البعد الوطني للحرب السورية- التركية

يشكل الهجوم العسكري الواسع النطاق الذي يقوده الجيش العربي  السوري والقوى الحليفة له على المناطق المشمولة باتفاق سوتشي ،رسالة سورية واضحة، مفادها أنّ الدولة الوطنية السورية مصممة على تحريرمحافظة إدلب من طريق  الحسم العسكري ..

بسبب التلكؤ التركي في تفكيك المجموعات الإرهابية في إدلب،وهو الدور الذي اضطلع به الأتراك في اتفاق سوتشي الموقع في 17سبتمبر/أيلول 2018،ووبسبب أيضًا  بحث  تركيا عن اتفاق ما مع الولايات المتحدة بشأن مناطق سيطرة الأكراد، من أجل إقامة منطقة آمنة بينها وبين مواقع سيطرة الأكراد شرق الفرات ،وهذا مطلب لطالما سعت إليه تركيا مع الولايات المتحدة. فإعلان تركيا عن قرب التوصل إلى اتفاق نهائي على ملف المنطقة الآمنة، أغاظ روسيا كثيرا، ما جعلها  تؤيد موقف الدولة الوطنية السورية الرامي إلى القيام بالهجوم الاستراتيجي على مناطق إدلب.

الهجوم الاستراتيجي على إدلب

في تصعد عسكري لا فت،استطاعت قوات الجيش العربي السوري وحليفتها روسيا منذ بداية شهر آيار/مايو 2019،أن تحرزتقدمًا ملموسًا من أجل استعادة كافة معاقل الفصائل الإرهابية في الشمال الغربي السوري،التي تسيطر “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) على الجزء الأكبر من محافظة إدلب وأجزاء من محافظات حماة وحلب واللاذقية المجاورة، كما تتواجد في المنطقة فصائل إسلامية ومقاتلة أخرى أقل نفوذاً.وتخضع المنطقة المستهدفة لاتفاق روسي- تركي ينص على إقامة منطقة منزوعة السلاح بعمق 15 إلى 20 كيلومتراً تفصل بين قوات الجيش العربي السوري والفصائل الإرهابية ،لم يتم استكمال تنفيذه. وتتهم دمشق وموسكوأنقرة بالتلكؤ في تطبيقه.

وتهدف روسيا إلى تلبية مطالبتها بتسيير دوريات تركية روسية إيرانية مشتركة  في المنطقة منزوعة السلاح،إضافة إلى مطالبتها بشكل صريح أن يكون لها تواجد في جسرالشغور،غير إنّ هذه المطالب تصطدم برفض الفصائل الإرهابية لدخول الجنود الروس إلى المناطق الواقعة تحت سيطرتها، ما أجج غضب روسيا، وجعلها تدعم قوات الجيش العربي السوري في تصعيده العسكري .

ويرى العديدمن المحللين لأوضاع المنطقة، أنّ روسيا تستهدف من وراء هذا التصعيد امتصاص رد فعل كبار ضباط الجيش العربي السوري على تعاونها مع تركيا،أولاً. وثني الدولة الوطنية السورية عن القيام بالهجوم الاستراتيجي الشامل لتحرير محافظةإدلب، ثانيًا. وممارسة الضغط على تركيا في موضوع فصل المعارضة عن الجماعات “الإرهابية”، وتحديدا استئصال “هيئة تحرير الشام) “جبهة النصرة سابقا) من المنطقة، ثالثًا.

وفي هذا السياق،دفعت  سيطرة قوات الجيش العربي السوري بمساعدة روسية على المواقع الاستراتيجية في ريف حماة الشمالي،لا سيما في مدينة قلعة المضيق وبلدة كفرنبودة وقرى عديدة أخرى،إلى توحد الفصائل الجهادية والإرهابية التي تقاتل الجيش العربي السوري وحلفائه.إذ عقد اجتماع غير مسبوق ،ضم مؤخرًا،قائد “هيئة تحرير الشام”، أبو محمد الجولاني، وقائد فصيل “صقور الشام”، أبو عيسى الشيخ، وقائد “حركة أحرار الشام”، جابر علي باشا، إلى جانب القيادي السابق في “الأحرار”، حسن صوفان وعدد من القادة الميدانيين. ويُعَدُّ هذا  الاجتماع الأول من نوعه، بعد أن شهدت العلاقة بين هذه الفصائل طوال السنوات السابقة خلافات مستمرة قادت إلى صدامات مسلحة فيما بينها.

ويعد اجتماع “تحرير الشام” و”صقور الشام”، و”حركة أحرار الشام”، بمكان واحد أمرًا مثيرًا ومستغربًا للمحللين والخبراء ،لا سيما أنّ الأخيرة سبق أن انسحبت من مواقع لها مؤخرا لصالح “هيئة تحرير الشام ” في إدلب وريف حماة.فقد اتفقت هذه الفصائل الإرهابية على توحيد الجهود وتسيير العمل العسكري في الجبهات لجميع الإرهابيين من أجل صد هجوم الجيش العربي السوري.

ففي هذه الحرب المستعرة التي تخوضها الدولة الوطنية السورية ضد الإرهاب التكفيري ،سقطت كل الأقنعة،إذ هاهي تركيا التي تدعي  أنها معنية  بمحاربة الإرهاب، تقدم كل الدعم العسكري واللوجستي و الاستخباراتي لكل الفصائل الإرهابية لتمكينها من صد هجوم الجيش العربي السوري وحلفائه في إدلب وأرياف حماة وحلب المتصلة بها. فتركيا بدأت بالرّد على الهجوم السوري الاستراتيجي من خلال، تزويد الفصائل الإرهابية بالصواريخ المضادة للدروع، وبكميات كبيرة، مع التنازل عن الشروط السابقة لاستخدامها،أي التقنين في استخدامها.وإلى جانب العربات المدرعة الحديثة التي تم تزويد الفصائل الإرهابية بها، أدخلت تركيا “منظومات تشويش” على المناطق الساخنة والمشتعلة، ما يهدد بانزلاق المشهد نحو حرب سورية –تركية مفتوحة،لا سيما أنّ تركيا لن تسمح بسقوط إدلب، وبسط الدولة الوطنية السورية سيادتها على عليها،لأنّ سقوط إدلب يعني سقوط عفرين ودرع الفرات، المحتلتين من قبل تركيا.

وفضلاً عن ذلك،فتركيا،التي تستضيف أكثر من ثلاثة مليون لاجئ سوري،لا تزال تقف ضد أي هجوم واسع،لأنّ تحريرإدلب،واستعادة الجيش العربي السوري كامل المنطقة سيشكل ضغطاً كبيراً على تركيا التي ستحاول مقاومته بالتأكيد، وذلك يعود بشكل أساس إلى خشيتها من أن يؤدي إلى موجة نزوح ضخمة جداً بالقرب من حدودها،وحدوث اختراقات للحدود من قبل لاجئين جدد أو من قبل تنظيمات إرهابية،الأمر الذي سيقود إلى الإخلال بالأمن داخل تركيا، وإلى تسلل الإرهابيين لبلدان الاتحاد الأوروبي .

وكان يفترض وفق الاتفاق الروسي التركي أن تنسحب الفصائل الإرهابية من المنطقة المنزوعة السلاح، بعد سحب الأسلحة الثقيلة منها، وتنشر تركيا المزيد من نقاط المراقبة فيها لضمان تنفيذ الاتفاق الذي يتضمن أيضا إعادة العمل بطرق رئيسية.فقد نشرت تركيا نقاط مراقبة، إلا أن مسلحي الفصائل الإرهابية لم ينسحبوا من المنطقة، ولم يتم إعادة العمل بالطرق الرئيسية التي تمر بإدلب وصولا إلى مناطق قوات الدولة السورية.

وإذا كانت تركيا وروسيا لا تريدان إسقاط اتفاق سوتشي فإنّ المحللين يرون أنّ استمرارالحرب السورية -التركية ،سيقود إلى توصل روسيا وتركياإلى اتفاق جديد أو نوعا ما من وقف إطلاق النار،بعد أن تكون قوات الجيش العربي السوري المدعومة من روسيا قد أكدت سيطرتها على مناطق معينة من أطراف منطقة إدلب، بينها منطقة سهل الغاب.وسهل الغاب، هي منطقة زراعية تقع معظمها في شمال حماة وتمتد إلى جنوب غرب إدلب، ومن شأن السيطرة عليها،أن تخلق مساحة أكبر بين مناطق سيطرة الفصائل الإرهابية ،وتلك التي يسيطر عليها الجيش السوري وتتعرض لقذائف الإرهابيين.

وتهدف قوات الجيش العربي السوري أيضاً، إلى مزيد من ممارسة الضغط على تركيا لتنفيذ اتفاق أيلول/ سبتمبر في ما يتعلق بإعادة فتح وضمان أمن طريقين رئيسين، أبرزهما الأوتوستراد الدولي حلب -دمشق الذي يمر في جنوب وشرق إدلب.وعلى مدى السنوات الماضية، وفي إطار عمليات عسكرية عدة، سيطرت قوات الجيش العربي السوري على الجزء الأكبر من هذا الأوتوستراد الدولي الذي يصل بين الحدود التركية شمالا والأردنية جنوبا.

هل يكون سيناريو إدلب شبيها بالغوطة الشرقية؟

ما دامت الدولة الوطنية  السورية توعدت بنيتها استعادة كافة المناطق الخارجة عن سيطرتها ومقدمتها إدلب، بعدما تمكنت منذ العام 2015 من السيطرة على غالبية معاقل الفصائل المعارضة و الإرهابية في سورية بدعم من حلفائها(روسيا وإيران وحزب الله اللبناني)،فقد أكد نائب رئيس الشعب السوري ،نجدت إسماعيل أنزور، “أنّ الجيش العربي السوري  سيدير معركته إلى النهاية في إدلب وريفي حماه وحلب وصولاً إلى اللاذقية  “، كاشفاً عن “وجود سيناريوهات مشابهة لما جرى في ​غوطة دمشق ​ وحلب من فتح ممرات إنسانية لتجنيب المدنيين وخروجهم وهذا ما يعمل عليه الجيش وحليفه الروسي وكل ذلك على الرغم من الدعم اللامحدود من النظام التركي للتنظيمات الإرهابية من أجل إحراز تغيير في الجبهات بعد الاجتياح الذي حققه الجيش في ريف حماه الشمالي.

ما هو مؤكد أنّ الجيش العربي السوري والقوات الحليفة له  يخوضان حربًا وطنية حقيقية لتحريرمحافظة إدلب،وأرياف حماة واللاذقية وحلب المجاورة للمحافظة،وإنهاء وجود الفصائل  الإرهابية في هذه المناطق، علمًا أنّ إنهاء وجود الفصائل الإرهابية إنما كان ينتظر التوقيت ونضوج الظروف التي تساعد على تنفيذ القرار المتخذ أصلاً باستعادة الدولة الوطنية السورية سيادتها على كلّ الأراضي السورية التي خرجت عن سيطرتها.

هذا ما أكد عليه نائب وزير الخارجية والمغتربين الدكتور فيصل المقداد في كلمة له بمناسبة الاحتفال بالذكرى الثلاثين لرحيل الإمام الخميني وإحياء يوم القدس العالمي الذي أقيم في المستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق، حين قال : ما زلنا في ظروف صعبة افتعلها أعداء سورية وأعداء فلسطين إذ لا مبرر للحرب الإرهابية على سورية لولا وقوفنا إلى جانب قضايانا الأساسية وعلى رأسها قضية فلسطين.وأضاف: “هذه الحرب هي حرب إسرائيل ليس فقط على سورية بل على كل من يحاول استعادة الحقوق المشروعة لشعب فلسطين”، وأردف: “كانوا يتوقعون أن تكون سورية مثل الكثير من الدول التي مر عليها الربيع العربي”، وتابع: “سورية المدعومة من حلفائها اتخذت تنهار ولن تتراجع”.

وقال المقداد في تصريحات صحفية على هامش الاحتفال: “أؤكد أنه يجب ألا يكون هناك أي قلق فيما يتعلق بتحرير إدلب، القرار السياسي موجود والقرار العسكري موجود، والمسألة مسألة وقت، نحن نعمل على اختيار أفضل الأوقات المناسبة لتحقيق هذا الانتصار وستتحرر إدلب كما تحررت مناطق أخرى من سورية لذلك نحن متفائلون جداً باقتراب تحرير كل ذرة تراب في سورية”.

وأضاف المقداد : “على تركيا أن تعي أنها لن تبقى للحظة واحدة في سورية وأن هذه الأرض ستحرر سلماً أو حرباً وعليهم أن يفهموا هذا الكلام”، وأردف: “التدخل التركي لدعم الإرهاب وبشكل خاص جبهة النصرة، أصبح مفضوحاً وحاولت تركيا التستر عليه إلا أن أعمالها وتحالفاتها فضحتها وعلى هذا الأساس أقول إننا واثقون من النصر لأن نضالنا نضال مشروع ضد الإرهاب وداعميه”.

تركيا خاسرة لا محالة

رغم أنّ نظام أردوغان الإخواني قدم الدعم السياسي والعسكري لجماعات المعارضة وللتنظيمات الإرهابية التكفيرية،وحقق خلال المرحلة الأولى من هذه الاستراتيجية تقدّماً كبيراً من حيث تعزيز قوة الفصائل المعارضة والإرهابية على المستويين السياسي والعسكري،إلا أنّه أخفق في تحقيق هدفه الاستراتيجي المتمثل في إسقاط الدولة الوطنية السورية.

ولم يكتف نظام أردوغان بذلك، بل انخرط في الأزمة السورية  عسكريًا، حين أطلقت أنقرة عملية “درع الفرات” العسكرية لتحييد تهديد تنظيم الدولة الإسلامية”داعش”، ثم أتبعتها بعملية “غصن الزيتون” لإجهاض تهديد حزب العمال الكردستاني لتركيا، وأدى هذا التوجه الجديد في سياسة أنقرة الخارجية والأمنية إلى تغيّر في علاقاتها مع كل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية.

ورغم توقيع اتفاق سوتشي مع روسيا، فإنّ تركيا لم تجرد “هيئة تحرير الشام”(جبهة النصرة المصنفة إرهابية من قبل المجتمع الدولي ) و”جماعات إرهابية” أخرى في إدلب، من أسلحتها الثقيلة،كما ينص على ذلك الاتفاق.فبالنّظر إلى وجود كثافة سكانية في محافظة إدلب تقدّر بـ3.3 ملايين نسمة، وإلى وجوداستراتيجية وطنية للجيش العربي السوري من أجل تحرير إدلب، فإنّ تركيا كشفت عن وجهها القبيح المعروف من خلال دعمها عسكريا للفصائل الإرهابية ،التي ربطت مصيرها بمصير حياة ملايين المدنيين من السكان هناك، فكأنّهم رهائن عندها.

خاتمة:

تستخدم تركيا ورقة التنظيمات الإرهابية ، لكي يكون لها تأثيركبير على مخرجات أيّ تسوية محتملة للقضية السورية في المستقبل. لكنّ آفاق دور تركيا في سورية رهن بنتيجة الحرب  الوطنية والتسوية النهائية للأزمة السورية .كما تراهن تركيا  على وجود معادلات أساسية مثل الديموغرافيا والاقتصاد والبعد العسكري، مع عدم إغفال الجغرافيا، إضافة للنخب السياسية السورية المؤيدة لها، وتحديداً تلك التي تلقّت تعليمها في تركيا، فهؤلاء سيكونون خدمًا للاستراتيجية التركية في سورية والوطن العربي.فمن وجهة نظر تركيا، ستظل سورية  الجسر الحقيقي القادر على حمل المشروع الإقليمي التركي،بوصفه ذراعًا للمشروع الشرق الأوسطي الجديدالذي يتبوأ فيه الكيان الصهيوني مركزالريادة في المنطقة العربية، ويخدم أهداف الإمبريالية الأمريكية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى