدّاخليّة ، و لو كان ذلك ، حتّى ، دون جوهرها في الغاية غير المتّفق عليها بين العقول .
و على أيّة حال فإنّ الاختلاف حول طبيعة “الغاية” يقدّم لنا برهاناً ضمنيّاً على مثول “الغاية” في مرحلة من مراحل “الوصول” .. ، و على حقيقة مكانيّة هذه الغاية أيضاً .
غير أنّ الأبسط من هذا الكلام ، و الأسهل للاستيعاب الحسّيّ ، هو القول إنّ “العدالة” و “الحصافة” و “النّزاهة” ، و لو بنسب مختلفة واقعيّاً ، تمكّننا من وجوديّتنا المعطاة أو المقصودة على نحو أفضل و أذكى و أكثر قيمة و جماليّة روحيّة ، ممّا لو كنّا نقوم على العكس .
و في هذا الصّعيد .. فإنّه “ربّما كان المقصودُ الإدراكَ ، بشكل ما ، أنّ كثيراً من الأفعال الرّديّة يرتكبها أناسٌ موهومون ، بهذا الشّكل أو ذاك ، حول الموضوع .
فالافتقار إلى الذّكاء يمكن أن يكون بالتّأكيد أحد مصادر فشل المرء أخلاقيّاً في أن يسلك سلوكاً حسناً .
يمكن أن يساعد التّفكير في ما قد يكون حقّاً من الذّكاء فعلُه المَرءَ أحياناً على التّصرّف بشكل أفضلَ نحو الآخرين (…) .
14▪ و على هذا ، فإنّه “قد يكون من الأسباب الحصيفة للسّلوك الجيّد ما يكسبه المرء من هذا السّلوك . بالفعل ، قد يكون هناك مكسب كبير من اتّباع قواعد السّلوك الجيّد لأفراد مجموعة من النّاس ، ما يُساعدهم جميعاً . و ليس من الذّكاء أن تتصرّف مجموعة من البشر بطريقة تدمّرهم جميعاً” .
[ انظر : فكرة العدالة . أمارتيا سِن . ترجمة مازن جندلي . ص( 72 ) ] .
● أولاً – العدالة الدّينيّة .. و العدالة السّياسيّة :
15▪ منذ نشأة الأديان و الطّقوس و الشّعائر و العبادات ، أوحت فكرة “العدالة” للتّجمّعات و الجماعات و المجتمعات ، البشريّة ، بالكثير من دلالاتها الجوهريّة و لو أنّ صيغها المختلفة كانت تتوزّع بين القصد المباشر للعدالة ( الأخلاق الفطريّة ) ، و بين القصد غير المباشر كما نرى هذا الحال في دوافع و أغراض و أهداف العمل الجماعيّ .
و لقد أسّست الأديان ، نظريّاً ، الممارسات البشريّة الأخلاقيّة ، علاوة على الأسباب العقديّة ، على الفطرة الإنسانيّة و ما يُسمّى “قواعد العدالة الطّبيعيّة” التي تنتظم الأشياء الخارجيّة على الإنسان المُرسلة بالأشياء ، إضافة إلى تلك التي تتداخل بالضّمير لتُفصح عن ذاتها في المناسبات .
و العدالة الدّينيّة الممارسة بتلقائيّة الغريزة الوجدانيّة الإنسانيّة مُعطاة في جميع الأديان الأرضيّة منها و السّماويّة ، مع أنها ، كتشريع متكامل و وضعيّ ، لم تستقرّ إلْا مع الدّيانة المحمّديّة في “القرآن الكريم” الذي أفرد لها الكثير من الجوانب و المناسبات و السّور و الآيات .
على أنّنا علينا ، على عادتنا ، أن نفرّق بين الأخلاق التّديّنيّة الوضعيّة التي تمتلك هوامش حرّيّة “أخلاقيّة” و عرفيّة ، تتجاهل و تتجاوز مبدأ العدالة بسبب الفهم البشريّ المحدود للثّوابت الكونيّة و تنميط هذا الثّوابت ، في قوالب منها ما هو مُشتهر و معروف و منها ما هو خفيّ و سرّيّ بين المرء و ذاته ، لا يمكنه أن يُعلن عنه على الملأ بالكلمات و التّعبير الصّوتيّ ، مع أنّه مُتّحدٌ عضويّاً بالممارسات الاجتماعيّة و الفرديّة و الشّخصيّة التي تتجاوز الرّمزيّة و الضّمنيّة إلى الحسّيّة الصّريحة ؛ و بين الإيمان الفرديّ و ممارسته في الضّمير النّقيّ و التّقوى الذّكيّة .
16▪ و هكذا عمل الفهم المحدود عقليّاً والقاصر للشّرائع و الأديان على مرّ العصور البشريّة ، كعامل اضطهاد و ظلم بطرق شتّى ، و بخاصّة عندما كان من الباكر في التّاريخ أن أدركت الطّبقة الّلاهوتيّة الاجتماعيّة دورها و ثقلها السّياسيّ و الاقتصاديّ في الإطباق على الوعي العام ، و ممارسة الأثرة الشّخصيّة و المؤسّسيّة ، و هو ما عبّرت عنه مختلف أنواع المظالم التي مورست على البشريّة بإسم الأديان ، و ما تزال . كذلك ، إلى اليوم .
في أفكار تأمّليّة حول فكرة العدالة ، ننزلق أحياناً ، إلى نقد مبدأ العدالة الإلهيّة في الأرض ، و نتسرّع في الكثير من الأحكام الظّالمة لفكرة انتشار العدالة ، على طريقتها ، في الأشياء ؛ و مع أنّ العقل الإنسانيّ قد أوتي إلهامات كونيّة و طبيعيّة للنّفاذ إلى جوهر الأشياء ، لكنّ الحقيقة هي أنّ الإنسانيّة لم تتجاوز ، بعد ، سطحيّتها الواضحة ، بينما تقوم الفلسفات و الأفكار المثاليّة أو التي تتقاطع مع المثاليّات ، على اجتهادات أصحابها ، فتكون الضّحيّة ، هنا و هناك ، هي مبدأ العدالة نفسه بوصفه بعداً دينيّاً – إيمانيّاً يُهمل ، أوّلاً ، مبدأ التّديّن المنافق غير الصادق الذي يقود إلى عصبيْاته المعروفة و التي تعبّر عن أشدّ أشكال ممارسات الظّلم ، و تعتمدها اعتماداً تديّنيّاً و لاهوتيّاً ، لتكون الضّحيّة في كل حال في فهم المتديّنين ( و الجهلة و المتعصّبين ) للعدالة ، هي العدالة نفسها و قد سُويّت بالظّلم و القهر الممارس على العقول و الأنفس و الأبدان .
17▪ أمّا عندما يُراد تأييد السّلوك التّديّنيّ الفارغ من القيم و الأخلاق ، في مناسبات العدالة و الأحكام و الممارسات العادلة ، فإنّه ليس من الصّعب ، أبداً ، أن نرى أنّ الدّفاعات جاهزة وراء متاريس النفاق و التّعصب ، سواء في تفسير قوانين و آيات و أسفار العدالة الّلاهوتيّة تفسيراً ظرفيّاً و عابراً يخدم الموقف البشريّ الشّخصيّ في الّلحظة الرّاهنة ، أو بأن تُنسَبَ التّسويغات إلى ركائز منسوبة إلى أحاديث من سُنن الأنبياء و القدّيسين و المؤمنين .. إلخ ؛ في عمليّة من عمليّات الكذب الصّريح على الله و الأنبياء و الإنسان .
لقد تداخلت مبكّراً الأديان في صيغتها التّديّنيّة ، و هي حالتها العاديّة و الطّبيعيّة في تاريخ ممارسات البشر العامّة ، بالمنفعة الشّخصيّة و الجماعيّة و الاجتماعيّة و الدّينيّة – السّياسيّة و المؤسّسيّة “المُحرّمة” ، ليقوم المستفيدون و أرباب الكار برفع “الأكاذيب” من مستوى العرف “الدّينيّ” ( التّديّنيّ ) إلى مستوى النّصوص المقدّسة في عمليّة من عمليّات الاستحواذ على الخطاب “الإلهيّ” المزوّر بالتّفسير ، و استلاب هذا الخطاب و توجيهه في الوجهة العمليّة – النّفعيّة و الاحتكاريّة الظّالمة للقدسيّة و التّقديس في أيدي مهرّجين و منافقين و مارقين من الدّين ، لولا أنّهم قد اشتُهروا على أنّهم من مصافّ السّادة المبجّلين و أرباب الشّعائر و أبواب العبادات التي يتمّ بواسطتهم التّقرّب بها إلى الثّوابت الإلهيّة التي منها العدالة الدّينيّة .
هنا تختلط المظالم بالسّفسطات المأجورة التي لا يُقلّل منها مبدأ “التّسويغيّة” التّدبيريّة ، عالية التّقنيّة و الخبرة ، بعد أن تراكت خبرات تجاربها الاجتماعيّة عبر تاريخ طويل من تطويع النّصوص و الخطابات الدّلاليّة و حرفها عن صراطها الذي جاءت به الأديان .
18▪ أسّست السّياسات الدّينيّة و الأديان السّياسيّة في التّراكم و المراكمة الطّويلتين ، عدالة دينيّة مزيّفة في مكيال راجح إلى موضع السّلطة الدّينيّة التي قرّرت مجموعة سلطات اجتماعيّة ، على أساس ذلك ، و تجاوزت مهمّتها الدّعويّة و التّبشيريّة إلى نَخْر كلّيات الإيمان و العدالة و الأخلاق بالممارسة السّلطويّة الحادّة و القاهرة و الظّالمة بإسم عدالة الدّين ، و هذا ما جعلها تدخل في حظيرة التّنظيم التّاريخيّ الذي أفضى إلى المؤسّسات السّياسيّة بجوهر دينيّ جاوز جميع “ذكريات” الأديان حول العدالة و العدل .
هنا ، و على نحو تلقائيّ ، اجتمعت قوى “الأديان” في التّاريخ مع المؤسّسة السّياسيّة ليتزاوجا في صفقة من صفقات “السّلطة” ، بحيث عادت نتيجة هذه الصّفقة على كلّ من “العدالة الدّينيّة” المزوّرة ، و على “العدالة السّياسيّة” التي هي بطبيعتها مؤسّسة لاهوتيّة بألفاظ و مفاهيم أيديولوجيّة هيراركيّة [ التسلسلية – التدرجية- الهرمية – التصاعدية ] لا يختلف جوهرها ، أصلاً ، عن الممارسات الدّينيّة “المقدّسة”(!) و التي تحمل في طيّاتها جميع آلام المظالم الاجتماعيّة و السّياسيّة التي تتعقّد و تتركّب و تتراكب في المؤسّسة السّياسيّة ، التي انتحلت من المؤسّسة الدّينيّة صفة التّقديس و التّحريم و التّبجيل الفارغ ، و لكنّه الذي يفرض نفسه بقوّة السّذاجة البشريّة و الثّغرات الإنسانيّة الكثيرة ، لتنفرز الفئات الاجتماعيّة و الطّبقيّة فرزاً تاريخيّاً بين جانبين من الاجتماع و السّياسة ، معاً ، يتبادلان التّقديس و الظّلم فيما بينهم ، من جهة ؛ و بين جانب سواد النّاس الخنوعة و الانتهازيّة و المصالحيّة الزّهيدة و الرّخيصة و القذرة في عمليّة من عمليّة استدامة الوعي المهزوم و القاصر ، من جهة أخرى .
19▪ لم تتبادل “العدالة الدّينيّة” و “العدالة السّياسيّة” المواقع في ظاهر الأمر . و لكنّ الحقائق و الممارسات تقول إنّه جرى ما بينهما تحالفات ظرفيّة و استراتيجيّة ، فيما ، في المجتمعات المتخلّفة ، تعتدي عادة “الأديان” على “السّياسات العامّة” ، بسبب الجشع الدّينيّ و فقدان ممارسة الأديان للعدالة و الميل نحو الظّلم الصّريح للنّاس ، في محاولات دؤوبة لسلب الدّين للسّياسة ، و أحياناً يلاقي ذلك تفاهمات و تواطؤات ، فيما تظهر المواجهات السّياسيّة و الدّمويّة بين الطّرفين لتنتهي تلك المواجهات بتسويات اجتماعيّة تتبع وعي المجتمعات العينيّة التي تنشأ فيها هذه الظّروف ..
في الوقت الذي تنزع فيه السّياسة إلى تنظيم الدّين الرّسميّ في المجتمعات المتديّنة ، و الهيمنة عليه في تبادل كبير للمظالم التي يذهب ، عادة ، ضحيّتها المجتمعات و الجماعات و الأفراد .
20▪ من الطّبيعيّ أنّنا لا نتحدّث ، هنا ، على “الأخلاق” ، ذلك لأنّ المبدأ الأخلاقيّ لا يستمدّ ، مباشرة ، مضمونه من مبدأ العدالة ، مع أنهما من المفروض أنّهما ينظّمان المواضيع الواحدة و الممارسات الاجتماعيّة و الفرديّة الواقعيّة و اليوميّة و التي من المفترض أن تقوم على مبدأ العدالة الدّينيّة و السّياسيّة ، من جانب ؛ و على مبدأ السّياسات الأخلاقيّة – العادلة ، من جانب آخر ؛ و هذا في جوهره مبدأ جوهريّ و إلهيّ مع أنّ “العدالة” في الفكرة و المبدأ تتجاوز مبدأ “الأخلاق” الذي يغلب عليه الغموض و العرف و الاجتهاد و الاختلاف .
21▪ و من جهة أنّ العدالة في الجوهر مرتبطة بمفهوم الإنصاف و التّوزيع العادل و الموقف الصّريح و المشرّف و الجريء و معرفة حدود الحقوق و الواجبات ، و بالمبادرات و المسؤوليّات ، و بالشهامة و الإنسانيّة المتواضع على مفاهيمها و بخاصّة بعد زوال مراحل العبوديّة و القنانة – زوالاً على “الورق” ، و حسب ! – و بعد ثرثرة “النّظريّات” و “الفلسفات” و عفونتها في التّطبيق و التّنفيذ حول حُرمةِ تَمَلُّكِ الإنسان للإنسان و مقدّرات هذا الإنسان ؛ و واقع أنّ قيام العدالة ينطلق من قيامها ، أوّلاً ، على هذه “العدالة النّظريّة” ، في المقوّمات ، و على ذلك و على غيره و على ما إليه ؛ فإنّ هذا الأمر يُفضي بنا سريعاً إلى تصوّرات حول انقسام النّاس انقساماً اجتماعيّاً بالنّسبة إلى العدالة ..
فهنالك – و بعيداً عن المواقف الأيديولوجيّة و الأيديولوجيّات – حدث التّمايز المُذلّ بين الظّالم و المظلوم ، فبدت العدالة التّاريخيّة مهزلة من مهازل القيم البشريّة و الإنسانيّة بوجه العموم ، هذا “العموم” .. الذي يقترب كثيراً من الإطلاق !
و في هذه المناخات تبدو جليّة مظلوميّة الضّعفاء بِمُقَدَّرَاتِهم – و ليس بِمَقْدِرَاتِهم ! – و البسطاء و الهامشيين عن الحياة الدّينيّة و عن الحياة السّياسيّة ، معاً ، ما عمّق حالة الظّلم الاجتماعيّ و السّياسيّ بقدر ما كان يبتعد كلّ منها عن العدالة بُعداً يتناءى باستمرار .
22▪ من الطّبيعيّ أنّ مدار العدالة هو في إطار واسع نظريّاً ، بحيث تدخل فيه جزئيّات مفردات العدالة ، كالعدالة في حقّ الوجود و الحياة ، و العدالة في العمل ، و العدالة في الفرص ، و العدالة في الحياة الحرّة الكريمة ، و العدالة العمليّة اليوميّة كالعدالة في توزيع عوائد الاقتصاد و الدّخل القوميّ ( الوطنيّ ) و العدالة في الضّريبة العامّة و الاستضراب على أرقام الأعمال و مستوياتها و أنواعها و مردودها أو ريعها الحقيقيّ .
و مقابل هذه الصّورة ، فإنّ للعدالة وجها آخر من الصّورة ، و هو الالتزام بما تمليه الواجبات على الأفراد و المجتمعات و الدّول ، و تحمّل الجميع مسؤوليّاتهم بحكم النّشاط و العمل و طبيعة العمل و مكان العمل .
و على العموم : ( فإنّه لا يمكن إلّا أن يهتمّ صانعو السّياسة و مُشَخّصُو الظّلم لما يميل إلى استثارة نفوس الذين يُعانون . فلا بدّ من دراسة الشّعور بالظّلم حتّى لو بدا أنْ لا أساس له من الصّحة ، و لا بدّ ، طبعاً ، من تَتَبُّعِهِ إن كان له أساس . و لا سبيل لنا إلى التّيقّن من وجود أو غياب هكذا أساس دون القيام بشيء من البحث . لكن ، بما أنّ المظالم تتعلّق ،غالباً ، بما يكفي لاعتبارها كذلك ، بالانقسامات الاجتماعيّة الشّديدة ، و الحواجز الاجتماعيّة و غيرها من حواجز القائمة ، فإنّه من الصّعب في الغالب تخطّي تلك الحواجز لإجراء تحليل موضوعيّ للفرق بين ما يحدث و بين ما كان يمكن أن يحدث ، و هو فرق ذو أهمّيّة مركزيّة لإعلاء العدل . لا بدّ لنا من التّشكّك و التّساؤل و المجادلة و التّدقيق للتّوصّل إلى استنتاجات حول ما إذا كان في الإمكان إعلاء العدل و كيف ) .
[ راجع : فكرة العدالة . المصدر ، أعلاه . ص( 455 ) ] .
● ثانياً – هدف المُساواة في العدالة :
23▪ هنالك جدل فقهيّ و فلسفيّ و سياسيّ و سوسيولوجيّ ، قديم جديد ، حول علاقة “العدالة” بـ”المساواة” .
يجنح مدّعو النّزاهة الرّومانسيون إلى الخلط ما بين المقدّمات و الأحكام ، و ما بين الأسباب و النّتائج ، و ما بين الاجتماع و السّياسة من جهة ، و بين الأخلاق النّظريّة المجرّدة ، من جهة ثانية ؛ فيدخلون في فضاء العدالة من حقول “واقعيّة” وضعيّة ، محدودة و مختزلة ، على المساواة الكاملة ما بين الأفراد في المعطيات و المحصّلات و التّوزيع و ممارسة التّنظيم .
و هذا ما يُؤخذ عادة على الأخلاقويين الذين لا يُميّزون بين مخرجات العدالة و مفاهيم أخرى كالمساواة في علاقة ليست ، على ما يظنّون واضحة و مفهومة و ميسّرة للفهم الابتذاليّ العامّيّ لمبادئ و مفاهيم و أفكار و تخيّلات و تصوّرات مستوردة من خارج التّجربة الاجتماعيّة و السّياسيّة النّظريّة و العمليّة ، و إنّما من تهيّؤات و تدرّنات من النّزاهة المزعومة المتضمنة خطاب العدالة و خطاب المساواة بدرجة واحدة من المعقوليّة و الشّرعيّة ، مقدّمين المعلول على العلّة ، و البرهان على الفرضيّات ، و المحمولات على حواملها من المواضيع المختلفة و العديدة ، و لو أنّ المناسبة ، هنا ، لا تسمح بهذا التّفصيل و التّعداد و الشّروح الإضافيّة التي تتجاوز موضوعنا الأساسيّ .
24▪ ليست “النّزاهة” بحالة يمكن أن تشكّل لنا منهاجاً لفهم علاقة العدالة بالمساواة ، ذلك لأنّ “النّزاهة” نفسها هي مفهوم غامض و غائم و نسبيّ جدّاً و متغيّر و متلوّن و عاطفي و شخصيّ و فرديّ و ذاتيّ ، لا يمكنه أن يشكّل معياراً لموضوعة أو موضوعتين أو أكثر ، كالعدالة و المساواة و ما إليهما ، هي موضوعات أو معطيات غير معياريّة ، و لو بدا عليها العكس ، و بخاصّة عندما ندرسها و نلاحظها في قلب الممارسة ذات التّأويلات الدّلاليّة و الخطابيّة و العمليّة و النّفسيّة و النّظريّة و المسلكيّة التي تنبو ، جميعها ، على التّحديد أو التّعيين . و ينصرف هذا الواقع ، مباشرة ، إلى تعقيد مبادئ التّنظيم الاجتماعيّ و المؤسّسيّ ، الخاصّ و العامّ ، و ظهور تلك المبادئ بمظهر الأمنيّات .
و أمّا إذا استخدمنا المنهج الجينالوجيّ ، و الذي هو الوحيد القادر على حسم هذه الإشكاليّة ، منطقيّاً و معرفيّاً و عمليّاً و أخلاقيّاً ، فإنّنا نُشرف على فضاء تراتبيّة المصطلحات التي تتوزّع ما بين الأصول و الفروع في الكلّيّات و الجزئيّات ، و في “المقولات” و “المفاهيم” .
إنّ كلّ وحي مُقيم هو من باب “المقولة” أو مجموعات المقولات المعرفيّة الأصلويّة و التي تُفضي بنا إلى “القضايا التّحليليّة” في المنطق العامّ ؛ بينما كلّ استيحاء هو من باب “المفهوم” أو مفاهيم الإنتاج البشريّ الذي تعزّزه – و لا تخلقه ! – الممارسة التي تفضي بنا معه إلى “القضايا التّركيبيّة” ذات المنطقيّة الخاصّة العمليّة و المحدّدة .
25▪ ترتبط “العدالة” ارتباطَ أهليّة و تأهيل للقيمة و الأخلاق من باب غير معياريّ و لكن تحدّده ظروف “المقولة” في فضاءات العدل الاجتماعيّ و السّياسيّ ، و من دون أيّة مقارنة بالإنصاف أو الظّلم الذي يبدو أنّهما مرتبطان بالعدالة ارتباطاً مباشراً ، مع أنّ ذلك هو أحد ضروب الأوهام الثّقافيّة البشريّة التي تعمل على اختزال الأشياء في أحد مظاهرها و أعراضها المتكرّرة أو غير ذلك .
إنّ اختزال الشيء في أحد صفاته أو نعوته ، أو في كلّ صفاته أو نعوته ، إنّما هو أحد أقبح مظاهر الجحود المعرفيّ الممارس في العنف الواقع على الدّلالات .
و من جانب آخر تسلك “المساواة” في الظّاهر و المفهوم “سلوك” المقولة نفسها ، و هذا ما يجعل الإشكاليّات الإدراكيّة و النّقديّة ، على مختلف المستويات و البيئات و الصُّعُد ، تبدو أنّها أكثر تعقيداً ممّا هي عليه في الظّنّ أو في الرّأي أو في مغامرات القول و المقول ، أو في غليل الصّمت !
26▪ لا تستطيع الخطابة السّفسطائيّة ، عادة ، أن تفصل ما بين العدالة و المساواة ، و هي تنظر إلى هذا الأمر على أنّّه من الاستثمارات العقليّة في أذهان الخاصّة و العامّة على السّواء . و يتبع ذلك في الثّقافة العامّة وهم التّرادف ما بين مصطلحيّ العدالة و المساواة ؛ فيما أنّ “العدالة” في “الجوهر” تنصرف إلى ما هو أبعد من “الفضيلة” ، على اعتبارها مبدأ كلّ فضيلة و جذر كلّ أخلاق .
لقد أغرق فكر البشريّة ، كما قُدِّرَ له ، في اختلاطات الدّلالات و الحدود و العلل و النّتائج ، و ضلّ طريق الوضوح ، كما أثبتت الوقائع الاجتماعيّة و السّياسيّة و القناعات البشريّة التي كان عليها – على أغلب الاعتقاد – أن تنطلق من منبع الغايات و تصبّ في مجرى نهر المقاصد و الأهداف .
27▪ اقترف الفكر ، في أثناء ذلك ، جملة من المغالطات الإدراكيّة التي عبّرتْ عن نفسها في خلل مفهوميّ للكثير من المعطيات و المحصِّلات “المعنويّة” ، حيث تداخلت هذه “الأشياء” في ما بينها ، لتمارس ، في الأثناء ، الكثير من الافتئاتات و المظالم و الكيديّات المنظَّمة ، تَبعاً للاستطاعات و المحدوديّات و السّذاجات و الخبث و المواقع و المصالح و المواضع التي أصيبت ، مع “التّفوّق” و “الصَّغَار” ؛ و كانت أن هُزِمَتْ ، مع ذلك ، المضامين و المقاصد و القيم ، و كان منها ما أشارتْ إليه “العدالة” و “المساواة” قبل أن تختلط و تتلوّث بنوازع البشر .
28▪ و على رغم كلّ ذلك ، ما زال يجري ، كما جرى ، عادة ، و حتّى اليوم ، ضروب مختلفة من التّعمية و الإيهام و الإبهام ، عندما تكون المناسبة لا تستطيع تجنّب الحديث على “العدالة” أو “المساواة” . فإلحاح مقاصد الوجود لا تستثني منها مصالح الإنسان و نوازعه الباطلة ، و هي تفرض عليه سطوتها ، مع كلّ ما قد حاول الإنسان ، و يحاول ، في وجوده الطّويل ، من محاولات للتّربّع على عرش الألوهة ، و ذلك في اشتباه كليل ، مع ظنّه أنّه يستطيع إعادة توزيع “المعاني” و المضامين على “الحقوق” الطّبيعيّة و “الواجبات” .
29▪ ليست “العدالة” بنت المواقف الاختياريّة التي يرغب فيها “المتفوّقون” .. كما أنّها ليست “المساواة” بذلك الفتات الذّهنيّ الذي يُوزّع على المحتاجين و اليتامى و أبناء السّبيل .
لقد استقرّ مبدأ “العدالة” منذ “كان” .. على تجذُّرٍ في أسس التّفكير بالواجب نحو وظيفة الخضوع إلى مقتضيات “الحقّ” التي على الجميع الانصياع لها كما ينصاع اللّيل و النّهار إلى التّعاقب و اليقين .
و هكذا خرج مبدأ العدالة عن التّصرّف و العبث و عن تضمينه في ممارسات استثماريّة و استئثاريّة فرديّة و ثقافيّة و اقتصاديّة و اجتماعيّة و سياسيّة ، و قد كان لا بدّ في أثناء هذا الأمر من بزوغ مفهوم “المساواة” كأحد مقتضيات العدالة الموضوعيّة ، و ليسَ ، أيضاً ، على أنّه اختراع فاضلٌ من أيّ من مدّعي النّيابة و الوكالة في معرض “المصادفات” التّكوينيّة لِتَوَزُّعِ الأدوار في التّراتب و الدّرجات ، هذه التي تعمل – بمرارة ، و خزي – على تقليد أمر الخلق الأوّل في التّدرّج و المفاضلات .. !
30▪ و على هذا ، فقط ، ندرك أنّ “المساواة” نتيجة من النّتائج الأكيدة للعدالة ، و لو أنّها نتيجة غير صريحة الوضوح ، و هو ما جعلها حاجة إنسانيّة تختلط بمبدأ العدالة الأوليّ ، فيما هي نتيجة تلقائيّة لممارسة العدل الشّامل في ظلّ مبدأ العدالة في الأصول .
فالمساواة الفرديّة و الشّخصيّة و الاجتماعيّة و الاسّياسيّة هي ليست نتيجة لنضالات مطلبيّة يمارسها أقوامٌ من المظلومين .
و مع أنّ “المساواة” بين البشر في الحقوق و الواجبات هي أبعد ما تكون عن مفهوم تطابق ذلك تطابقاً نوعيّاً و كمّيّاً ، إذ تتبع هذه المساواة “الأحوال” الشّخصيّة و الظّرفيّة و الفطريّة للأفراد ؛ غير أنّها ليست منحة من قبل “الموزّعين” تمنح في “المناسبات” على “المتوازعين” الإسميين ، من دون أن تخضع لها الحاجات و الحقوق ، و الواجبات أيضاً ، في عمليّة “التّوزيع” التي يتولّاها مَن هم غير أهل لدخول معبد “العدالة” ، من جهةِ حقيقةٍ أكيدة لم يجرؤ أحد على الادّعاء بتجاوزها ، نظريّاً و فلسفيّاً .. ، و هي أنّه ليس ثمّة “مساواة” من دون “عدالة” ، و هذا مع الاختلاف الكبير و الجوهريّ عن مضمون كلّ منهما ، اختلافاً جذريّاً و أصليّاً في مبادئ التّكوّن و التّكوين .
“العدالة” تؤدّي إلى “المساواة” – وفق شكلها المحدّد ، أعلاه – و لكنّ “المساواة” ، على ما وصفناها ، لا تؤدّي ، و لا بحال من الأحوال ، إلى “العدالة” ؛ و هذا مع أنّ “القيمة” العمليّة تفرض على “المساواة” أن تكون نابعة من “العدالة” ، و حسب .
و حيث أنّه ليس هنالك ، أيضاً ، “مساواة” إنسانيّة خارج إطار تَمَثُّلِ مبدأ “العدالة” ، فإنّ للعدالة شؤوناً أخرى تتجاوز كونها قد “أُقِرّتْ” ، فقط ، لممارسة و تقرير “المساواة” الإنسانيّة بين البشر .
و هكذا فإنّه ليس سوى مثال على ذلك – و حسب – أنّ من مقوّمات “العدالة” و مضامينها ، أيضاً ، الانصراف بجزء كبير من التّفكير إلى اختراع نظم و منظومات نظريّة و عمليّة من أجل إحقاق “المساواة” بين الشّاردين الضّائعين في أمور و أحداث هذا العالم و كأنّها استباقات عمليّة لعلامات السّاعة التي – ربّما – أنّها ، تقترب ، و على نحو من الأنحاء ، أكثر بكثير من طاقة التّصوّر و التّخيّلات !