“الكتب التي التهمت والدي”.. رواية

لا يستطيع قارئ هذه الرواية إلا أن يشعر في النهاية بأن هذه الكتب قد التهمته أيضا كما التهمت والد إلياس، بطل الرواية. فوالده فيفالدو بونفين، والذي ظن بأنه مات كما قيل له، إثر أزمة احتقان موضعي في القلب، قد اختفى داخل الكتب، إذ كان يعمل في مصلحة الضرائب، وكان عشقه للكتب يجعله يقرؤها خلسة في مكتبه بعد أن يخفيها تحت أوراق الضرائب. حتى جاء اليوم الذي دخل عليه مدير المصلحة، وأخذ يناديه، لكن الكتب كانت قد التهمته.

رواية الكاتب البرتغالي أفونسو كروش صدرت عام 2018 بالنسخة العربية عن دار مسكلياني، وكان كروش قد أصدر عدة روايات منها: هيّا نشتر شاعرا، ودمية كوكوشكا، والرسام تحت المجْلى.

كانت المهمة العسيرة هي البحث عن والده بين الكتب. وكانت جدته التي تروي له حكاية والده قد أهدته في عيد ميلاده الثاني عشر مكتبة والده في عليّة المنزل، وهي  وصية والده” أعطيه المفتاح حين ترين أنه أصبح قادرا على قراءة كتب علّيّتي”. وظلت المكتبة في انتظار الابن لمدة اثنتي عشرة سنة.” أخيرا سوف أتعرف على والدي وأقتفي أثره، سوف أجول بين كل الكلمات التي جال بينها، وقد أعثر عليه خلف جملة من الجمل، بين شخصيات رواية من الروايات..”. وهو لم يعرف والده إذ كان في رحم أمه” أدور مثل الملابس داخل آلة الغسيل”، ثم اختفى فيفالدو و”ولج داخل الكتاب”، وكان الكتاب الذي وجد بين أوراق فيفالدو على الطاولة في مصلحة الضرائب، هو”جزيرة الدكتور مورو” للبريطاني هربرت جورج ويلز، مفتوح عند الصفحات الأخيرة.

يصف الراوي لحظة دخوله إلى مكتبة والده”.. فتحت الباب. كانت يداي ترتعشان، لمعرفتي أن هناك بالداخل، في تلك العُلّيّة، كل شيء يعجّ بالحروف المتظاهرة بالموت، مع يقيني من أنه يكفي أن نُمرّر فوقها عيوننا كي تقفز مفعمة بالحياة. دخلت بتردد وفتحت النافذة. كانت رائحة الأماكن المغلقة تفوح من العُلّيّة وقد ملأها الغبار عن آخرها، ولما تسلل إليها الضوء غمر المكتبة كلها بنقط صغيرة بيضاء. كان غبارا يتسلل إلى المراهقة، غبارا ذا اثني عشر ربيعا له نفس سَنِيّ.”

يقتبس الراوي إلياس عبارة من قصة للكاتب الأرجنتيني بورخيس وفيها” ثمة عدة أماكن يمكن أن يتوه فيها المرء، لكن لا يوجد مكان أكثر تعقيدا من مكتبة. بل إن الكتاب الواحد يمكن أن يُمثّل مكانا نضيع فيه ونتوه”. والحكايات التي تتشكل منها الكتب هي التي تشكل القارئ، وليس الجينات ورموزها، كما توصل لهذه الحقيقة، إلياس.

ورغم غرقه في عالم الكتب، إلا أنه كان يجد وقتا للحب، وهي رفيقته في المدرسة بياتريس التي كانت تحب صديقه السمين بومبو الذي لم يكن نحيلا” بل ثقيلا لدرجة يبدو معها أن كل أجزاء رواية مارسيل بروست(البحث عن الزمن الضائع).. التي كنت قد مرّرت عينيّ فوقها لماما اجتمعت في الشاب المراهق”… وكانت تعلو وجهه دائما ابتسامة حزينة.

يعود الراوي إلى”جزيرة الدكتور مورو”، ويسهب في قصة إدوارد برينديك الذي نجا من غرق السفينة حيث يلتقي بعالم هو الدكتور مورو الذي يقوم بتجارب على الحيوانات لتحويلها إلى بشر. وحين عاد برينديك من الجزيرة، آثر العزلة وقضى أوقاته في قراءة كتب الكيمياء وعلم الفلك. واستشار طبيبا متخصصا في الأمراض العقلية من أصدقاء الدكتور مورو الذي ساعده في ما بعد. وتنتهي رواية جزيرة الدكتور مورو.

لكن الرواية عند إلياس الراوي لن تنتهي. فالهوامش التي كان يكتبها والده على صفحات الروايات فتحت له آفاقا جديدة. حيث يقوم برحلات خيالية إلى بلدان الشخصيات الروائية ليكتب هو نهايات جديدة لها ويقابل الأشخاص الذين لهم صلة بوالده، فيستعين  بهذه الشخصيات لتخرج عن سياق الرواية الأصلية وتعيش قصصا أخرى يرويها إلياس فيفالدو.فوالده حاضر في كل الروايات ومنها: جزيرة الدكتور مورو، لهربرت جورج ويلز، ودكتور جيكل ومستر هايد لروبرت لويس ستيفنسون، والجريمة والعقاب لدوستويفسكي وفهرنهايت451  لراي برادبري.ففي أحد الهوامش يجد اسم الدكتور زيركوف، فذهب يبحث عن عيادته في لندن. وحين يجده يخبره بأن برينديك الذي يتعالج عنده ويعاني من الهذيان وأن تلك الجزيرة لم توجد قط. وأنه في خضم جنونه يؤمن بنجاح تجارب الدكتور مورو، وأنه في النهاية هرب من المصح وخلف وراءه كلبا أسود اسمه آرغوس. فغادر الراوي ومعه الكلب. ويصلان إلى بيت سيدة للسؤال عن برينديك التي تعرفه عندما كان ينبح، وأنه أصيب بالعمى في نهاية عمره، وتعاقد مع رجل ليقرأ له، ليكتشف الراوي بأن القارئ هو والده فيفالدو.

ويمر في الكتاب تولستوي ثم الكوميديا الإلهية  وبياتريس التي يشجعه اسمها لمناقشة الموضوع مع بياتريس حبيبته. ويعود بعده إلى كتاب ستيفنسون” الدكتور جيكل ومستر هايد” ليبحث عن والده بين السطور. فخرج له من هذه السطور برينديك وهو يعوي. لكن كان له حديث مطول مع المستر هايد الذي يغزو الشعر وجهه، وهيئته “شبه الحيوانية”، ويحدثه عن أسطورة آدم وحواء. وإلى راسكولنيكوف بطل الجريمة والعقاب، الشخصية المعقدة التي عاشت عمرها تعاني من الشعور بالذنب بعد ارتكابه الجريمة، إذ كان سجنه الحقيقي في ذهنه” ففي الذهن يكون الناس إما أحرارا أو سجناء”، وكان الحل أن يواصل ارتكاب الجرائم التي تصبح مع الزمن أمرا عاديا وبالتالي سيشفى من الشعور بالذنب. تقول المرأة التي عرفت راسكولنيكوف الوحش” … المهم أننا حين نعتاد على الرائحة الكريهة، نكفّ عن شمّها. لقد فكّر راسكولنيكوف في الأمر نفسه. إذا صار القتل شيئا مبتذلا وعاديا، فإنه سيكفّ عن تأريقه. ولذلك شرع يقتل. يجب أن أقول لك إن رواية دوستويفسكي أصبحت مهجورة وخالية”. أما رواية فهرنهايت 451، فتعالج الإرهاب الثقافي، حيث يقوم رجال الإطفاء بإشعال الحرائق في الكتب إبان العهد المكارثي في أمريكا الذي كان يمارسه السيناتور مكارثي ضد المثقفين الذين يشرعون إلى حفظ الكتب غيبا ويتحولون إلى كتب متحركة.وتنتهي الرواية وقد بلغ إلياس من العمر اثنين وسبعين عاما ويقول” تابعت القراءة بشكل قسري وأظن أنني وجدت والدي في نهاية الأمر. ليس لأنني قرأت العُلّيّة بكاملها(فقد قرأت أكثر من ذلك، أكثر بكثير)، بل لأنني أصبحت أنا هو والدي نفسه”.

رواية ممتعة جديرة بالقراءة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى