التطبيع بين تونس و الكيان الصهيوني .. الوقائع والدلالات

في وسائل الإعلام العربية، يجري التركيزعلى “مؤتمر البحرين” الذي تعتزم الولايات المتحدة الأمريكية تنظيمه في المنامة أواخر الشهر الحالي، لتسويق خطة السلام الأمريكية المعروفة إعلامياً باسم “صفقة القرن”، بوصفها”نكبة جديدة بأيد عربية”،

لكنّ هناك تطبيعًا خطيرًا رسميًا يجري على قدم وساق في غرب الوطن العربي بين تونس والكيان الصهيوني،تحت شعار التعايش السلمي بين الأديان،وإحلال سلام حقيقي بين الحضارات والأديان من خلال حوار فعلي لأنّه السبيل الوحيد لوقف هذا الاختلال السياسي والحضاري الذي يشهده العالم .

ويشكل توافد آلاف اليهود من بلدان غربية والكيان الصهيوني للحج إلى كنيس”الغريبة” في جزيرة جربة الواقعة جنوب شرق تونس،نقلة نوعية في مسار التطبيع يُرجح أن تؤدي الى توسعة العلاقات في مجالات مختلفة بين تونس و الكيان الصهيوني.

الحج إلى كنيس “الغريبة” : دين وسياحة وتطبيع سياسي

يحظى كنيس “الغريبة” بمكانة خاصة عند يهود تونسيين وأجانب يعتبرونه أقدم معبد يهودي في أفريقيا، ويقع في جزيرة جربة السياحية التي تقع بدورها على بعد نحو 580 كلم جنوب شرقي العاصمة التونسية. ويُعدُّ كنيس الغريبة أقدم معبد يهودي في العالم لايزال مفتوحا، إذ يعود تشييده إلى العهد الروماني. ويعتقد أنه يحتوي على حجر من هيكل سليمان. كما أنه يحتفظ بين أروقته بأقدم نسخة للتوراة في العالم.

و تقع جربة، جنوب شرقي تونس، وتتبع محافظة مدنين، وتبعد نحو 150 كلم عن الحدود مع ليبيا، مساحتها قرابة 500 كلم 2، ويناهز عدد سكانها 160 ألف نسمة.وتلقب بجزيرة الأحلام، التي استمدت تسميتها من كونها الوجهة الأولى للسياحة في البلاد،إذ يبلغ عدد الزائرين للجزيرة سنويا ما بين 1.8 و 2 مليون زائر (بين سياح أجانب و تونسيين)،بينما يزورها في موسم الغريبة فقط ما بين 2000 إلى 3000يهودي ،وهذا هو متوسط الزائرين سنويا خلال هذا الموسم، منذ ثورة 14 يناير 2011 التي أطاحت بنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، فيما كان العدد قبل ذلك يبلغ نحو 7 آلاف يهودي..

وتحتوي جزيرة جربة على عدد كبير من المساجد (366 مسجدا صغيرا)، وتُعَدُّ من بين الأماكن القليلة التي تتمتع بالتنوع بين الديانة والعرق وحتى في مستوى المذاهب الإسلامية، حيث مازال المذهب الإباضي هو الأكثر اتباعًا بين سكان الجزيرة رغم أن معظم سكان تونس ينتمون إلى المذهب المالكي.والإباضية هي أحد المذاهب الإسلامية المنفصلة عن السنة والشيعة، نسبة إلى عبد الله بن إباض التميمي، وتنتشر في سلطنة عُمان وشمال أفريقيا، بينما المذهب المالكي هو أحد المذاهب الإسلامية السنية الأربعة، والذي يعتبره السلفيون أصلا من أصولهم الفقية، وينسب لصاحبه الإمام مالك بن أنس على.

وتحتوي جربة أيضًا على “معبد الغريبة”، ذلك الكنيس اليهودي الأكبر والأقدم في أفريقيا حيث يعود تاريخه إلى قرابة 2600 سنة،وهو الكنيس ذاته الذي يزوره يهود من أنحاء العالم كل عام لأداء طقوس “زيارة الغريبة”،أو ما يعرف بـ”حج اليهود”.ويقدر عدد أفراد الطائفة اليهودية في تونس اليوم بنحو 2000 شخص وغالبيتهم سكان جزيرة جربة وتونس العاصمة، وكان عددهم يناهز أكثر من 150 ألف يهودي قبل استقلال تونس عام 1956، حيث هاجر أغلبهم نحو أوروبا والكيان الصهيوني مع اندلاع حرب حزيران عام 1967.

وتوقع زعيم الطائفة اليهودية بجربة منذ 30عامًا، بيريز الطرابلسي،أن يتجاوز عدد الزوار اليهود إلى كنيس الغريبة، هذا العام، سبعة آلاف شخص، وهو أعلى رقم يسجل منذ الإطاحة بالرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي،وأضاف:”يزور اليهود كنيس الغريبة منذ أكثر من 200 عام لإقامة طقوس دينية واحتفالات “الهيلولة”.وتتمثل هذه الطقوس والاحتفالات في إقامة صلوات وإشعال شموع داخل الكنيس والحصول على “بركة” حاخاماته وذبح قرابين (خرفان) والغناء وتناول نبيذ “البوخة” المستخرج من ثمار التين والذي يشتهر بصناعته يهود تونس دون سواهم.

فقد توافد هذه السنة منذ شهر آيار/مايو 2019ما يقرب من سبعة  آلاف يهودي إلى تونس لآداء فريضة الحج أو ما تُعرف بـ طقوس “زيارة الغريبة”، في احتفال سنوي يعكس تسامح المنطقة وتنوعها الثقافي والحضاري. ومعظم زوّار الكنيس هم يهود من أصول تونسية، يعيش سوادهم الأعظم في فرنسا، بالإضافة إلى الكيان الصهيوني ،وكندا،والولايات المتحدة.

وكان روني الطرابلسي هو المسؤول عن حج الغريبة،إلى نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2018، حين عيّن وزيرًا للسياحة، ليصبح ثاني يهودي يتقلّد منصب وزير منذ استقلال تونس،عام 1956.وقام رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد بزيارة لكنيس “الغريبة” بصحبة وزير السياحة التونسي رونيه طرابلسي، أول وزير يهودي يشغل المنصب منذ الاستقلال وقيام الجمهورية.

كنيس الغريبة بوابة للتطبيع مع الكيان الصهيوني

وكان رئيس الحكومة التونسية، قد أعرب عن أمله في أن تكون هذه الاحتفالات “بداية لموسم سياحي كبير واستثنائي سيفتح آفاقا كبرى ببلوغ نحو 9 ملايين سائح،أي بزيادة بـ3.5 مليون سائح خلال السنوات الثلاث الأخيرة”.وأشار قبل بدء هذه الاحتفالات إلى أن جزيرة جربة التي انطلقت فيها الاحتفالات السنوية ليهود تونس، تعد “فريدة من نوعها في التعايش بين الأديان والتسامح ولابد أن يعي هذا كل التونسيين”.

واعتبر أن المشاركة في الاحتفالات السنوية ليهود تونس في معبد “الغريبة” بجزيرة جربة ،هو “خير دليل على انفتاح الشعب التونسي وتمسكه بتاريخه وعراقته في إطار التعايش السلمي الذي يقوم على أساس الثقة والاحترام المتبادل بين أصحاب الديانات”.وأضاف أنها تمثل أيضا رسالة قوية توجه بهذه المناسبة إلى العالم بإعطاء صورة إيجابية على تونس كدولة ديمقراطية ومنفتحة على محيطها المتوسطي والإفريقي وكل الثقافات.

وأكد وزير السياحة التونسي، روني الطرابلسي،أنّ “زيارة كنيس “الغريبة” أصبحت حدثًا عالميًا يحظى بمتابعة الصحافة الوطنية والعالمية”، لافتا إلى أن ”عودة اليهود أصيلي تونس بعد غياب دام قرابة الأربعين عاما، هو مؤشر على عودة الثقة وعلى حبهم لتونس”.واعتبر في تصريحات إذاعية، أن تزامن هذه الاحتفالات الدينية مع شهر رمضان ” يمثل رسالة قوية للعالم تبرز قدرة تونس على التعايش السلمي بين مختلف الديانات”.

كلّما ينطلق موسم حج اليهود إلى كنيس الغريبة بجزيرة جربة، جنوب تونس، في شهر آيار/مايو من كلّ سنة، يعود الحديث عن المسألة الأمنية وحماية زوّار الكنيس، ولكن كذلك يتواتر الحديث حول التطبيع الخفيّ مع الكيان الصهيوني من بوابة فرضية قدوم حاملين للجنسية الصهيونية إلى تونس.ولكن يبدو أن قدوم صهاينة من الكيان الصهيوني إلى الغريبة بات حقيقة ثابتة، إذ ذكرت وكالة الأنباء الفرنسية في مقال بتاريخ 2آيار/مايو2018أنه من بين زوار الكنيس في سنة 2018″يهود قدموا من أوروبا وإسرائيل”،ونقلت تصريحًا عن فيكتور الطرابلسي،وهو أحد منظمي الزيارة، أنه يوجد ما بين 150 و200 إسرائيليًا من بين الزوار. ولكن في مقال آخر صادر عن نفس الوكالة وفي ذات اليوم، تنقل هذه المرّة عن رينيه الطرابلسي، وهو أحد منظمي الزيارة أيضًا، أن عدد الصهاينة يبلغ في حقيقته 400 زائر. ويضيف روني  “الأمور تعود إلى طبيعتها بدليل أن السلطات “الإسرائيلية” لم تصدر هذه السنة تحذيرات لمواطنيها بعدم زيارة كنيس الغريبة، وذلك على خلاف ما دأبت عليه كل سنة منذ ثورة 2011″. وهو ما يمثّل اعترافًا صريحًا بقدوم حاملين للجنسية الإسرائيلية إلى تونس. وهو المعطى الذي نقلته أيضًا الصحيفة الإلكترونية الإسرائيلية”ذوتايمز أوف إسرائيل”.

من وجهة نظر المعارضة الوطنية والديمقراطية التونسية ، والناشطين في منظمات المجتمع المدني ، تعتبر أن تعيين رجل الأعمال التونسي اليهودي رونيه الطرابلسي وزيرًا للسياحة، بحكومة يوسف الشاهد في نوفمبر/تشرين الثاني2018، يُعَدُّ ضربًا من ضروب التطبيع مع الكيان الصهيوني،لأنّه  يحمل أكثر من جنسية،وله علاقات مشبوهة مع الكيان الصهيوني.ويواجه الطرابلسي انتقادات بشأن انخراط وكالة أسفار يمتلكها في فرنسا بتسيير رحلات ونقل سياح من الكيان الصهيوني إلى تونس،لا سيما  بموسم حج اليهود لكنيس الغريبة بجزيرة جربة، حيث توقع الخبراء أن يصل عددهم نحو سبعة آلاف زائر بين 22 و23 مايو/أيار 2019، من بينهم 2500 صهيوني قدموا من “إسرائيل “.

وكشفت “الحملة التونسية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية للكيان الصهيوني أنّ 949 تونسيا زاروا “إسرائيل” خلال عام 2018، وذلك وفق أرقام نشرتها مؤخرا سلطة السكان والهجرة الصهيونية فهل طبّعت تونس مع التطبيع؟

ترى”الحملة التونسية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية للكيان الصهيوني ” في بيان لها أن العدوان الاجرامي الصهيوني الأخير على قطاع غزة أدّى إلى استفاقة وعي وطنية في تونس ازاء موجة التطبيع مع الكيان الصهيوني التي تخترق قطاع السياحة بوسائل عديدة. ولفتت إلى أن إحدى وكالات الأسفار التونسية، تنظم رحلات باتجاه الاردن وفلسطين والكيان الصهيوني ،مشيرة إلى أن”برنامج الرحلات لهذه الوكالة يذكر بوضوح محطات في مدن حيفا وطبريّا وهما تقعان اليوم في إسرائيل”. وأكدت الحملة”أنها تمكنت من التحقق من معلومات من الوكالة تفيد بأن السلطات الاسرائيلية تستخبر لدى الحكومة التونسية عن كل فرد من المسافرين التونسيين وعندما يثبت لديها خلو الملفاّت من “أي نشاط سياسي” فإنها تسلّم تصاريح لاجتياز نقطة العبور بين الأردن والضفة الغربية في أقل من ثلاثين دقيقة، تحت رقابة الجيش الصهيوني .واشارت إلى أنها “وجهت نداءات إلى الحكومة التونسية لإنهاء الاتجار غير القانوني واللاشرعي مع الكيان الصهيوني دون استجابة”.

كما اعلنت “الحملة التونسية للمقاطعة الأكاديميّة والثّقافيّة لإسرائيل”، والاتحاد العام التونسي للشغل والتيار الشعبي والتيار الديمقراطي والحزب الجمهوري وحزب المسار الديمقراطي الاجتماعي وحزب العمال وحركة الشعب في بيان مشترك يوم 22ماي 2019أنّ وكالة الاسفار التونسية ” تونيزيا باي ترافل  (Tunisia Bay Travel) تقوم منذ أشهر بتنظيم رحلات سياحية إلى الكيان الصهيوني عبر الأردن والقدس المحتلة بالتنسيق مع قوات الاحتلال. وقد أمكن لمناضلي الحملة التونسيّة للمقاطعة الأكاديميّة والثّقافيّة لإسرائيل التثبّت من مباشرة وكالة الأسفار المعنيّة تقدّم طلبات التّأشيرة للمسافرين التونسيين إلى سُلطات الاحتلال الصهيوني عبر وكالة أسفار أخرى داخل الأراضي المحتلة. وأكّد المسؤولون في الوكالة أنّ سلطات الاحتلال تسلّم تصاريح لاجتياز نقطة العبور بين الأردن والضفّة الغربيّة في أقلّ من ثلاثين دقيقة “بعد أن تصادق وزارة الداخلية التونسية على قائمة المسافرين التونسيين إلى الأراضي المحتلة”. كما أكّد المسؤولون في الوكالة أنّهم نظّموا رحلتين خلال سنة 2018 دون التّعرض لأيّ تبعات. وأضاف البيان ان وكالة “تونيزيا باي ترافل” مازالت تواصل دون رادع نشاطها المشبوه. اذ أنها برمجت رحلتها المقبلة إلى الأردن وفلسطين المحتلة للفترة ما بين 27 ماي و3 حزيران 2019 وستعقبها ثلاث رحلات أخرى في تموز،وأيلول/وسبتمبر وديسمبر.

ويشير البرنامج المنشور على صفحة الفايسبوك للوكالة إلى زيارة “مسجد حسن بك” الواقع في يافا بأحواز “تلّ أبيب”، وزيارة مدينة طبريّا عاصمة الجليل في شمال فلسطين المحتلّة و”الميناء القديم” الواقعة كلها تحت سيطرة سلطات الاحتلال. وليست “تونيزيا باي ترافل” وحدها التي تنظّم الرحلات إلى الأراضي المحتلّة وفق نفس البيان بلتشاركها في ذلك وكالات أسفار تونسية أخرى مثل وكالة Go Mekkah ووكالة بطوطة على مرأى ومسمع من السلطات التونسية.

ويتمّ ذلك بالتنسيق مع سلطات الاحتلال الصهيوني للحصول على تأشيرة العبور إلى الضفّة الغربيّة والقدس. كما جاء في البيان انه “وبالرغم من هذا الواقع المؤكّد المخالف للقانون وللمشاعر الوطنية للشعب التونسي لم يتردّد وزير السياحة روني الطرابلسي في نفي أمام مجلس نواب الشعب في نيسان/أبريل الماضي أن تكون وكالات أسفار تونسية تنظم رحلات إلى القدس مؤكّدًا أنّ وزارته لم تمنح أيّ تصريح لأي رحلة سياحية إلى القدس المحتلة أو باقي فلسطين المحتلة”.

وطالبت الأطراف الموقّعة على هذا البيان الحكومة التّونسية بوضع حدّ فوري لهذه المعاملات الخارجة عن القانون مع العدوّ الصّهيوني وبسحب الرخصة من كلّ وكالات الأسفار المتورّطة فيها ومحاكمة المسؤولين عنها. كما طالبت الحكومة بتوضيح حقيقة “التنسيق بينها وبين العدو الصهيوني” الذي أفصحت عنه وكالة الأسفار ” تونيزيا باي ترافل”. كما دعت الاطراف الممضية على البيان السلطات التشريعية والقضائية التونسية الى الانكباب الجدي على هذا الملفّ بالإضافة الى حث النيابة العموميّة على فتح تحقيق حوله، من أجل الكشف عن ملابسات تسفير مواطنين تونسيين إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة وعن المؤسّسات والمصالح الحكومية التي سهّلت من قريب أو بعيد هذه الممارسات غير القانونيّة للتّطبيع مع العدوّ الصّهيوني. وختم البيان بدعوة كافّة القوى الديمقراطيّة التونسيّة ومكوّنات المجتمع المدني إلى تحمّل مسؤوليتها الوطنية ورفض أيّ شكل من أشكال التطبيع مع الدولة الاستعماريّة الصّهيونيّة، كما يفرضه الدستور التّونسي والتضامن الفعلي مع القضية الفلسطينية العادلة وإلى مساندة جهود الحملة العالميّة من أجل مقاطعة العدو الصهيوني وسحب الاستثمارات منها وتسليط العقوبات عليها باعتبارها إحدى أنجع الأدوات للضغط على هذا الكيان الغاصب وعزله دوليًا. ويشار ان الاتحاد العام التونسي للشغل اطلق خلال الأيام الأخيرة حملة ضد “التطبيع التجاري” مع الكيان الصهيوني بعد رصد مناديل ورقية مصنوعة في إسرائيل  وقد طالب الاتحاد بسحب بضائع صهيونية، من الأسواق والمحال التجاريةالتونسية، مشيرا إلى أنّ هذه البضائع يتمّ ترويجها في العاصمة التونسية على نطاق واسع. ودعا اتحاد الشغل التونسي في بيان له التونسيين إلى اليقظة والحذر من هذه البضائع والتشهير بمروّجيها والامتناع من اقتنائها ومقاطعة كل من يستوردها أو يعمل على تسويقها في البلاد.

التطبيع الاقتصادي والتجاري بين تونس والكيان الصهيوني

تكشف بيانات منظّمة التجارة الدوليّة أنّ قيمة الصادرات التونسيّة إلى الكيان الصهيوني تجاوزت 5.5 مليون دولار سنة 2017. رقم يعرّي التوجّه الرسميّ للدولة التّي مضت أشواطا في فتح قنوات الاتصال مع الكيان الصهيونيّ منذ خمسينات القرن الماضي، ليتحوّل التطبيع السياسيّ في حقبة ما بعد أوسلو إلى علاقات تجاريّة دائمة منذ سنة 1995، جعلت الصهاينة يأكلون ممّا نزرع وجعلتنا نتداوى بما يصنعون.

ورغم تواضع حجم هذه المبادلات الثنائيّة بالنسبة لإجماليّ العلاقات التجاريّة للطرفيّن بقيمة جمليّة بلغت 3.3 مليون دولار سنة 2015، حيث لم يتجاوز نصيب السوق التونسيّة من الصادرات الصهيونية خلال تلك السنة 810 ألف دولار، محتلّة المرتبة 136 على قائمة الشركاء التجاريين للكيان الصهيوني، إلاّ أنّ تونس تحتلّ المرتبة 86 على صعيد أهمّ الموردّين للسوق الصهيونية  بحجم مبادلات بلغ خلال سنة 2017، قرابة 5.5 مليون دولار.

هذا وتكشف الأرقام استفادة الكيان الصهيوني من الحصيلة الإيجابيّة للمبادلات التجاريّة مع تونس بين سنوات 1995 و2009، حيث ظلّت الصادرات التونسيّة “محتشمة” وثابتة تقريبا عند معدّل نصف مليون دولار سنويا مقابل تنامي الواردات الصهيونية إلى الأسواق التونسيّة لتناهز 2.2 مليون دولار سنة 2007، لتراكم تونس عجزا سنويا طيلة تلك الفترة تراوح بين 0.5 مليون دولار وقرابة مليوني دولار خلال السنوات الأربع بين 2004 و2008. وضعيّة تغيّرت بشكل جذريّ منذ سنة 2009 لتأخذ منحى متذبذبا إلى حدود سنة 2012، أين ارتفعت الصادرات الصهيونية إلى تونس المتكونة من الأسمدة الزراعيّة والمواد الكيميائيّة والمعدّات الفلاحيّة المختلفة، لتصل إلى مستوى قياسيّ بلغ 15 مليون دولار، إبّان حكم الترويكا لتسجّل تونس حصيلة سلبيّة في الميزان التجاري الثنائي تجاوز 97% لصالح الكيان الصهيوني وبقيمة 14 مليون دولار.

أما بعد الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة سنة 2014، فقد شهدت الواردات الصهيونية من السلع التونسيّة نموا متواصلا بلغ ذروته سنة 2017 بقيمة 5.5 مليون دولار.ولم يتأثّر باغتيال الشهيد محمد الزواري في 15 ديسمبر 2016، ولا يبدو أنّه قد يتأثر مستقبلا بعد القرار الأمريكيّ بنقل السفارة الامريكيّة إلى القدس المحتلّة رغم التصريحات الحكوميّة وبيانات التنديد التي تعوّدت وزارة الخارجيّة التونسية على إصدارها.

البعد التاريخي للتطبيع بين تونس والكيان الصهيوني

يعود التطبيع التونسي – الصهيوني إلى بواكير  الخمسينيات ، عندما دشن الحبيب بورقيبة وهادي نويرة ومحمد مصمودي وقياديون آخرون في “الحزب الحر الدستوري الجديد” اتصالات مع الدولة الصهيونية من خلال سفرائها في باريس. وحصلت بدايات الاتصال بين الوفد الصهيوني برئاسة رفائيل جدعون والوفد التونسيّ برئاسة الباهي الأدغم في مقرّ الأمم المتحدة في نيويورك سنة 1952، حين طرح هذا الأخير قضيّة الاستقلال التونسي. في ذلك اللقاء التاريخي حاول خلاله التونسيّون إقناع الصهاينة، ومن ورائهم الأمريكيّون، بأنّ الدولة المستقلّة القادمة لن تُكِنّ العداء للكيانالصهيوني ولن تنخرط في أيّ أعمال عدائيّة ضدّها. لقاء تكرّر فيما بعد بين الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة وسفير الكيان الصهيوني في فرنسا يعقوب تسور في شباط/فبرايرسنة 1956 ليؤكّد عدم تبنّي التونسيين وحزب الدستور للخطاب الناصري المعادي للصهاينة.وحاول التونسيون إقناع الكيان الصهيوني والحركة الصهيونية بدعم معركتهم من أجل الاستقلال، إلا أن الصهاينة كانوا يدركون أن مصالحهم مع فرنسا لا يمكن التضحية بها من أجل كسب ود الحكام المقبلين في تونس.

في هذا السياق، يشير تقرير صادر عن مركز”الشرق للبحوث الإسرائيلي” الصادر في حزيران/يونيو2000، تحت عنوان”إسرائيل والمغرب العربي في أوّج الصراع العربي الإسرائيلي: 1950-1970″:تتواصل العلاقات بين الطرفين عقب الاستقلال، لتلعب القنوات السريّة للاتصال بالمسؤولين الصهاينة دورا في توظيف “الموقف التونسي المُسالم” لكسب دعم اللوبي المالي والسياسي الصهيوني في أوروبا الغربيّة والولايات المتحّدة الأمريكيّة. ويذكر التقرير هنا كيف وظّف التونسيّون علاقاتهم مع الصهاينة لإقناع الأمريكيّين والألمان بمنح تونس مساعدات ماليّة وعسكريّة بقيمة 20 مليون دولار سنة 1965، أو إقناع وكالات السياحة الأوروبيّة بدعم القطاع السياحيّ وزيادة حصّة تونس من التدفّقات السياحيّة خلال نفس تلك الفترة.

وبنت الدولة التونسية موقفها من القضية الفلسطينية على أساس قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الأمم المتحدة و المعروف بالقرار الرقم 181 .وانتهج الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة سياسة خارجية معادية للقومية العربية و العروبة ، بحكم الخلاف المستحكم بينه و بين الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر ، حتى أن الرئيس التونسي أعلن في خطاب له في أريحا عام 1965 اعترافه بقرار التقسيم و طالب الفلسطينيين بالاعتراف بالأمر الواقع والقبول بـ” دولة فلسطينية ” في الضفة الغربية و قطاع غزة ضمن سياسة ” خذ و طالب “.

وقد اتهم بورقيبة في حينه من قبل الأنظمة الوطنية والتقدمية والأحزاب اليسارية  والقومية العربية بـ” خيانة ” قضايا الأمة العربية ،خصوصا ًعندما أكد مقولته الشهيرة ” إننا مع ما يختاره الفلسطينيون لأنفسهم ” في إشارة واضحة إلى رفع وصاية الأنظمة العربية على الفلسطينيين ،وهي المقولة التي طورتها قيادة عرفات لاحقا في إطار استغلال التناقضات العربية الرسمية ،وأطلقت عليها مصطلح ” القرار الفلسطيني المستقل”.

مع قدوم بن عليّ وتوليه الحكم، استفاد هذا الأخير من التغيّرات الدوليّة والقواعد الجديدة لحقبة عالم القطب الواحد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. فقدشهدت العاصمة الأميركية واشنطن ،لقاءً مدويًا ومصافحة حارة بين وزير الخارجية التونسي السابق الحبيب بن يحيى ونظيره الصهيوني شمعون بيريز في أيلول / سبتمبر 1993 .ولم يكن هذا اللقاء للمطالبة بتعويضات مالية أو ما يشبه ذلك، بل جاء ليدشن رحلة ساخنة من العلاقات الودية بين الدولتين .ثم جاءت سنة 1994 لتكون  سنة الاعتراف المتبادل بين الدولتين ، وسنة إقرار مبدأ تبادل التمثيل الدبلوماسي بين العاصمة تونس وتل أبيب .وقد علق شمعون بيريز على هذه الخطوة بالقول ” أعتبر هذا إنجازًا من الدرجة الأولى وأعزو أهميته إلى الإعلان عنه .إذ ليس هناك أسرار ” ..وأضاف أنّه يعتبر ” تونس موطئ قدم مهم جدًّا للدبلوماسية الإسرائيلية في شمال أفريقيا “.

بعد هذا الحدث شهدت العلاقات التونسية الصهيونية طوال سنوات ثلاث متتابعة تناميًا سريعًا فاق كل التوقعات ،فقد غدت تونس قبلة مفضلة للصهاينة ،من دبلوماسيين ورجال أعمال وسواح ومصطافين.وقد شهدت سنوات 1994 و 1995 وبداية 1996 قمة المد في العلاقات التونسية الصهيونية، حين فُتحت مكاتب التمثيل الديبلوماسي بين الطرفين، لتبدأ مرحلة “ربيع التطبيع والانفتاح على إسرائيل”،حيث كان يمثل تونس في مكتب تل أبيب ،وزير الخارجية التونسي الحالي خميس الجهيناوي ما بين 1996ولغاية اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000 ، إذ أغلقت مكاتب التمثيل بين الدولتين أبوابها،تنفيذأ لقرار القمة العربية.

لقد ظل  البعد الخفي من العلاقات بين الدولتين التونسية والصهيونية أهم بكثير مما هو علني منه ،فنظام تونس المتخوف من ردود فعل المعارضة المتنامية داخليًا ومن الرفض العربي للهرولة نحو الكيان الصهيوني جعله يحرص كثيرًا على أن يبقى أكبر قدر من علاقاته الصهيونية سرّيًا.

وتقبل العالم العربي إعلان الزيارة  الذي كشفت عنه صحيفة “يديعوت أحرونوت” الصهيونية ، و الذي مفاده أن رئيس الوزراء الصهيوني سيلبي الدعوة الشخصية التي تلقاها من الرئيس التونسي زين العابدين بن علي للمشاركة في مؤتمر”المعلوماتية والتعاون الدولي” الذي نظمته تونس في تشرين الثاني / نوفمبر 2005،بمزيد من الذهول والدهشة والاستنكار..

المعارضة ونشطاء المجتمع المدني ومقاومة التطبيع

بعد سقوط نظام الرئيس بن علي في عام 2011، ورغم المحاولات المتكرّرة لعدد من الجمعيّات والمنظّمات والأحزاب اليساريّة والقوميّة الدفع نحو تقنين تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني، إلاّ أنّ هذه المساعي التّي بدأت كمسودّة للفصل 27 في دستور يناير 2014،انتهت إلى مشروع قانون مؤَجّل ومنسيّ في رفوف مجلس نوّاب الشعب بعد تعطيل مناقشته في ثلاث مناسبات سنة 2012 وسنة 2015 وأخيرا في يناير2018. ليتواصل التطبيع الاقتصادي حتّى هذه اللحظة بنسق أسرع وأقوى من أيّ وقت مضى مع تزايد الحاجة سنويّا إلى المساعدات الأمريكيّة والمؤسّسات الماليّة الدوليّة المقترنة بالضغوطات الأمريكية المتواصلة، والتي كان آخرها ماورد في وثيقة توصيات أعضاء لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي خلال زيارة رئيس الحكومة يوسف الشاهد في تموز/يوليو2017.

في ظل الحكومات التونسية المتعاقبة منذ سنة 2011، ولغاية اليوم، سواء في عهد الترويكا بقيادة حركة النهضة الإسلامية،أوفي عهد “حكومة التوافق”بقيادة الحزبين الحاكمين”النداء العلماني  والنهضة الإسلامي ” ،أصبح قياديو  الأحزاب الباحثة عن البقاء في الحكم ،والحصول على قروض من صندوق النقد الدولي،يعملون  ليلًا ونهارًا على طلب رضاء الكيان الصهيوني وتقديم فروض الطاعة والولاءله.

ولا يوجد في تونس قانون خاص يجرم أو يعاقب تطبيع العلاقات السياسية أو الاقتصادية مع الكيان الصهيوني الذي يخفي علاقاته التجارية مع تونس. وقد كان اتحاد الشغل تقدم بمشروع قانون لتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني إبان كتابة الدستور في 2014،لكن البرلمان رفض تجريم التطبيع. فقد وجّه، في سياق متّصل، نواب المعارضة الاتهامات للائتلاف الحكومي بقيادة نداء تونس وحركة النهضة بتعمّد تعطيل عرض مشروع قانون لتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني على الجلسة البرلمانية العامة والتي كانت مبرمجة بتاريخ 20 شباط/فبراير 2018. وقد تحدث وقتها النائب عن الجبهة الشعبية عمار عمروسية عن عراقيل مقصودة لعدم مناقشة المشروع، وأفاد أن رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي وبّخ رئيس البرلمان محمد الناصر على نوايا مناقشة المشروع، وقد لقيت هذه المداخلة رواجًا واسعًا خاصة بعد تمزيقه لعلم الكيان الصهيوني داخل قبة البرلمان.

عمروسية اتّهم حركة النهضة وحزب نداء تونس اللذين يشكلان الأغلبية النيابية في البرلمان بأنهما يرفضان تمرير هذا القانون “لأنّهما مع مسألة التطبيع مع الكيان الصهيوني، ولأنهما يعتبران أنّ وجودهما وبقاءهما في الحكم ونجاحهما في الانتخابات القادمة سنة 2019 مرتبط بالمرور من ثقب التطبيع، إضافة إلى تأثير علاقاتهم مع الولايات المتحدة ذات النفوذ الاقتصادي الكبير في تونس والحليف الأول لإسرائيل على قراراتهما”.

ينظر المناهضون للتطبيع  مع الكيان الصهيوني ، أنّ عدم استجابة القوى السياسية الحاكمة في تونس للمطالب الشعبية بتجريم التطبيع مع “إسرائيل”، مردّه، ارتهان الحكومات المتعاقبة ما بعد 2011و لغاية اليوم،إلى الإرادة الأجنبية ،وتحديدًا الأوروبية والأمريكية والصهيونية والقطرية والتركية والسعودية،التي تتحكم في قرارات السلطة التونسية، من خلال وسائل الدعم المالي والاقتصادي،فضلاً عن  وجود بعض الأحزاب الموالية تماماً للكيان الصهيوني ، إضافة إلى شخصيات سياسية وأكاديمية وجمعيات وأصحاب رؤوس أموال يلعبون دوراً كبيراً في عملية التطبيع بشكل خطير وغير مُعلن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى