عن سريلانكا.. والعملية الإرهابية الأخيرة

سريلانكا دولة جزيرية، أي عبارة عن جزيرة يحيط بها الماء من كل الجهات، تقع في المحيط الهندي جنوب شرق الهند، وتبلغ مساحتها الصغيرة 65.6 ألف كم2، أي أكثر من مساحة شبه جزيرة سيناء المصرية بقليل، ويبلغ عدد سكانها 21 مليون نسمة، عدد المسلمين منهم حوالي 9.7%، وقد وصلها الإسلام عبر التجار، أما عدد المسيحيين فهو حوالي 7.4% ، وهم بالأساس كاثوليك مع أعداد من البروتستانت وأبناء طوائف أخرى، وقد انتشرت المسيحية عبر المبشرين الذي رافقوا المستعمرين الأوروبين بداية من البرتغاليين وانتهاءًا بالبريطانيين.. أما أكثر من 70% من الشعب فهم بوذيّون، وعليه فالبوذية هي التوجه الديني الأساسي هناك.

دارت في البلاد حرب أهلية شرسة لنحو ربع قرن، منذ 1983 وحتى 2009، وأدّت لمعاناة كبيرة للسكان والبيئة والأوضاع الاقتصادية، كما أسفرت عن مصرع عشرات الآلاف من المواطنين (من 40 إلى 100 ألف)، والحرب هي صراع عرقي، بين قومية التاميل التي شكلت مجموعات عسكرية عُرفت أشهرها باسم ” حركة نمور تحرير إيلام تاميل”، وبين الأغلبية السنهالية. وقد حارب التاميليّون من أجل الانفصال، وتكوين دولة في شمال وشرق البلاد، وتعود جذور الصراع إلى الحساسية الدائمة بين هاتين المجموعتين القوميتين، وهي حساسية اكتسبت زخمًا خلال الفترة الاستعمارية، وما ظهر أنه انحياز للتاميليين، أعقبه تضييق بعد رحيل الاستعمار.

وقد لعبت الهند (الدولة الكبيرة الجارة) دورًا مهمًا ومركبًا في الحرب، ففي البداية قدمت الدعم للمتمردين التاميل والمجموعات المختلفة التي شكلوها ومنها “نمور التاميل”، وشمل الدعم التدريب والسلاح والطعام للمحاصرين، كما ضغطت الهند على الحكومة السريلانكية بغرض تقديم تنازلات للتاميليين منها تعديلات في تشكيل المحافظات الشمالية والشرقية وإصدار قرار باعتبار التاميلية لغة رسمية، وحصل هذا بين عامي 1986/ 1987، وفي ذات الوقت تم توقيع اتفاقية بين الهند وسريلانكا، وقد تمت معارضتها من جانب القوميين السنهاليين السريلانكيين وبعض اليساريين، وبناء على الاتفاقية تدخلت الهند بقوات عسكرية في المناطق الشمالية تحت شعار حفظ السلام، وفرضت على الجماعات التاميلية ترك السلاح، وقد تواءمت العديد من تلك الجماعات مع ذلك، باستثناء “نمور التاميل” المتعصبين الذين استمروا في حمل السلاح والقتال، مما أدى إلى دخولهم في صدام مع الهنود داعميهم السابقين، وتطور الصدام بين حلفاء الأمس بشكل قوي، في الوقت نفسه استمر عدد من السنهاليين السيرلانكيين في رفضهم للوجود الهندي والتظاهر ضده، وحصل تطور كبير لدرجة تقديم الحكومة السيرلانكية السلاح للنمور بغرض الحرب ضد العدو المشترك أي القوات الهندية. وقد انتهى الأمر بانسحاب قوات حفظ السلام الهندية في عام 1990. ثم قام نمور التاميل لاحقًا باغتيال السياسي الهندي “راجيف غاندي” النجل الأكبر لأنديرا غاندي، وذلك في عام 1991، أثناء حملته الانتخابية، والسبب أن راجيف كان رئيس وزراء الهند بين خريف 1984 وحتى نهايات 1989، أي في وقت تدخل الهند في سريلانكا، وبالتالي كانت عملية الاغتيال انتقاماً تاميلياً مؤجلاً، كذلك خشية من أن ينجح “راجيف” ويعيد قوات حفظ السلام الهندية إلى سريلانكا مرة أخرى. وباغتيال راجيف توقفت الهند عن تقديم الدعم للنمور الذين استمروا في صراعهم مع الحكومة السريلانكية.

ولاشك أن جميع أطراف الصراع خلال تلك الحرب قد تورطوا في أعمال عنف، أما نوعية الأعمال التي تورطت فيها حركة “نمور التاميل”، فقد شملت مهاجمة حافلات وطائرات ومدنيين سنهاليين، إلى جانب مهاجمة معابد دينية، مع الوعي أن المحرك ليس دينياً وإنما صراع لتحقيق مصالح سياسية في الانفصال والانتقام من الحكومة التي كانت ترد بعنف، على سبيل المثال لا الحصر:

– هاجم “نمور التاميل” ضريحاً بوذياً في 14 مايو 1985 وقتلوا 146 رجلاً وامرأة بعد أن أطلقوا النار على الراهبات والرهبان والمدنيين الذين كانوا يعبدون هنا.

– كما ارتكبوا مذبحة أخرى في 2 يونيو 1987، ضد رهبان بوذيين، سميت مذبحة أرنثالا، وقتل فيها 33 شخصاً.

– وفي 3 أغسطس 1990، تم اتهاهمهم بمهاجمة أربعة مساجد، وإطلاق النار على المصلين، مما أدى لمقتل 147 شخصاً، كما هاجموا قرى مسلمة وقتلوا 172 وربما أكثر، خلال مذبحة بالياغوديلا، وحدث هذا في أكتوبر 1992.

– كما هاجموا معبد الأسنان البوذي في يناير 1998، ودمروا أجزاء كيرة منه، وأدت العملية لوفاة 17 شخصا.

على صعيد قريب، ربما تجدر الإشارة إلى حركة يسارية تحمل اسم “جبهة التحرير الشعبية JVP”، وهي حركة دخلت في صراع أيضًا مع الحكومة السريلانكية، وصنعت انتفاضتين مسلحتين الأولى في عام 1971، والثانية في أواخر عقد الثمانينات، واستغلت تلك الحركة في انتفاضتها الثانية المشاعر القومية السريلانكية الرافضة لتقديم الحكومة تنازلات لعرقية التاميل، وتوقيعها على اتفاقية مع الهند، وكانت من أبرز الأعمال المسلحة لتلك الحركة الهجوم بقنابل يدوية على البرلمان السريلانكي عام 1987، وكذلك الهجوم على معبد الأسنان عام 1989. والآن شكلت تلك الجبهة حزباً وتمارس العمل السياسي. وهي بعيدة عن أعمال العنف.

بالذهاب إلى العملية البشعة التي حصلت بتاريخ 21 إبريل 2019، وتمثلت في 8 انفجارات طالت عددا من الكنائس والفنادق والأماكن العامة، خلال احتفالات أسبوع الآلام وعيد الفصح، وتسببت في مقتل 290 شخصا بينهم أجانب (والرقم قابل للزيادة)، بخلاف مئات المصابين، فقد تكون تلك العملية من صناعة أي من تلك الجماعات التي تدخل في صراع مع الحكومة السريلانكية، كما لا يجب تجاهل نمو التشدد في بعض الأوساط البوذية بعد توقف الحرب الحكومية مع نمور التاميل في 2009، وتُتهم جماعات بوذية مثل بودو بالا سينا (Bodu Bala Sena : BBS)، والمعروفة باسم القوة البوذية، بالتسبب في حالة من التوترات الطائفية في سريلانكا، لكن هذه الجماعة تعتبر نفسها تقوم بدور قومي أكثر مما هو ديني يتمثل في “الدفاع عن هوية البلاد المهددة بسبب التمويلات التي تأتي لمراكز إسلامية وتدفع المسلمين نحو التسلّف والانغلاق وتكثير الإنجاب والتعدي على الآثار، أو بسبب عمليات التبشير التي تقوم بها مراكز ممولة غربيًا”. وبشكل عام فإن بعض المناطق السريلانكية التي تغيب عنها مقومات الحداثة تكون مهيأة بسهولة لاندلاع أحداث عنف طائفي، كما حصل بين مسلمين وبوذيين في عامي 2014 ببلدة دارجا و 2018 بمنطقة كاندي، لأسباب تبدأ عادية كمشاجرة عنيفة بين طرفين بسبب حادث مروري، لكن يُصادف أن كل طرف ينتمي لجماعة دينية مختلفة، فتتطور الأمور لاعتداءات مبتادلة على دور العبادة، وهجوم للغوغاء على المحلات التجارية والمنازل، وتحاول الحكومة التصدي لذلك بحسم عبر فرض حالة الطواريء وحظر وسال التواصل ونشر قوات الجيش، كما يحاول العقلاء من الطرفين التدخل وتشكيل حلقات من المتطوعين لحماية دور العبادة بالتبادل.

لكن من المهم أيضًا التنبيه إلى أن التفجيرات الأخيرة ضد المسيحيين في سريلانكا قد يكون (وهو الاحتمال الراجح) خلفها تنظيمات سلفية جهادية، قاعديّة كانت أو داعشية، مرتبطة بتلك التنظيمات التي كانت تخرب وتدمّر في الوطن العربي طوال الأعوام الماضية وبدعم وتسهيل غربي. ومن المعلوم أن هناك مخططاً لنقل كثير من نشاط تلك الجماعات إلى دول آسيوية.

والحقيقة أن تاريخ سريلانكا لا يشير إلى رصيد كبير من الجماعات الدينية المسلحة، لكن هناك تقارير ترصد تلك الروابط بين التنظيمات المتطرفة القوية في الهند وتشكيلات أصغر مشابهة في سريلانكا، وكانت السلطات قد نبهت في عام 2016 إلى أن عدد من المسلمين (حوالي 32) قد غادروا البلاد للانضمام إلى تنظيم داعش.

ومن وقت قريب تحدثت الشرطة السريلانكية عن نشاط تخريبي متوقع لـ”جماعة التوحيد الوطني NTJ “، وهي جماعة سلفية وهابية متطرفة، تشكلت عام 2014 في كاتانكودي، وهي بلدة ذات أغلبية مسلمة في شرق سريلانكا، وقد ارتكبت تلك الجماعة عدداً من التعديّات العام الماضي كان أبرزها تخريب تماثيل بوذية، كما يؤيد أحد زعمائها المتطرفين وهو “زهران هاشم” تنظيم داعش، وإليه تتوجه أصابع الاتهام بالضلوع في العملية الأخيرة. ويتشابه اسم تلك الجماعة مع واحدة أخرى سلفية تحمل اسم “جماعة التوحيد في سير-لانكا SLTJ”، كانت قد تظاهرت في السابق رفضًا لقوانين تمنع زواج القاصرات، واحتجاجًا على تغيير الحد الأدنى لسن زواج الفتيات والمقرر سابقًا بـ 12 عامًا، فيما اعتبروه أمر مخالف للشريعة !، وكان المتحدث باسمها، ويُدعى عبد الرازق، قد أثار ضجة، حين هاجم أكثر من مرة المعتقدات البوذية والرهبان البوذيين، واضطرت السلطات إلى إلقاء القبض عليه، بعد تقديم بلاغات ضده، وتهديد بعض الجماعات البوذية بإشاعة الفوضى انتقامًا من استهزائه الدائم بهم.. لكن السلطات عادت وأفرجت عنه لاحقًا بعد تعهد بعدم الإساءة.

كما كانت الشرطة السريلانكية قد أعلنت في كانون الثاني/يناير 2019 عن اعتقال أربعة رجال من مجموعة إسلامية تكونت حديثا، وضبطت مجموعة من المتفجرات لديهم.

وأيًا ما كانت النتيجة التي ستنتهي إليها التحقيقات حول تلك العملية الإرهابية الأخيرة، فإنه ما من شك أن قارة آسيا (جنوبًا وشمالًا) ستتحول إلى بؤرة اهتمام قوية، وتصعيد بالأحداث، والسبب بالتأكيد مخططات تستهدف هذا الشيء، وتوظيف الحركات السلفية المتطرفة هناك كجزء من تلك المخططات، ولا يجب أن نتجاهل موقع سريلانكا الاستراتيجي بالنسبة لدولة الهند والمحيط الهندي وخليج البنغال ودول جنوب شرق آسيا جميعها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى