الكثافة السّياسيّة المعاصرة .. اضمحلال العالم، وبزوغ عالم جديد 

  الجزء الثاني 2/2

1▪ رأينا في الجزء السّابق من هذه “الثّنائيّة” كيف أنّ عالم اليوم يرتكز مباشرة ، في السّياسة العالميّة ، على التّيئيس المنظّم التي تمارسه قوى الإرهاب و العنف العالميّة ، في صيغة تحطيم أسس الدّولة العالميّة و المجتمع العالميّ ، و تبديل مواقع البِنى المنظوميّة التّاريخيّة ، و ابتداع واقع عالميّ يأنف الخضوع إلى مفاهيم نظريّة تقليديّة ، بما فيها منظومات مفاهيم مراحل “الحداثويّة” المتتالية ، و ما أقرّته من تقاليد فكريّة كادت أن تخضع لها سيرة التّاريخ المعاصر و الّلاحق ، بالجملة ، لولا أنّنا وجدنا كيف أنّ “الفكرة” الكونيّة لا تخضع لإرادة البشريّة خضوعاً نهائيّاً ، على رغم ما توحي به إرادة القوّة العالميّة من قدرة على مصادرة الإنسانيّة التّاريخيّة ، في منتجات بشريّة مكثّفة و كثيفة في الاقتصاد و السّياسة و الثّقافة و الحساسيّة ( الجماليّة ) و العمل و الأخلاق ، و القيم و التّيمات الكبرى الأخرى .. و غير ذلك ، أيضاً .

و في ما رأينا كيف يتضاءل العالم المعاصر في غايات الدّول و المجتمعات ، فإنّه من المؤكّد أنّه يتعاطف ، عمليّاً ، مع جانب واحد من آثار “الفكرة” المطلقة في الاختزال ، بحيث يؤدّي أحد أغراض هذه الفكرة ، من حيث هي فكرة حاكمة نظريّاً لتَقنيّاتٍ ناقصة في امتثالها الكيفيّ و الفوضويّ و الذّاتيّ البشريّ الخالص ، لتمثّل الإنسان بأغرب ما تناهى إليه من جوانب “الفكرة” المطلقة التي تنتشر في طيف العنف الخالص انطلاقاً من جدليّة القوّة و المعرفة .

قلّما يتوصّل الإنسان ، و قلّما تتوصّل البشريّة ، إلى ترجمة إنسانيّة موفّقة لإيحاءات “الفكرة” في العقلانيّة ، هذا مع أنّ من الضّروريّ أن تجري استجابة العقل البشريّ في ذلك استجابة محقّقة ، لولا أنّها غالباً ما تنطلق من فهم ذاتيّ و شخصيّ ، محدود ، لأثر القوّة في المعرفة أو لأثر المعرفة في القوّة ، و هو الأمر الذي تدور حوله النّظريّات الكبرى بطاقتها البشريّة التي تعبّر ، عادة ، عن درجة التّطابق بين أثر “الفكرة” و مقتضياتها الإنسانيّة ، و هي ( النّظريّات ) قلّما تحقّق قيمتها في قدرتها على التّعبير المناسب و الوفيّ عن عمليّانيّةِ “الفكرة” نفسها ، في متطلّبات “الموضوعيّة” في “الممارسة” .

2▪ يُحيلنا هذا الواقع الدّقيق إلى الثّوابت العمليّة للفكرة الكلّيّة التي يُعبّر عنها الإنجاز التّاريخيّ الإنسانيّ ، في معاريج أفكاره المنتخبة انتخاباً أخيراً في النّتائج التي تمثّل ، في جانب كبير منها ، تلك “الحتميّة” النّهائيّة في الغاية ، و ذلك على رغم كلّ ما توحي به الوقائع من نقض للحتميّة بصيغة الرّغبة البشريّة في الاختيار .

و إذا كانت “النّظريّة” أو النّظريّات الفكريّة التّاريخيّة تعبّر تلقائيّاً عن إيحاءات ضروريّة للفكرة في جانب من جوانبها غير المعبّر نهائيّاً عن مقاصدها في الاجتزائيّة البشريّة ، فإنّ ما يُشرعن البعد الموضوعيّ لجوانب الفكرة و يجعل من تلك الاجتزائيّة معدّلة في سيولة المنطق العالميّ للسّلوك ، إنّما هو واقع قدرة هذا الجانب أو ذاك من أثر الفكرة على أن يكون مطابقاً للجزء العمليّ في الممارسة النّاجمة عن دوافع الفكرة ، العمليّة ، و مقتضياتها في استقلاليّة نتائجها عن الرّغبات القاصرة ، التي تظهر مدمّرة إنسانيّاً في ما قبل ضرورتها الماثلة في العمل .

و من الممكن أن نرصد هذه المطابقة العمليّة ( العمليّانيّة ) للفكرة مع العالم ، بواسطة الوقوف على دخول التّاريخ العالميّ في الاضمحلال الذي ينجم باسترسال ، عن اضمحلال الدّولة في فكرتها و عن اضمحلال المجتمع أو المجتمعات ، أوّلاً ..

ثمّ في ولادة عالم أو عوالم جديدة لا يمكن أن تغيب عن مسرح مشروع العالم ، سواء كان ذلك في النّظريّة أو في العمل .

و يمكن تتبّع ذلك الخيط بناء على ما أكّدناه في “الجزء الأوّل” ، في ” حديث الثلاثاء ” الماضي ، من هذا الحديث ، و ذلك بقدر ما يمكننا الاعتقاد بحقيقة النّتائج التي توصّلنا إليها ، سابقاً ، حول اضمحلال الدّولة العالميّة و اضمحلال المجتمع العالميّ عمّا رسمته لكلّ منهما مطوّلات “الحداثة” ، و ذلك في الحداثويّات التّاريخيّة الّلاحقة ، و كذلك في ما هو مقبل من “حداثويّات” أخرى رهن التّحقّق الأكيد .

و من الطّبيعيّ أنّه لا يُمكننا هذا الجزم إلّا عبر تجنّبنا التّسويفات النّظريّة غير الحدّيّة و غير المبرهنة ، و ذلك عبر التّجربة العمليّة للقراءة المعرفيّة للعالم ، متجنّبين ما أمكننا من تكرار الجانب النّظريّ الذي خضناه سابقاً بالتّجريد المباشر لوقائع حالّة و كاملة .

  • أوّلاً – اضمحلال العالم ( انقضاء العالم القديم و الحديث و المعاصر ) :

3▪ يترتّب على النّتائج التي ثبّتناها في “الجزء الأوّل” من هذا الحديث ممّا وجدناه من اضمحلال الدّولة العالميّة ، في ذاتيّة من الأهداف العميقة محدّدة الوظيفة و شاملة الأثر ، و كذلك من اضمحلال المجتمع العالميّ في امتصاصه من قبل أهداف أسطوريّة في النّفعيّة العالميّة المترتّبة على ممارسة القوّة بالعنف ، ما يُشبه دخول الحضارة العالميّة في سُبات الاختصار والاختزال القصديّ الصّارم ، و ما ينجم عن ذلك من دخول العالم في طريق الأفول .

4▪ و يمكننا ، كما يمكن للجميع ، مراقبة هذا الغياب الواقعيّ العالميّ ، عن طريق تقزّم الأهداف العالميّة للحضارة البشريّة المعاصرة ، في إطار التّضحية الكلّيّة بالجوانب الإنسانويّة للحضارة المعاصرة ، بواسطة انتصارات مدويّة للبربريّة البشريّة و استعادة المحدوديّة الأخلاقيّة للإنسان في أنماطه الخالية ، في صيغة بربريّات مختلفة أصابت أهمّ أعلام تطوّرات البشريّة في انسحاقات ثقافيّة و فكريّة و اقتصاديّة و اعتقاديّة و دينيّة و أخلاقيّة ، و غير ذلك من انحسار الخطاب الإنسانيّ في محدوديّات الاستجابة للحاجات الموسّعة ، التي كان من المفترض أن تقدّم لها الحضارة المعاصرة تطمينات مختلفة لتسديد ضرورات متطلّباتها ، وفق ما قد اقترحته في ذلك الكثير من النّظريّات الفكريّة و مبادئ الحساسيّة المتراكمة في جماليّات الصّورة المقترحة للإنسانيّة ، بدءاً من عصر النّهضة الأوربيّ ، في القرن الرّابع عشر الميلاديّ ، أو بدءاً من ازدهار الإنسانويّة في الجانب الآخر من العالم ، و نعني منذ الدّولة الأمويّة الرّائدة ثقافيّاً في “الحضارة العربيّة الإسلاميّة” منذ القرن الأوّل الهجريّ أو القرن السّابع و الثّامن الميلاديّ ، استمرارً إلى آخر أمجاد الدّولة العبّاسيّة مع القرن الثّاني و الثّالث الهجريّ أو القرن التّاسع و العاشر الميلاديّ .

5▪ و لقد توالت ظاهرة الحضارة البشريّة بواسطة جملة من الثّقافات العالميّة المختلفة و إنجازات العلوم و التَّقنيّة المطّردة ، تباعاً ، إلى أن دخلت البشريّة عصر الحداثة المتواضع عليه مع عصر الأنوار الأوربّيّ في القرن الثّامن عشر و التّاسع عشر الميلاديين ، لتتوالى من بعدها مظاهر الحضارة كثيفة في العلوم المعاصرة و الأركيولوجيا و البيولوجيا و العلوم التّطبيقيّة و التّجريبيّة الحديثة و المعاصرة ، و تعميقاً لخبرات العقل الإنسانيّ في الفيزياء الأخيرة المعاصرة ، و ما رافق ذلك من وفرة اقتصاديّة رأسماليّة اقطاعيّة ، أوّلاً ، ثمّ بورجوازيّة ، ثانياً ، و أخيراً ما وصلت إليه الإمبرياليّة المعاصرة من فتوحات كاسحة على صعيد الاقتصاد و استثمار التّقنيّات الرّائدة ، مع ما واكب ذلك من فتوحات سياسيّة و نظريّة و عمليّة ، إلى آخر ما نعاصره اليوم من اختزالات ذلك في أهداف شاسعة ، و لكن في أيدي حفنه ضيّقة من الطّبقة المالكة و الحاكمة عالميّاً ، وصولاً إلى ما أسميناه عصر اضمحلال الدّولة العالميّة و المجتمع العالميّ أو الدّول و المجتمعات العالميّة .

6▪ إنّ لغياب العالم الحديث و المعاصر ، و انقضائه ، معالم عديدة و واضحة ، تكاد تجعل الواقع العالميّ شكلاً واهياً من أشكال النّهايات الانعطافيّة التي تدخل في نظريّات تسوّغ له هذا الامّحاء .

و لو أنّ هذه النظريات ، تعمل في الغالب باتّجاه آخر ، تطويريّ ، فإنها في حقيقتها العمليّة نظريّات صادرة عن محافل و هيئات سياسيّة تحيط إحاطة مطلقة بممثّليها من الأفراد الذين تُنسب إليهم هذه النّظريّات . هكذا يعلو دور المؤسّسة في التّفكير على حساب الأفراد و الشّخصيّات ، كما تعلو أدوار الخلفيّات الخفيّة على حساب دور المؤسّسة ، كما تتكاثف أيضاً تلك الخلفيّات الحاكمة إلى حفنة من الأشخاص العالميين الذين يعملون و يشتغلون وفق أهداف خاصّة جدّاً في تجريد شديد للأفكار السّياسيّة العالميّة ، بحيث تبقي تلك الشّخوص على الأقلّ القليل من بقايا الأفكار التي وضعها المفكّرون في النّظريّات ، لتمارس بضع آثار من آثار “الفكرة” ، النّظريّة ، كما رأينا في “الجزء الأوّل” من هذا الحديث ( من هذه الثّنائيّة ) ؛ أو بضع آثار عمليّة من آثار “الفكرة ، كما سنلاحظ الآن .

7▪ يكبر الّلغز العالميّ في ممارسات عمليّة مباشرة و “اقتصاديّة” و مقتصِدة ، إلى درجة تبدو معها تلك الممارسات اشتغالات غير مسوّغة و لا مفهومة ، و من دون أن تعبّر عن مقاصدها مباشرة أو بدلالات واضحة أو يمكن شرحها للجميع .

و في هذه الأثناء يبدو السّلوك العمليّ للقادة السّياسيين و الاقتصاديين العالميين سلوكاً حادّاً و فظّاً و خشناً ، و قد ضحّى بكلّ الأعراف الإنسانويّة التي علّمت العقلانيّة أفكارها الآفلة ، في رمزيّات غير متاحة مضامينها للوعي العامّ العالميّ .

إنّ سلوكاً واحداً ، على سبيل المثال ، يطوي في تراتيب ثناياه جميع الّلغة السّياسيّة لحاكمي العالم من دون أن يكون معبّراً عن ذلك مباشرة ، و لا حتّى في الإشارة إلى المقاصد البعيدة للسّلوك .

و المثال الذي نعنيه هو ما يصدر عن “الاحتياطيّ الفيدراليّ الأميركيّ ” ، وهو البنك الذي يسخّر حركة العالم اليوميّة لأغراضه من دون أن يكون لأحد في العالم إمكانيّة الاعتراض على نتائج ذلك ، لعلّة السّرّيّة البالغة في قراراته و ممارساته التي ، و إن كانت معروفة عمليّاً ، لا يمكن أن تعكس حقيقتها أو أن تقدّم المعلومات التي تشرحها للآخرين .

في عام ( 1933 ) ، و في معرض انتقاده للسّسياسات اليهوديّة في نظام البنك الاحتياطيّ الفيدراليّ الأميركيّ ، لخّص السّيناتور ( لويس ماكفادين ) ، عضو “لجنة الخارجيّة” في “الكونغرس” الأميركيّ ، سياسة “البنك” ، فقال : ( يبذل النّظام الاحتياطي الفيدرالي قصارى جهده لإخفاء إمكانيّاته الحقيقيّة . و لكن ، في الواقع ، استولى هذا النّظام على الحكومة بالكامل . إذ يشرف على كلّ ما يجري في بلادنا ، و يسيطر على كلّ علاقاتنا الخارجيّة ، و يشكّل الحكومة وفق هواه و يدمّرها ) .

و كان ( توماس وودرو ويلسن ) الرّئيس الأميركيّ الثّامن و العشرين مابين ( 1913 – 1921 ) ، و بعد أن انخرط في أتون “المال الاحتياطيّ” الذي موّل له حملته الانتخابيّة ، قبيل الحرب العالميّة الأولى ، بقليل ، أن صرّح – في ما بعد – بقوله :

( أنا رجل تعيس بحقّ . فقد دمّرتُ بلدي دون قصد . إذ بات نظام القروض يتحكّم بدولتنا الصّناعيّة الكبيرة . إنّ نظام القروض متمركز في أيد قليلة ، و لهذا فإنّ نمو الأمّة و نشاطنا كلّه بات تحت سيطرة عدّة أشخاص . و تحوّلنا إلى إحدى أسوأ حكومات العالم المتحضّر المتحكَّم فيها بدقّة و أكثرها تبعيّة . و لم نعد بعد الآن حكومة للتّفكير و الآراء الحرّة و صوت الأغلبيّة . بل أصبحنا حكومة لرأي و ضغط مجموعة صغيرة من محبّي السّلطة ) .

8▪ قد يبدو غريباً أن نقول إنّ الحروب العالميّة و من قبلها الثّورات العالميّة منذ الثّورة الإنكليزيّة في القرن السّابع عشر ( عام 1642 ) ، و الثّورة الفرنسيّة في القرن الثّامن عشر ( عام 1789 ) و كذلك الثّورة الأميركيّة ( حرب التّحرير الأميركيّة ) .. و غيرها أيضاً ، من دون أن ندخل في سلسلة الأسماء .. إنّما كانت ، صناعة من صناعات “البنك المركزيّ في المملكة المتّحدة” ( بنك إنكلترا ) الذي أنشأه الاسكتلنديّ ( وليام باترسون ) في عام ( 1649 ) ؛ و صناعات “النّظام البنكيّ الاحتياطيّ الفيدراليّ الأميركيّ” ( البنك المركزيّ الأميركيّ ، في “وول ستريت” – و هو بنك خاصّ و غير حكوميّ يتموّل أساساً من ريع الفائدة المترتّبة على إقراضاته للدّولة و االشّركات الكبرى و المواطنين و الفوائد المترتّبة على ذلك ، و هو حاكم السّياسة النّقديّة الأميركيّة و العالميّة ، بإثنيّ عشر فرعاً له في الولايات المتّحدة الأميركيّة ) المؤسّس عام ( 1913 ) في عشيّة “الحرب العالميّة الأولى” [ إلّا انه ، في الواقع ، كان موجوداً قبل هذا التاريخ بكثير ، ولو تتبعنا بدايات نشوئه مع “نشأة البنوك” الرّبويّة في أوربّا ، نجد أنّها كانت قد بدأت منذ القرن الحادي عشر الميلاديّ ؛ حيث كان الناس يودعون ذهبهم وفضّتهم عند صيارفة إنجلترا بشكل آمن لدى صائغ الذهب و الفضّة ، مقابل حصولهم على إيصال مكتوب بودائعهم ، وبعد فترة اصبحت “الإيصالات الورقية” أقل وزناً للحمل مقارنة بالقطع الذهبيّة والفضيّة ] و المملوك من قبل أشخاص مجهولين و سرّيّيِن ليست عائلة ( روتشيلد ) و ( روكفلر ) إلّا مثالين لهؤلاء المجهولين…

و من الجدير ذكره هنا أنّ سياسة “القروض” المتّبعة في الأنظمة البنكيّة “الإنكليزيّة” و “الأميركيّة” ، الحديثة و المعاصرة ، إنّما تعود في تقاليدها إلى ما قبل “الحكومة البابليّة” القديمة ، أي إلى ما قبل تأسيس عاصمتها ( بابل ) عام ( 2300 ق. م ) ، مروراً بحكومة ( روما ) القديمة التي عرفت نظام القروض و الإقراض على نحو واسع .

9▪ و على عكس ما هو ظاهر ، فإنّ النّزعات الكلّيانيّة الماليّة العالميّة تمحو العالم شيئاً فشيئاً من حيث هو عالم للبشريّة فيه وجود فاعل أو حضور إنسانيّ ثقافيّ اعتباريّ ؛ و ما جميع نظريّات العالم ، السّياسيّة ، اليوم ، سوى عبارة عن تسويق لعالم الاختزال الماليّ ، أو أنّها نتيجة لجهل مطبق أو تجاهل و تعمية عمديين لتكريس نظام العالم الخفيّ ، عن طريق ممارسة الجهل و التّجهيل الموظّفين لتعويم القلّة الماليّة القويّة العالميّة و جعلها قوّة احتكاريّة محدودة العدد و شاملة الاستبداد .

و في هذا الوضع ، فإنّ الصّفة السّلبيّة لقوى العالم الأخرى تزداد في هامشيّتها باستمرار لتغدو نظاماً يعمل على المساهمة في محدوديّة العالم لصالح القلّة من الظّواهر العنيفة المتمثّلة بأشخاص طبيعيين ، و ليس اعتباريين ، تمارس تطويق العالم و عصره و حذفه من دائرة التّأثير التي تُعنى بها امتثالاً بقيّة دول و شعوب الأرض ، إلى الدّرجة التي تخبو فيها مظاهر العالم و تذوي و تنطحن في مفاعيل آثار المتحكّمين .

10▪ قياساً بالأهداف ، فإنّه يمكننا ، إذاً ، القول بانمساخ إنسان العالم المعاصر ، بعمومه ، إلى مجرّد “زبائن” عاجزين عن أداء التزاماتهم اليوميّة في عالم من الجشع و الاختصار و المحو و الاختزال . هذه صورة سياسيّة لعالم العنف المعاصر و قد تحوّل إلى أثر ضيّق – و لو أنّه عميق – لصيغة الحياة العالميّة على سطح المعمورة ، بحيث أنّ ما انحفظ فيه من كتلة و طاقة قد تضاءل في الكمّ ليتكاثف في بؤرة عالميّة ضيّقة و واحدة ، تكاد تكون كالثّقب الأسود الكونيّ من شدّة كثافتها و جاذبيّتها المدمّرة ، بحيث أنّها لا يكاد يصدر عنها إلى خارجها أيّ صورة من صور الوجود ، لتسبح في سرّيّة شبه مطلقة .

و تبدو الأشياء على هذا النّحو تنفرغ في غياب عالميّ و تقلّص وجوديّ ، بما تستتبعه من يأس بشريّ و دخول في عالم من الجريمة المرغوبة و الإرهاب العالميّ و الحروب العبثيّة لذاتها كتعبير عن أقصى استلاب للإنسانيّة إزاء الأمل التّقليديّ الذي كان ، إلى حين ، قادراً على تحريك الرّوح العالميّة في خطى التّقدّم و التّطوّر على طريق المستقبل . و عندما يذوي الحاضر فإنّ من الطّبيعيّ أن يغيب أو أن يتغيّب معه المستقبل الذي كان يُبنى عليه بتلازم الأسباب .

11▪ لقد أسهم الفكر الغربيّ ، بما هو فكر عالميّ و ثقافة بشريّة مركزيّة ، و معلماً إنسانيّاً كلّيّاً بما نقرأه من غياب عالميّ على مستوى ما تقدّمنا به من حجج ، أوّلاً ؛ ثم على مستوى الثّقافة المباشرة ، أيضاً ، ثانياً ، عندما تطوّرت النّزعة الوجوديّة – العدميّة القائلة ب “موت الله” ( نيتشه ) إلى “موت الإنسان” ( فوكو ) إلى “نهاية التّاريخ” ( فوكوياما ) إلى “صراع الحضارات” و تفسّخ العالم بالعنف المباشر ( هنتنغتون ) إلى “موت العالم” ( أو موت الغرب ) ( بوكانن ) ، في تسلسليّة كان أصحابها يعنونها كواقع غربيّ بشكل خاصّ ، ولكنّه عالميّ في مركزيّته التي أنتجت “عولمة” باهتة و ساحقة و مسحوقة .

وهكذا اضمحلّ العالم في “الغياب” .

  • ثانياً – بزوغ عالَم جديد ( بقيّة احتماليّة ، أو تحوّلات مفاجئة ) :

12▪ ما لم يكن المستقبل القريب أو البعيد رهنَ مفاجآت كونيّة في نهاية دراماتيكيّة للحياة على سطح الأرض ؛ و هذا جزء من احتمال كونيّ تدخل في المؤشّرات عليه جملة من الأشياء الكونيّة و الطّبيعيّة التي تتزايد و تتفاقم في الطّبيعة و المناخ ، و القلق الفيزيائيّ و الفلكيّ و الطّبيعيّ في الأوساط العلميّة العالميّة ؛ فإنّ شكلاً واحداً للحياة الاجتماعيّة على الأرض لا يمكن أن يستمرّ إلى النّهاية البعيدة ..

و هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار المداولات الثّقافيّة المستمرّة في حضارتنا المعروفة هذه ، و ذلك عندما لا نتصوّر الأمر بهذه السّرعة المرغوبة ، إذ أنّ البنية العامّة للرأسماليّة العالميّة في إمبرياليّات الغرب و الشّرق ، سوف تمتدّ لتعمّر طويلاً نتيجة لعوامل المرونة التي تتمتّع بها الإمبرياليّة العالميّة في طورها المجيد ، و بخاصّة بعد أن اكتشفت لها الإمبرياليّة الأميركيّة ، تحديداً ، ذلك العنصر الحيويّ الدّائم من نظام الرّبا العالميّ الذي تحكم به أميركا العالَمَ اليوم ، القائم على محرّك صناعة و تصدير و توزيع و سيطرة “الدّولار” الأميركيّ الذي لا ينضب مخزونه بقدر ما هو سلعة متوفّرة و إنتاج دائم و مجّانيّ للمطابع المالية الاميركية !

13▪ و لقد تحدّثنا عن “الفكرة” في حديثنا ، في “الجزء الأوّل” ، السّابق ، و في “الجزء الثّاني” ، هذا ، هنا ، على اعتبارها شيئاً مألوفاً و مفهوماً لدى القارئ . إلّا أنّها ليست بهذه البداهة المزعومة لدى الجميع ، إذ غالباً ما كانت تطرح “الفكرة” في التّاريخ ، في قصديّات مبهمة و مضامين عالية التّجريد و مقاصد غامضة ، و ذلك حتّى عند مفكّرين و فلاسفة كبار كان من أشهرهم ( هيغل ) في حديثه عن “فكرة العالم” .

و نجد أنفسنا ، في سياق حديثنا و استخدامنا المكرّر لهذا المصطلح ، أنّنا مدعوون من جديد إلى إعادة تحديد ما نقصده من هذا الاستعمال لمصطلح “الفكرة” الشّاملة التي تنتظم الكون و العالم ، لكي يكون بإمكاننا متابعة أثرها “العمليّ” ، بعد أن توفّر “الجزء الأوّل” الماضي على مضمونها النّظريّ ، لنعمل على استبقائها في فحص الآثار العالميّة المترتّبة على ثقافة الهدر الإنسانيّ التي أحالت العالم إلى وجود مشكوك بجميع مضامينه و دلالاته و قيمه و آثاره .

14▪ عادة ما نقصد ، ب ” الفكرة ” في مجرّداتها ما هو أكثر معقوليّة ممّا يظنّ الكثيرون من القرّاء و النّقاد و المهتمّين ، من جهة أنّنا نؤطّر تجريدنا لها بواسطة مصطلحات محدّدة تشير إلى قيم ذات أبعاد عمليّة و مباشرة ، بقدر ما هي هذه القيم محلّ واقع عمليّ و حساسيّة تاريخيّة في الذّائقة الوجوديّة التي انتهت إليها المخلّفات الثّابتة لهذه الإنسانيّة الآفلة .

و على ذلك ، فنحن يمكننا الذّهاب مباشرة إلى مقاصدنا من “الفكرة” ، بأنّها تلك “المصدريّة” المليئة بإيحاءات “المقولات” الأساسيّة و “التّيمات” المكنوزة في الموجودات ، و التي لا تبرح كلّ منهما تُعيد إنتاجنا العمليّ و القيميّ اليوميّ ، سواء أدركنا هذا الأمر أم لم ندرك ذلك .

و “الفكرة” ، بهذا ، هي محرّك العالم و الكون في حدود التّناذرات “الوجوديّة” في الأشياء اليوميّة التي تشتمل على علومنا و أفكارنا العمليّة الرّاقية و الأنيقة مع الأمل الذي تضخّه هذه الأشياء في المعتقدات و السّلوك ، و على مجموعة قيمنا الأخلاقيّة التي لا يمكن للإدراك المتوسّط ، على الأقلّ ، أن يتجاهلها أو أن يتجاوزها في الحياة اليوميّة التي يكتشف مغزاها العقل .

15▪ و لأنّ “الفكرة” ، على ما قدّمناها ، هي الشّيء الأكيد الذي لا تنضب ولاداته المتوالية و المختلفة في كلّ عصر من عصور البشريّة ، و ذلك مهما عمل “الآخرون” على تغليفها بقشرة الزّوال ، فإنّ ما يندمل “هناك” من ثقة بأنّ العالم و التّاريخ ، كلّ منهما صناعة قَبْليَّةٌ و ناجزة في “المخطّط الكونيّ” الأساسيّ و العامّ ، في حدود “الحقيقة” النّاجمة عن “واقعيّة الفكرة” ..

نجده يبزغ ، بموجب “الحتميّة” ، في مكان ما ؛ و هو ما يُسوّغ لنا أن نتوقّع ما هو خارج الحسابات و الحسبانات الإنسانيّة ، بغضّ النّظر عن كوننا متشائمين أو متفائلين ، و هي مصطلحات لا تعني شيئاً ، لنا ، أو لحركة التّاريخ الذي يحيى و يستمرّ في حياة “الفكرة” الكونيّة ، العالميّة ، على ما حدّدناه أعلاه .

وهذا ليس إيماناً بقدر ما هو عيشٌ في “الحقيقة” الكلّيّة التي لا تموت على أجزاء ، و إنّما تندثر في وقتها دفعة واحدة على ما يُمكن أن يعني هذا الأمر العديد من التّصوّرات و الوقائع و الظّواهر و التّخييلات .

16▪ في الغالب ، فإنّ هذه “البقيّة” الموضوعيّة تأخذ لها أشكالاً لا حصر لها و غير نمطيّة ، تخضع لمفاجآت العالم و التّاريخ ، و ذلك بقدر ما تعنينا هذه “المفاجآت” في رفضنا تعليل المظاهر العالميّة بقدرها البشريّ .

و من هذا ينبع ، في الفكر ، أثر دائم و متحوّل لصيغة العالم ؛ هذ مع أنّ من الأفضل عدم الخوض في عادات التّنبّؤ السّيّئة التي اعتاد عليها الوعي الثّقافيّ الأزور و المحدود ، لتحديد أو اقتراح نمط أو نموذج ممّا ينتظر البشريّة و لو على عتبات بعيدة نسبيّاً ، حيث لا نراها قريبة .

17▪ ليس “اليقين” الذي يعلو حديثنا ، هنا ، راجعاً إلى إيمانات حتميّة تاريخيّة ، تقليديّة ثقافيّاً ، بقدر ما يعود ، في رأينا ، إلى طبيعة حياة “الفكرة” نفسها و التي لا تموت ، بحكم مبدأ الأشياء ، إلّا مع الموت الفيزيائيّ للعالم ، على اعتبارها روح العالم و طاقته المحرّكة .

إنّ الصّورة التي يجري تقديمها بالخصوص ، هي الصّورة الوحيدة الضّامنة للحياة البشريّة ، في بعدها الإنسانيّ ، و لهذا كان طبيعيّاً أن تنعكس هذه الفكرة بضوئها على تفاصيل الحياة اليوميّة ببعدها السّياسيّ العالميّ ، الذي يجعل من “المقاومة” الفكريّة لزوال العالم أمراً عمليّاً على رغم جميع ما يقودنا من النّظريّات إلى العكس .

  • ثالثاً – قراءة عمليّة في ثوابت “الفكرة” ، الدّائمة :

18▪ وجدنا ، في “الجزء الأوّل” من هذا الحديث ، أنّ الاعتداءات النّظريّة المنظّمة و المكثّفة على “الفكرة” الكونيّة في تجلّياتها العالميّة ، إنّما هي أمر يُخلّ أوّلاً – في المبدأ – و أخيراً – في النّتيجة – بالحساسيّة المعاصرة و ذائقة العالم ، الوجوديّة ، و هو ما يُعتبر عملاً على تدمير ممنهج للبعد النّظريّ للعالم في شكليه ، في الخيال الشّعريّ و في المبدأ النّثريّ ، في وقت واحد .

و هذا ليس أمراً بسيطاً و عابراً ، كما يمكن أن يفهمه الكثيرون . العالم كتاب يحتاج إلى قراءة و تأليف دائمين ، و هذا يكون بأحد شكلين للذّائقة الوجديّة ، و هما الكتابة النّثريّة ، بوصفها شكلاً مباشراً لقراءة العالم ، و كذلك بالكتابة الشّعريّة ، بوصفها شكلاً رمزيّاً و مبدأً استيحائيّاً في قراءة العالم و الوجود .

و حيث يمكن لنا أن نجد ذلك في آثار لا تُحصى ، في المطابقة ، سياسيّاً و اجتماعيّاً و اقتصاديّاً و ثقافيّاً و أخلاقيّاً ، فإنّ الرّهان الإنسانيّ الواعي في الممارسة ، يجعلنا نتجاوز فقر النّظريّة ( النّظريّات ) السّياسيّة العالميّة الموحية بالتّقاعس العقليّ الذي ينهب فينا طبيعتنا الإنسانيّة و يبعث فيها خواء الأموات ، نحو إصرار حيّ في البعد العمليّ للجانب الذي نستضيئه – و نستضيء به – من “الفكرة” على ما حدّدناها أعلاه .

19▪ يعصمنا هذا الأداء من جميع الإيحاءات المعاصرة التي تعمل على تكريس الوهن العقليّ ، كما يدفعنا ، دائماً ، إلى حيويّة الموت المتناقض الذي دخلنا فيه ، عنوة ، و أدخَلَنَا فيه العالم المعاصر بقواه العنيفة .

و نحن عندما يحدونا “العمل” في ذلك ، فإنّنا نتوسّع في فهمنا الحاسم و العمليّ لطبيعة “الفكرة” و نكتشف واقعيّتها الأكيدة ، و هو الأمر الذي يجعل من “الفكرة” ، نفسها ، مبدأً عمليّاً بعد أن كادت تدخل في “طور” الإعلام العدميّ الذي أنتجته “العولمة” المعاصرة بضروبها التّيئيسيّة الخانقة .

إنّ التّقشّف العقليّ الذي فرضته علينا “العولمة” ، و تنكيلها الحثيث بالمبادئ التي ترعرع عليها الوعي البشريّ التّاريخيّ ، و تعقيمها المتوالي للقيم الإنسانيّة التي تربّى عليها الفرد الاجتماعيّ العالميّ النّموذجيّ ، قد خلق – كلّ ذلك – حالة من حالات التّمرّد الدّاخليّ للسّلام الآدميّ ، فانفطرت الشّخصيّة المعاصرة من خطّ اتّصال النّظريّة و التّطبيق العمليّ فيها ، حتّى بات يمكننا أن ننظر إلى هذه الشّخصيّة نظرة خارجيّة خالصة بعد أن مورِسَتْ عليها أكبر عمليّة تهشيم داخليّ أصاب وَحدتها و انسجامها بمقتل يكاد يكون الأخير .

و لقد برز ذلك ، في أكثره ، في ما سمح للنّقد المعاصر الإمعان في تناول الانسجام الإنسانيّ بوصفه ذكرى من الماضي العالميّ ، الذي صار حاضراً من تناقضات البعد النّظريّ عن الجانب العمليّ للشّخصيّة في أثمن ممتلكاتها العضويّة الواحدة ، فأصبحنا منساقين وراء الفصل ، الذي كان تعسّفيّاً في ما مضى و أصبح اليوم منطقيّاً و ضروريّاً و منهجيّاً في تحرّي و ضبط المتغيّرات البنيويّة للفرد و الجماعة و المجتمع و الدّولة و ما إلى ذلك من منظومات متّحدة داخليّاً ، و أصبحت اليوم مثالاً على الانفصال .

20▪ إنّ اليأس النّظريّ الذي يُداخلنا جرّاء الانفصالات التّاريخيّة للبعد النّظريّ للفكرة ، ينبغي ألّا يكون عاملاً من عوامل تكريس نوع إنسانيّ جديد ، كما يُراد للعقل البشريّ المعاصر أن يُسلّم بهذا التّحوّل الذي قد رُتِّبَتْ معالمه و إيحاءاته من أجل كسر ظهر المواطن العالميّ و نفيه خارج حظيرة الوجود ، في عمليّة تحويله إلى كائن غريب عن معتقداته النّظريّة التي قضى في إنتاجها و تطويرها تاريخاً مديداً على صعيد النّوع و الجنس أو زماناً لا يُقاس ، و هذا بحسب من يميل إلى مقاييس التّطوّر الحيوانيّ النّوعيّ لظاهرة الإنسان .

إنّ الكمين السّياسيّ المنصوب للبشريّة ، و الذي يتظاهر علانيّة في زمن العولمة ، و قد مارس و يمارِس على الإنسانيّة هذه الثّقافة الجديدة العدائيّة و التّحريضيّة ضدّ الإنسان العالميّ ، يجب ألّا يتحوّل إلى قفص من الاتّهام الذي تنصبه المجتمعات و الجماعات و الدّول و الأفراد ضدّ ذاتها ؛ و لذلك كان حريّاً بنا أن نتحوّل إلى البعد أو الأبعاد العمليّة ، و العمليّانيّة للفكرة الكلّيّة – على ما رأيناها – هذا على رغم سيل المفاهيم النّظريّة التي تنتج باستمرار و يُعاد تدويرها و إنتاجها ، هي ذاتها ، في صيغ جديدة تتّفق جميعها على ترويض المواطن العالميّ و الدّولة العالميّة الضّعيفة المعاصرة ، و المجتمعات الطّائلة المنفيّة في التّلقّي و الاستهلاك الحافظ للحدّ الأدنى من وسائل و أدوات الاستمرار في عيش بذيء و تافه و غير إنسانيّ ، و كذلك على رغم المنظومات النّظريّة المفهوميّة اليوميّة ذات الصّفات الوهميّة و الكاذبة و العابرة .. في تحدّ عمليّ لكلّ ما يُصاغ من ذلك على غير أساس الفكرة الأصليّة التي اختبرها الزّمان اختبارات متوالية و ما زالت صالحة ، عمليّاً ، في التّقويم .

21▪ يتطلّب الأمر من النّضالات الإنسانيّة المعاصرة ضدّ التّدجين المرضيّ الممارس على الإنسان العالميّ ، أن تكون قادرة ، إذاً ، على الصّمود العمليّ اليوميّ أمام اجتياحات العنف السّياسيّ العمليّ المصدّر في النّظريّة و الإعلام و المفاهيم و المصطلحات ، الشّائنة ، و كسر القناع الثّقافيّ الذي احتكرته قوى الاجتياح الوجوديّ العالميّ ، العولميّ ، لكشف ما قد تزايد ، مؤخّراً ، من مؤامرات النّظريّة السّياسيّة الحاملة لمشروع التّدمير الموجّه إلى البشريّة ، لتصفيتها من جميع معالمها و عناصرها الإنسانيّة التي قضت في سبيلها المقاضي و الأزمان ، و ركبت دونها البشريّة أهوالاً بأثمان باهظة واعدة و لمّا تصلْ إلى ما يُكافئ ذلك من انتصارات و محصّلات .

و عندما يصل العقل الإنسانيّ المعاصر إلى هذه الانتخابيّة من الممكنات ، فإنّه يستطيع أن يقوم بتبويب الأهمّيّات النّظريّة و العمليّة في قوائم صريحة و منفصلة تناسب حدّة و جدّة التّحدّيات الأخيرة التي نعاصرها سياسيّاً اليوم ، بحيث أنّ ما يجري تأجيله في “النّظريّة” يجد له متّسعاً من الإصرار العمليّ في المطابقات الظّرفيّة لأثر الفكرة مع متطلّباتها في الممارسة ، هذا و لو أدّى بنا الأمر إلى التّضحية التّجريبيّة المؤقّتة بالأثر النّظريّ للفكرة في سبيل القيمة الفكريّة للعمل و الممارسة و السّلوك .

و هكذا ، عادة ، تسيطر “الفكرة” الكونيّة و العالميّة ، بتفاوتٍ كمّيّ و نوعيّ ، على مختلف القيم الوجوديّة التي تتناوب في أهمّيّتها وفق ظروف العالم في الزّمان و المكان ؛ بحيث لا يمكن لنا إحصاء نتائج هذه السّياسة الدّافعيّة التي تطلّبتها سياسة العالم حولنا في أعاصيرها المباغتة برغباتها غير العقلانيّة ، التي لا تنتمي إلى هذا المجال الذي ننتمي نحن إليه ، كمواطنين عالميين ، من فكرة العالم و أسبقيّة الأفلاك السّياسيّة الثّابتة في التّكوين !

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى