وصفات اكبر الأدباء لتعيش سعيداً وتميّز  بين السعادة والسرور

قد يتراءى لك أن السعادة والسرور لفظتان مترادفتان لمعنى واحد.. لأنك تقول طالما أنا مسرور فأنا سعيد.

والحقيقة أن السعادة أعم من السرور، فكل سعادة هى سرور، وليس العكس، وبينهما فرق من حيث كيفية السرور.. لا من حيث مقداره.. وقد حددهما عالم النفس «مويرهد» كما يقول نيقولا حداد فى كتابه علم أدب النفس الصادر عن المكتبة العصرية فى بغداد بأن السعادة هى شعور آخر يرافق الشعور بالسرور، مع ما فيه من الألم فى الجهاد للحصول على السرور.. أو ما فيه من فشل السلوك فى الحصول عليه بتاتا -أو ناقصا- شعور بأن المرء سلك سلوكا حسنا. فالذى تستفزه المروءة بتخليص غريق، إذا لم ينجح، فإنه يتألم لفشله، لكنه يكون سعيدا بأنه لبى داعى المروؤة. نقول إذن إن السرور هو ما رافق السلوك ونتيجته، والسعادة هى استمرار الشعور بالسرور بعد انتهاء السلوك وانتهاء نتيجته.

وصفات الأدباء لتعيش

السرور: شعور بإرضاء الرغبة، أو إرضاء أى شخص آخر والسعادة: شعور النفس بكليتها من غير نظر إلى الخلق، بعد الفعل الحسن تبقى شاعرا بسرور عام فى ذاتيتك كلها. السعادة نتيجة السرور الأعظم الذى تتمتع به الذات.

قد يعتقد البعض أن السعادة فى المال والثروة، والبعض الآخر فى الصحة والسلامة، ويرى آخرون أن بمقدوره بالسلطة والنفوذ أن يعيش سعيدا. ويظن فريقا آخر على أن المال والثروة والسلطة والنفوذ والصحة والسلامة إذا ما اجتمعت جميعا فلن يكون هناك من هو أسعد من حائزها. لكن علم النفس له رأى آخر إذ يرى أن السعادة تتمثل فى كيفية عيش الإنسان حياة مُرضية يحقق فيها ما يريد من أحلامه وطموحاته التى تتوافق مع قدراته وإمكانياته ويكون بها راضيا عن نفسه وعن من حوله. وقسم علم النفس مصادر السعادة إلى قسمين: القسم الأول شخصية، والقسم الثانى اجتماعية. وتتركز السعادة الشخصية فى الصحة، والنجاح وتحقيق الذات، والثقة بالنفس. أما السعادة الإجتماعية فمصادرها هى: الجو الأسرى، علاقات الصداقة القوية، وجود أنشطة لتمضية أوقات الفراغ.

لم يكن علماء النفس وحدهم الذين حاولوا وضع مفهوم للسعادة وتفسير أحوال السعداء، هناك أيضا الفلاسفة والمفكرون والأدباء فى الشرق والغرب الذين تناولوا هذه المسألة التى انشغلت بها البشرية منذ أن وجدت وإلى أن تفنى.. وهنا نختار من كتاب «السعادة كما يراها المفكرون» بعض المقالات لأدبائنا ومفكرينا الذين ساهموا فى وضع تفسير لماهية السعادة وبينوا كيف يمكن للإنسان أن يعيش سعيدا.

العقاد: المثل العليا تحقق السعادة

يقول العقاد فى مقاله الذى نشرته «الهلال» فى يناير ١٩٥٤ تحت عنوان «مثل عليا.. تحقق السعادة»: أين السعادة من المثل العليا؟ وكيف يحقق المثل الأعلى سعادة من يطلبه؟ إن المثل العليا بطبيعتها مطالب فوق الواقع، يشقى بها طالبها ولا يدركها، لأنها غاية تبتعد كلما اقتربنا منها، وترتفع كلما سمونا إليها، فكيف نسعد بها وهى أمنية مستحيلة.. أو فى حكم المستحيل؟ إن المثل الأعلى مطلب وشىء آخر، هو مطلب محبوب معشوق، وليس شيئا مطلوبا وكفى. والناس فى كل عصر يسمعون عن صراع العشق، الذين يموتون وعلى شفاههم ابتسامة راضية، لأنهم يموتون فى سبيل مطلب محبوب، والناس فى كل عصر يسمعون عن الشهداء، الذين لا يبالون العذاب ويحسبون أنفسهم أسعد ممن يعذبونهم، لأنهم فى النور على مقربة من المعبود، والذين يعذبونهم فى ظلام، يضل بهم عن سواء السبيل.

على هذا يكون المثل الأعلى وسيلة إلى السعادة وإن كان هو فى سمائه غاية الغايات، ونهاية أشواط الرجاء.

وما السعادة؟ أراحة هى كما يتخيلها الكثيرون؟ إن بعض الراحة: شلل قوى النفوس.. وأحسن ما تكون الراحة: إعفاء من الحركة والنشاط.. فأين من نشاط الرياضة التى تلذنا، لأننا نشعر بقدرتنا على الحركة وعلى السبق فى ميدانها. كذلك رياضة الأجسام، وكذلك رياضة النفوس أيضا، فهى أسعد ما تكون حين تعلم مدى قدرتها وإلى أى شوط يمتد بها نشاطها.. وقد أجمع الناس على سعادة الأطفال، فهل رأيت الطفل الصغير يسعد بالاستكانة إلى الراحة وبين يديه مجال للوثب والعدو والقيام والقعود؟ كلا بل سعادته الكبرى أن يحس بجدة أعضائه، وأن ينطلق فى نشاط إلى غاية مستطاعة، وأن يمتحن نفسه بالحركة لا بالسكون والهجوع. وكذلك نفس الكبير، كذلك كل نفس تحس كلما تحركت كشفت من قواها قوة جديدة، قادرة على الجهد، وعلى النهوض بالأعباء. ولن يكون الإنسان يوما أسعد منه وهو متعب مجهود، إذا علم من تعبه وجهده إنه مالك لعنانه، قادر على توجيه مواهبه وملكاته، ماض فى عمله كأنه ماض فى رياضة شائقة تستبق فيها المواهب والملكات.

ولا راحة على كل حال فى الحياة.. وهكذا اعتقدت إذ كنت فى مقتبل الشباب، وكتبت إذ ذاك عن الراحة، فجعلتها جوهرة مدفونة تحت التراب تخيلتنى أسأل أبانا آدم عنها وأعتب عليه أنه لم يأخذها معه من الجنة وهو خارج منها، فقال لى فى ختام جوابه: «ولا تطمعوا أن تجدوه حيث أنتم كادحون.. فإنما قد دفنته فى مكان لا يراه من ينظر السماء، ولا يرى السماء من ينزل إليه، لكنكم متى حللتم جوف الأرض، وأطرحتم كل أمل لكم فى ظهرها، فهنالك الراحة السرمدية».

نعم لا راحة مع الحياة.. فهل فى الحياة سعادة؟ فيها ولا ريب، ولنلتفت جيدا إلى كلمة «فيها» فإن الحياة التى فيها السعادة غير السعادة من أولها إلى آخرها، فهذا وهم من الأوهام لا وجود له فى عالم الواقع، ولعلها لو وجدت، لملها أصحابها وتمنوا لو يشوبها خليط من الشقاء فى بعض أوقاتها.

لأن السعادة التى تلازم الإنسان فى كل لحظة من لحظات عمره: فضول لا يطاق، فإذا بحثنا عن حياة سعيدة، فقد ضيعنا الجهد على غير طائل، وإذا بحثنا عن حياة فيها سعادة هنا، وسعادة هناك، فقد وجدت هذه السعادة كثيرا على ظهر هذه الأرض، وأحسبها لم توجد على أحسنها وأصفاها وأغلاها، إلا مع مثل من الأمثلة العليا، على اختلاف هذه الأمثلة فى نظر الناس. أما مثلى الأعلى الذى أحب السعادة لأجله، فهو أشتات من الصفات والمطالب، تجمعها كلمة واحدة وهى كلمة «الكرامة»… فالكرامة هى المثل الأعلى الذى يسعدنا حين نخسر، كما يسعدنا حين نغنم ونظفر، لأننا نفقد ما نفقده على علم بفقدانه، بل نحن نختار الفقدان ونفضله على الغُنم والظفر، ونؤمن بأننا ضيعنا شيئا من أجل شىء آخر حفظناه وأبقيناه وهو أعز علينا وأجدر بالصيانة مما ضيعناه.

وليس أقرب إلى السعادة من المثل الأعلى الذى يسعدك كاسبا وخاسرا وناجحا ومخفقا، وغالبا ومغلوبا فى كل معركة يهمك أن تخوضها ولن تخوض إلا معركة تستحق أن تخاض، ما دامت الكرامة هى الوجهة التى تتجه إليها فى جميع الأحوال.. ومن الكرامة نستمد الشجاعة فى جميع المواقف، وفى أحرجها وأخطرها على الخصوص.. وحسبك أن تسأل نفسك: «أيسُرك أن تَسلم وأنت حقير فى نظر ضميرك؟ أيرضيك أن تتراجع عن الواجب صفر اليدين مما يكبرك ويجعل للحياة قيمة لديك؟».

أحمد رامى: أنا سعيد لأننى بعيد عن الأطماع

فى حوار أجرته مجلة الهلال مع الشاعر أحمد رامى سأله مندوب المجلة هذه الأسئلة: هل تشعر بالسعادة فى حياتك؟ ما هى أسباب السعادة فى رأيك؟ هل عشت مع السعداء فى قصصك؟ هل شعرت بشقاء الأشقياء فيما تناولته من حياتهم؟

وقد أجاب «رامى» عن هذه الأسئلة، فقال:

(١)

لم أشعر فى حياتى يوما بأننى لست سعيدا، لأننى رجل بعيد عن الأطماع، ونواحى طموحى محدودة فى حدود معقولة، ففى حياتى جميعها كنت أسعى إلى النجاح، ولكن خطوة خطوة، وإن إيمانى بالله ورضائى بكل ما قسم لى، سبب آخر من أسباب سعادتى.

(٢)

الأسباب التى توفر السعادة فى رأى كثيرة، فمثلا الفنان تسعده نواحى الجمال فى الوجود، فالمنظر الجميل، والفكرة الصائبة، والنغم الحلو، واللقاء السعيد، كلها بواعث السعادة فى نفسى. كما أننى أرى فى إسعاد غيرى -ولو عن طريق المواساة والمشاركة الوجدانية والرفق- ما يبعث السعادة إلى نفسى، فليس أحب إلى قلبى من أن أرى مظاهر السعادة على وجوه الآخرين، وأسباب السعادة تختلف باختلاف الأفراد، فما يسعد الفنان، غير ما يسعد رجل الأعمال، أو رجل المجتمع. ولكنى أعتقد أن القناعة والتسامح من أسباب السعادة، وإن كنت أرى ألا تصل القناعة بالإنسان إلى درجة الخمول، والتسامح إلى درجة إهدار الحقوق.

(٣)

القصصى: إما مبتكر، وإما مقتبس من الواقع ومُصوِر له، وهو فى كل ذلك يصور بقلمه أحاسيسه وآراءه، فهو لا بد أن يندمج ويعيش فى الجو الذى يكتب عنه ويصوره، ولا يمكن أن يوجد خلق من غير اندماج فهو يشقى مع الأشقياء من أبطال قصصه ويسعد مع السعداء. وأذكر على سبيل المثال قصيدتى الاثنتين: «غرام الشعراء» و«الخيام» فقد كنت أعيش فى جميع أطوار قصصى وحياة أفرادهم، ففى رباعيات الخيام كنت أعيش فى جو الخيام، وأحس بإحساسه، بل إننى أحببت الرجل من كتاباته وانتقلت من عصرى إلى عصره فى آواخر العباسيين، وعصر القصور والجوارى والمؤامرات، كنت أتألم له إذا تألم، وأسعد معه إذا سعد، وهكذا يعيش القصصى المطبوع فى جو قصصه، ويحيا حياة أفرادها.

(٤)

إن الحزن يحرك النفوس أكثر من السرور، والقصصى يحاول دائما أن يستثير عواطف الجماهير، ليجعلها تعيش فى جو قصصه وتؤمن بها، لذلك فهو ينحو ناحية الحزن ليحرك به نفوس قرائه، وتصوير الإنسان للحزن أقوى من تصويره للسعادة، لذلك فالقصصى يحاول أن يصور هذه الناحية فى قصصه، ليخلق لنا منها فنا رائعا، يستحق التسجيل والخلود.

مى زيادة: السعادة أو غاية الحياة

تقول الشاعرة والأديبة مى زيادة فى «رسالة غاية الحياة»: إن السعادة غاية الجميع، أما السبيل إليها فمختلف باختلاف الطبائع، حرمها الناس طويلا فازداد شوقهم، واحتشدت فى قلوبهم الكظوم والضغائن، حتى لكأن الإنسانية تتحرك اليوم فوق بركان ثائر، ففى كل مكان حروب وتقاتل على المنافع، ومن الغريب أن النقيضين.. الوطنية وانتشار الاشتراكية يسيران جنبا إلى جنب، والأمم جميعا على وجل واضطراب تنتظر من وقت إلى آخر تغير الأحوال ووقوع ما كان يرجى أو ما لم يكن ليرجى.

السعادة هى الغاية وما السعادة فى حقيقتها وعلى تنوع صورها فى الأذهان سوى تطور متتابع نحو حالة تستوفى عندها جميع القوى وسائل النمو والانبساط والظهور كاملة وافية بأقل ما يمكن من المقاومة والألم، هذا إذا تعذر الخلاص منها على الإطلاق.. وهل من تطور ونمو بلا عمل؟ لا جمود فى الخليقة حيث كل مخلوق، حتى لو اختفى وراء مظاهر الموت، يؤدى وظيفته ويتمم ما وجد لتتميمه، وكذلك كل خلية من خلايا الجسم تعمل لتؤدى وظيفتها.. غير أن ذلك العمل الآلى ليس ليغنى الفرد المفكر المريد الذى لا تكفيه الغاية العامة فى الكون إنما يعمل عملا خاصا إضافيا يتفق مع غايته المختارة تتمرن عليه مجهوداته ويمارس به قواه.

تلك السعادة التى يحلم بها لا بد أن يسعى إليها سعيا خصوصيا حثيثا أريبا فى تحينه وتشبعه وتنوعه، ومع ذلك ليست كل قيمة العمل فى أنه موصل إلى الغاية المقصودة، ولكن قيمته المعنوية الكبرى فى كونه آلة الاستقلال الفردى وخالق الاحتياج إلى الاعتماد على النفس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى