من الخطأ توهم أن علاقة عمر البشير بالإخونج قد انقطعت تمامًا في نهاية التسعينيات حين اختلف مع “حسن الترابي” المهندس الفكري للنظام وشريكه في انقلاب 1989، كما من الخطأ أيضًا عدم فهم ملابسات تلك العلاقة.
الصحيح أن حسن الترابي هو زعيم الإسلامويين بالسودان، وشيخهم وقطبهم وخطيبهم المفوّه، وقد جرّ خلفه الكثيرين حين أسس المؤتمر الشعبي المعارض في 1999، وفتح علاقات مع المتمردين في الجنوب ودارفور للانتقام، لكن ثمة إخونج آخرين أُطلق عليهم (جناح القصر) ظلوا جزءًا رئيسيًا في نظام عمر البشير، وهؤلاء بدورهم انقسموا إلى جزئين: الأول، ظل يحافظ على علاقات ودية مع الترابي، والثاني، أخذ موقف الخصومة الشرسة تجاه الترابي، والفريق الأخير تزعمه “علي عثمان طه”، وهو قيادي إخواني، دعم الإطاحة بالترابي لصالح البشير في 1999، وورث زعامة الحركة الإسلامية مكانه (اعتبر الإخوان الترابيّون تلك الحركة لاحقًا أداة في يد السلطة، وأطلقوا حملة لتلطيخ سمعتها، ونفي إسلاميتها، في تصرف شبيه بما حصل مع حزب النور في مصر)، كما كان “طه” نائبًا، بدرجات مختلفة، للرئيس عمر البشير من 1998 وحتى 2013.
ووجود “طه” وأمثاله يعتبر دليلا على الوجود الإخونجي بنظام البشير ما بعد 99 (أيًا ما كانت الصراعات الداخليّة بين أتباع حسن البنا)، وهناك كذلك مرجعيّات البشير الفكرية ذاتها وهي كلها إسلام سياسي، وهناك أيضًا علاقاته بقطر لفترات طويلة، والدعم المالي الذي قدمته الدوحة للخرطوم تحديدا بالفترة من 2007 وحتى 2012.. كما أن الترابي، ورغم تعرضه للسجن مرارًا خلال هذه السنوات إلا أن الأمر لم يكن خاليًا من فترات قرب.
بعد الإطاحة بحكم الإخونج في مصر في 30 يونيو 2013، وبعد رؤية انكسار مشروعهم بعدد من الأقطار العربية، ومع ابتعاد “طه” خصم الترابي واستقالته، وفي ظل احتجاجات متنامية واجهها البشير.. طفا على السطح السوداني خطاب ينادي بضرورة الاتحاد ونسيان الخلافات خوفًا على المشروع الإخونجي (الإسلامي، بزعمهم). وعليه حصل تقارب بين الترابي والبشير، وتم الإعلان عمّا سمي بـ”الحوار الوطني”، وجلس المؤتمر الشعبي إلى جوار المؤتمر الوطني الحاكم، وانبثق عن الحوار حكومة حملت اسم الوفاق الوطني في 2017 بقيادة “بكري حسن صالح”.. وحاز المؤتمر الشعبي الإخواني فيها على ثلاثة حقائب وزارية بالحكومة، إضافة لتمثيله في مؤسسة الرئاسة من خلال ” إبراهيم السنوسي ” الذي صار في مايو 2017 مساعدًا لرئيس الجمهورية، والسنوسي هو رئيس مجلس شورى المؤتمر الشعبي الآن، وكان أمينه العام منذ وفاة الترابي في مارس 2016 ولمدة عام (نكرر مساعد رئيس السوداني الآن هو قيادي في المؤتمر الشعبي الإخواني، وكان أمينًا عامًا له).
تعتبر الفترة من 2014 وحتى 2017/2018، ورغم التقلبات التي صاحبت وفاة الترابي الذي كان يدعم التصالح، ويريد للسودان أن تكون ملجأ للإخوان الفارّين من مصر أو غيرها.. فترة تفاهم وتنسيق.
لكن الأمور من جهة تتغير، ومن جهة أخرى يحاول تنظيم الإخوان دائمًا القذف بسهام مختلفة بأكثر من محلّ.. وعلى هذا فقد قام “علي الحاج محمد” –أمين عام المؤتمر الشعبي منذ مارس 2017، والوزير السابق بالتسعينيات، والوزير أيضًا قبل انقلاب 89— بشن هجوم قاسي على النظام والبشير، في أغسطس 2018 ، واتهمه بالفساد والاستبداد والتخريب وعرقلة تطور البلد، معتبرًا أن الخطر على السودان هو من النظام وليس من الحركات المسلحة أو الانفصالية!، وهو بهذا يعود للغة القديمة ما قبل 2014، وقد تم تفسير هذا التصعيد باعتباره تَحسس من تغيير حكومي متوقع (حصل لاحقًا بالفعل)، وكذلك رفضًا لقوانين انتخابية ستسمح للبشير بالاستمرار مدة أطول في الحكم والترشح في انتخابات الرئاسة 2020، وهو ما يرفضه المؤتمر الشعبي بجديّة، كما ترفضه قوى معارضة أخرى كحزب الأمة بقيادة الصادق المهدي وأحزاب قوى الإجماع الوطني، وتعتبره انتهاكًا للدستور المُعدّل الذي لا يسمح بالترشح أكثر من مدتين وقد استنفذهما البشير في 2010 و2015، وقد أسست قوى “نداء السودان” المعارضة حملة باسم “كفاكم” على غِرار كفاية المصرية 2004، وحركة كمارا الجورجية 2003 التي تعني بالعربية (كفى) وكانت مرتبطة بحركة أوتبور الصربية ومؤسسات جورج سورس و”اليو إس آيد”..، لكن ثمة تفسير جدير بالاعتبار يُرجع التصعيد من جانب المؤتمر الشعبي الإخواني إلى سياسات البشير التي كانت قد بدأت تبتعد بدرجة ما عن المحور القطري التركي، وتتعاطى بالإيجاب مع مصر ووصلت إلى حد زيارة سورية في ديسمبر 2018 بالتفاهم مع السعودية، كما أن البشير لم يأخذ صفّ قطر بالشكل القاطع أو الكامل عندما وقعت الأزمة بينها من جهة، وبين السعودية والإمارات من جهة أخرى (وهذا كان اختبار حاسم في صيف 2017، وحاول فيه البشير يمسك العصا من المنتصف، ويرفع شعار الوساطة وتقريب وجهات النظر.. لكنه مال إلى الرياض)، وقد تحدث “علي حاج محمد” صراحة —وبرفض طبعًا— عن أن وعود مالية خليجية قادمة للسودان في مقابل التخلي عنهم أي “المؤتمر الشعبي/الإسلام السياسي”، أما آخرون فقد فسّروا ابتعاد البشير أساسًا عن محور قطر على أنه بغرض نيل الدعم من المحور الآخر للبقاء مستقرًا بالحكم رغم أنف معارضيه الذين يفترض أنهم مدعومين من قطر.. على أية حال فإن الصراع داخل السودان بين هاتين الجهتين ليس مفصولًا عن الأوضاع خارج حدود السودان.
في سبتمبر 2018 أجرى عمر البشير تعديلا وزاريًا على خلفية الاحتجاجات المستمرة منذ مطلع العام ضد الجوع والفقر وارتفاع أسعار السلع أو اختفاءها وفشل النظام على مدار 3 عقود في إدارة البلاد، وتم تقليل عدد الوزارات، وتولى رئاسة الحكومة “معتز موسى”، وهو رجل بخلفية إسلامية، لكن هذا لم يمنع “كمال عمر عبد السلام” القيادي بحزب المؤتمر الشعبي من اعتبار التشكيل الوزاري الجديد تشييعًا لوثيقة الحوار الوطني إلى مثواها الأخير، واصفًا الأمر بالمحبط! (تجدر الإشارة إلى أنه بسبب الاضطرابات، فقد تم تغيير موسى، وتولى “محمد طاهر إيلا” رئاسة وزراء السودان في فبراير 2019).
في سياق الاحتجاجات الدائرة فالمؤتمر الشعبي من جهته يحاول الإمساك بكل الحبال في يديه، فمن جهة هو جزء من الحكومة وموجود بقصر الرئاسة ذاته عبر “إبراهيم السنوسي” مساعد الرئيس، ومن جهة أخرى يدين قتل المحتجين، ويروّج لخطاب معارض، ويرفض المسيرات الأخيرة الداعمة للبشير، ويطالب الأمن بعدم استخدام العنف، ويعتبر أن التظاهرات مشروعة ضد سنوات من سوء الإدارة والفشل والفساد وغياب المحاسبة!!، ويحاول أن يحجز مكاسبه أيًا ما كانت النتائج، فقد يخضع البشير للمطلب المتعلق بعدم الترشح في 2020 فيتقدم هو للمنصب أو يعدّل من الحكومة لتكون في قبضته والأهم سياساته تجاه قطر، أما في حالة تمت الإطاحة الفورية بالبشير، فالحزب، باعتباره كان يدين ويعارض، سيحجز موقعه في سلطة البلاد أو ما سيتبقى منها !!.