الحراك الشعبي الجزائري ومرحلة ما بعد بوتفليقة

يشهد الشارع الجزائري، بوصفه الفاعل الجديد في المشهد السياسي ، منذ ما يقارب عن شهرٍ حراكًا اجتماعيًا كبيرًا، ضد ترشيح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولاية خامسة،بعدأن فقدثقته في السلطة والمعارضة  في آن معًا، بل في جدوى الفعل السياسي ، منذ انتهاء الحرب الأهلية المدمرة التي عاشتها الجزائر منذ بداية عقد التسعينيات من القرن العشرين، ولغاية بداية الألفيةالجديدة،والتي راح ضحيتها أكثر من 200ألف قتيل.

خصائص هذا الحراك الشعبي الجزائري

لا تختلف هذه المسيرات الشعبية التي انطلقت في العاصمة الجزائرية ،وفي عديد المدن الجزائرية الأخرى عن الاحتجاجات الشعبية الكبيرة التي عرفتها البلدان العربية،وفي مقدمتها الانتفاضة التونسية في نهاية سنة 2010،ولغاية 14كانون الثاني/يناير2011،ضدفجور الأنظمة،وظاهرة الفساد التي نخرت مقومات الدول العربية ومرافقها،وعوّقت ولا تزال حركة التغيير،إعادة بناء الدول الوطنية على أسس ديمقراطية سليمة.

بداية لا بد من التمييزبين مفهوم “الحرية” ومفهوم”الديمقراطية”،فالأول متعلق ب”الطبيعية”الإنسانية،التي انتزعتها الأنظمة السياسية العربية عن المواطنين العرب.أمّا الثاني، فهو مؤسسي،يختبر قدرة المجتمعات العربية والمعارضات على اختلاف مرجعياتها الفكرية والسياسية  على تأسيس الدولة الديمقراطية التعددية.فالديمقراطية هي نظام حكم يقوم على المؤسسات والحكم الدستوري والانتخابات وتداول السلطة والتعددية السياسية وحرّية التعبير، وكل واحدة من هذه الأسس بحاجة إلى ثقافة اجتماعية ناضجة من أجل أن تجد لها تطبيقًا صحيحًا،وحتى لو توافرت تلك الثقافة،فإنّ الديمقراطية لا تعني أبدًا نهاية كل المشاكل والتعقيدات التي حفلت بها البلدان العربية طيلة العقود الخمسة الماضية ،بل إن مشكلة مثل الفساد قد تشهد تفاقمًا أوما يبدو أنه تفاقم في المراحل الأولى من التحول الديمقراطي الذي شهدته تونس على سبيل المثال.

أمّا الحراك الاجتماعي الجزائري الجديد، فهو يتسم  بالخصائص التالية:

أولاً: لقد جاء هذا الحراك الاجتماعي والسياسي عقب ما بات يعرف بالعشرية السوداء أوالأزمة الكبيرة التي مرّت بها الجزائر في عقد التسعينيات،وعقب أيضًا عقدين من الهدوء من جرّاء انغلاق المجال السياسي،وعدم إفساح السلطات الجزائرية في المجال للمجتمع كي ينتج السياسة في صلبه.فقد اعتمدت قيادة الدولة الجزائرية استراتيجية شراء السلم الاجتماعية من أجل المحافظة على استقرارالنظام السياسي القائم ،لا سيما أن الجزائريين في أكثريتهم ،لا يرغبون بعد تجربة الحرب الأهلية التي اشتعلت منذ سنة 1992 إلى سنة 2002،والتداعيات الكارثية التي حصلت في بلدان “الربيع العربي “منذ سنة 2011،في المخاطرة بما يمكن أن يعرِّض الاستقرارالسياسي والأمني في البلاد مرّة أخرى للخطر. .وهذا الاعتقاد أصبح إحدى سمات الوعي العام للمجتمع على اختلاف فئاته،وتعمق أكثر نتيجة الظروف التي جرت فيها الانتخابات التشريعية في كافة محطاتها لسنة 2012،ولسنة 2017،والانتخابات الرئاسية سنة 2014 التي كرست الموقف القائل إنّ الانتخابات التي يتم تنظيمها بشكل دوري لا يمكن أن تقود إلى التغييروالتداول السلمي للسلطة،إلا إذا توافرت الإرادة السياسية من داخل النظام السياسي نفسه،من أجل إرساء حالة قانونية وإدارية تضمن تنظيم انتخابات حرّة ونزيهة موصلة إلى تحقيق التداول السلمي على السلطة ،وتجنب الجزائر مخاطر الانزلاق في مسالك التغيير بالعنف الذي لا يؤدي إلى التغيير وإقامة نظام ديمقراطي، بل يساعد على تجميد الانفتاح السياسي وتفريخ تيارات العنف السياسي على اختلاف منابعها الأيديولوجية وارتباطاتها الخارجية،ومنها التيارات الجهادية والانفصالية.

ثانيًا:في ظل هذا الوعي الجمعي الجزائري الواعي جيدًّا بالمخاطر السابقة،اتسم الشارع الجزائري في حراكه الشعبي الجديد بالطابع السلمي والحضاري،وبرفضه سياسات الاحتواء من جانب أحزاب المعارضة،إِذْ رفضت جموع المتظاهرين انضمام الأحزاب إلى المسيرات، كما رفضوا دعوات المعارضة إلى الاصطفاف ضمن شعاراتٍ ترفعها تلك المعارضة. فالشعب الجزائري أصبح واعيًا لطبيعة المعارضة،التي طالبت الجيش الجزائري في بداية خريف سنة 2017بالتدخل لإنقاض الديمقراطية المتعثرة في الجزائر،متناقضة مع مضمون الديمقراطية عينها،لأن المعارضة الديمقراطية الحقيقية والتي تمتلك مشروعًا سياسيًا للتغيير الديمقراطي،لا تستنجد بالجيش من أجل هزيمة خصمها،المتمثل في نظام الرئيس بوتفليقة،وإنما تقوم بتعبئة الشعب الجزائري بكل قواه الديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني ،من أجل خوض معركة تغيير النظام،عبر الفوز في صناديق الاقتراع الانتخابية ،سواء الرئاسية أوالبرلمانية.

وتبدومعركة المعارضة الجزائرية عبرا لاستقواء بالجيش لعزل بوتفليقة معركة خاسرة، لأنّها تعبر عن عجزها السياسي وفشلها التاريخي في أن تكون قوة ندِّيَةٍ للسلطة الحاكمة، أولاً،ولأنَّ الجيش لا يستطيع أن يكون أداة بيد المعارضة الفاشلة لخوض معاركها السياسية من أجل عزل بوتفليقة،ثم يعود إلى العسكرية،بل لديه أيضًا طموحاته السلطوية ثانيًا.

لهذه الأسباب مجتمعة،استعاد الشعب الجزائري إدارته للفعل السياسي بكل حرّية،بعيدًا عن سياسة الاحتواء،وأصبح يخوض الصراع الديمقراطي بشكل مباشرمع النظام السياسي والطبقة السياسية الحاكمة،كما تنصّ على ذلك القوانين،ومنها الدستور،حين رفع الشعار المركزي الجامع لكل طبقات وفئات المجتمع الجزائري،وهوعدم التجديد لولاية خامسة للرئيس عبدالعزيزبوتفليقة،وضرورة إدخال تغييراتٍ عميقة على النظام السياسي،وهو ما استدعى توصيف ما حدث بأنه عودة إلى تاريخ الجزائربرمّتها.

ثالثًا: رغم أنّ السلطة والمعارضة في الجزائر خسرتا معركة المصداقية بمناسبة الانتخابات الرئاسية التي كانت ستجرى في نيسان/أبريل المقبل،فإنّ السؤال القديم-الجديد الذي  ظل يفرض نفسه،ويطرحه المحللون باستمرار،حين يطفوعلى المشهد السياسي في أي بلد عربي،حراك اجتماعي وسياسي كبير،هل يمتلك المقومات الحقيقية للبديل للنظام القائم ،المتمثل في عناصره الأساسية الثلاثة :المرجعية الفكرية والسياسية ،والكاريزما القيادية ،والمشروع الوطني الديمقراطي الجامع.

بالنسبة للمرجعية الفكرية والسياسية ،لا تشذ الجزائر عن باقي البلدان العربية، التي تعيش حالة من التصحر الفكري والثقافي والسياسي،وبالرغم من أن ما يميزهذا الحراك الاجتماعي والسياسي الجديد هوالتعدد والتنوع والاختلاف،إذ لا يمكن تصنيفه وفق المقولات الإيديولوجية التقليدية، فهو لا يعبرعن شريحة اجتماعية أو فئة اجتماعية أو طبقة اجتماعية،فإنّ هذا الحراك الشعبي الكبير يفتقد إلى المرجعية الفكرية والثقافية والسياسية،وبالتالي فهوغير قادرٍ على أنْ يُحْدِثَ تَغْيِيرًا رَادِيكَالِيًا في البنى والعلاقات الاجتماعية- الاقتصادية الجزائرية القائمة،وهو مايترافق مع تغيير جذري لعلاقات السلطة وتركيبها الطبقي المناسب لنوع العلاقات الاجتماعية السائدة..

التغيير الثوري في بلد كبير مثل الجزائر له ثروات كبيرة،ويحتل موقعًا جيبوليتيكيًا مهمًا في خارطة المنطقة المغاربية والعربيىة والإفريقية،ليست حالة مشهدية،جموعية،يحتشد في نطاقها الناس(«الجماهير»)ليمارسوا-بالمظاهرات الاحتجاجية السلمية – عملية تغيير للطبقة السياسية الحاكمة، وإسقاط النظام السياسي.وبالتالي فالحراك الاجتماعي والسياسي الآن،الذي يُعَدُّ عُصْيَانًا مدنيًا نظرًا لطبيعة الحركة الاحتجاجية التي انطلقت من مختلف المدن الجزائرية ، واحتكرت الشارع والفضاء العام ،وتجاوزت النخب وكل الأحزاب المعارضة على اختلاف مرجعياتها الإيديولوجية،وإنْ مُنحت له فرصة لعب دور في عملية التغيير،فلن يتمكّن من القيام بدوره كاملاً بسبب فقدانه المرجعيات التي توجّهه، وتضع له خطة طريق سيرًا نحوالتغيير.ولم تكن لهذا الحراك أيضًا قيادة ثورية،ووعي سياسي ناضج،وإذا حكمنا على وهذه الحركة الاجتماعية الكبيرة،انطلاقًا من الأهداف التي صيغت في قالب شعارات،من قبيل” إسقاط النظام” ،فلن يكون الحكم عليها في صالحها قطعًا،فليس كلَّ مايُرِيدُ المرْءُ يُدْرِكُهُ لوجود،الفجوة  الموضوعية بين الرغبات والشعارات المطروحة ووسائط القوة لتحقيقها،بين الينبغيات واليقينيات،أواختصارًا-لامتناع ميزان القوى المناسب.هذه واحدة،الثانية أنّ أهدافًا كبرى مثل الديمقراطية،والعدالة الاجتماعية،لا تكفي الإرادة- والرغبة فيها- كي تتحقق،حتى وإِنْ أسْعَفَتْ موارد القوة( وميزان القوى بذلك)،فهي-مثل سواها من الأهداف الثورية الكبرى التي عرفها التاريخ البشري في القرنين الثامن عشروالتاسع عشر،وفي ثورات القرن العشرين ،تتوقف على وجود الشروط التحتية ،وليس في جوف البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الجزائرية ،ما يُفْصِحُ عن علائمها،حتى وإن كانت الجزائر تتميز بوجود طبقة متوسطة قادرة أن تَلْعَبَ دور الحامل الاجتماعي لأي تغيير ديمقراطي مستقبلي .

وكان لغياب مثل هذه الشروط الموضوعية ،بهذه الدرجة أو تلك في المجتمع الجزائري،الذي قامت فيه حركة اجتماعية قوية مؤخرًا،من النوع الذي نشأت فيه في سنوات “الربيع العربي”،لم تتهيأ لها شروطها الذاتية، مثل القوى السياسية الثورية المؤهلة لتنظيمها،وقيادتها،وكذلك الوعي السياسي الناضج والمطابق لشروط الواقع المحلي والإقليمي والدولي،تُحَوِّلُ مفهوم التغيير بالمعنى التاريخي في الجزائر،لِيُصْبِحَ ثورة مواطنة مبادئها التخلص من كل أشكال الاستبداد الرئاسي والمحافظة على العقد الجمهوري، وأهدافها التأسيس لأركان مجتمع جديد يُوَفِّرُ شروط المشاركة الديمقراطية والتداول على السلطة والتنمية الشاملة المتوازنة عبر آليات التنمية المحلية والعدالة الانتقالية لتوفير شروط الإنصاف ومقاومة الفساد بكل أشكاله والعمل على اجتثاث أسبابه.

من المحاذيرالفكرية والسياسية التي يَجِبُ تَجَنُّبِهَا في تقييمنا الموضوعي للحراك الشعبي الجزائري،المحذورالأول،ويتمثل في التبجيل والتبريرالذي يتراءى لأصحابه مشهد الحراك مشهدًا،انتصاريًا،ورديًا،حتى وإن تخللته بعض المعوقات التي أجهضت مسيرته،هناوهناك.والمحذورالثاني،التحبيط والتأييس والتخذيل،الذي لا يرى أصحابه في مشهدالحراك الجزائري و”الربيع العربي”عمومًا،سوى مؤامرة خارجية مبيتة لمجتمعاتٍ ودولٍ، لتدميرها وتقسيمها مجددًا،وهذا هوحال القوميين العرب،وبعض اليساريين الكلاسيكيين، والسياسيين المناهضين لحركات الإسلام السياسي .

هل الجزائر ضحية عبدالعزيز بوتفليقة… أم ضحية الجمود؟

بلغ الرئيس الجزائري،الذي فاز في الانتخابات الرئاسية التي جرت في 17نيسان/أبريل 2014، على الرغم من عجزه عن الكلام أو الوقوف على رجليه،السابعة والسبعين من العمر في الثاني من 2مارس2014.وحين انطلق  الحراك الشعبي في الجزائر منذ شهر ضد ترشح الرئيس بوتفليقة لولاية خامسة،كان الرئيس الجزائري موجودًا في سويسرا للعلاج.فالرجل في 81من عمره ووضعه الصحي تدهور منذ أن تعرض لأول أزمة صحية  سببها قرحة في المعدة في عام 2005،وذهب للعلاج في فرنسا،ثم بسبب الجلطة الدماغية التي تعرض لها الرئيس في شهر نيسان/أبريل 2013،حيث تسبب غياب الرئيس الذي عاد إلى الجزائر بعد 80 يوماً من العلاج في مستشفى «فال دو غراس»العسكري ثم مؤسسة «انفاليد» المتخصصة في فرنسا،إلى تفجر الصراع  داخل المؤسسة العسكرية دفع ثمنه قادة بارزون في جهازالاستخبارات،على رأسهم قائده الجنرال محمد مدين توفيق.

ومنذ فترة لم يعد يستقبل الرئيس بوتفليقة الزوارالرسميين الأجانب لتدهوروضعه الصحي. والذين التقوه منذ حوالى ثلاث سنوات يروون أنهم لم يتمكنوا من فهم ما يقول. فكيف يمكن أن ينتخب الجزائريون رئيساً لا يرونه إلا عبر صوره ورسائل تنشر باسمه،علماً أنّ عقله ما زال صائباً بحسب المتابعين.هل يعقل أن بلداً مثل الجزائر حيث عدد السكان أكثر من 42 مليوناً و50 في المئة منهم في سن العشرين لم يقدم لهم منذ نشأتهم إلا بوتفليقة.

و الحال هذه،أدخل بوتفليقة عبارة جديدة في قاموس الحياة السياسية. هناك حكم غيابي تصدره المحاكم.وهناك مذكّرة توقيف غيابية تصدرعن السلطات المختصة بحقّ شخص ما خالف القانون.في حال بوتفليقة، صار هناك المرشّح الذي يخوض الانتخابات عبر آخرين يتحدثون باسمه ويشرحون سياساته ويقدّمون الوعود الى الناخبين…فيما هو غائب.إنّه الحاكم الحاضر- الغائب في الوقت ذاته! ليس صحيحاً أنّ الجزائرلا تمتلك رجال دولة وسياسيين قادرين على القيام بالنقلة النوعية المطلوبة التي تخرج البلد من حال الجمود التي تعاني منها. مثل هذا الجمود يهدّد بلداً على شعبه انتخاب رئيس للجمهورية ليس قادراً على قول جملة مفيدة منذ الجلطة الدماغية التي تعرّض لها والتي جعلته يبقى في فرنسا طوال ثمانين يوماً…

تعيش الجزائر في خضم تموجات ما بات يعرف ب”الربيع العربي” و تداعياته الخطيرة على صعيد إسقاط النظم العربية في عدد من البلدان العربية، وعجز الحركات الإسلامية التي استلمت السلطة عن بناء السلطة الديمقراطية البديلة،ما جعل حتى الشعوب العربية تعيش حالة من الارتباك السياسي و الحيرة من الإسقاطات المدمرة لثوراتها.وهذا الوضع هو ما يدفع الآن بالعديد من الأحزاب السياسية في الجزائر،لا سيما الأحزاب المشاركة بالسلطة ،إضافة إلى المؤسسة العسكرية إلى التمسك ببقاء الرئيس بوتفليقة المريض في الحكم ،خوفاًمن حدوث فراغ كبير يؤدي إلى تفجير الوضع في الجزائر،في ظل تنامي الإرهاب في معظم الوطن العربي، ووجود استراتيجية أمريكية-صهيونية-خليجية تستهدف تفكيك الدول الوطنية الكبيرة، لا سيما في كل من العراق وسورية،والجزائر أيضا .

لهذا باتت مراكز القوى داخل النظام السياسي الجزائري هي التي  تحكم منذ مرض بوتفليقة،وتراجع قدراته الصحية في صورة ملحوظة منذ خمس سنوات، ولكن الرئيس المريض بقي في الواجهة،لأنّه لا يزال يمثل حصيلة مجموعةٍ من المصالح ومراكزالقوى.فقد شهدت الطبقة السياسية الجزائرية انقسامًا واضحًا بشأن ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بين مؤيدين  لولاية خامسة للرئيس ومعارضين لها.ولم يعد سرًّا أنّ هناك مجموعة معيّنة مرتبطة ببوتفليقة تخشى خروجه من المرادية، أي قصر الرئاسة.ارتكبت هذه المجموعة مخالفات وهي تخشى بكلّ بساطة الملاحقة القانونية وربّما الانتقام السياسي.الأكيد أنّ ذلك لا يبرّر بأي شكل التمديد لبوتفليقة عبر استخدام أجهزة الدولة لانتخابه لولاية خامسة في بلد لم يستطع تطوير اقتصاده أو مؤسسات الدولة على الرغم من التجارب الدموية التي مرّ بها منذ تشرين الأول- أكتوبر العام 1988 تاريخ بداية الثورة الشعبية التي ما لبثت أن صارت تمرّدًا مسلحاً شارك فيه إسلاميون لجأوا إلى الإرهاب لضرب مؤسسات الدولة.

من المعروف في التاريخ السياسي المعاصر في الجزائر أنّ الجيش هو الذي يصنع الرؤساء في الجزائر لا صناديق الاقتراع ،وهو دائما يلعب دورًاأساسًافي تعيين أوإقالة الرؤساء،إذ تعتبر المؤسسة العسكرية الجزائرية أنّها الحامية الوحيدة لقوانين الجمهورية،إذ لم تشهد أي انقسام في صفوفها مطلقًا في خلال أخطرالأزمات،على غرار المؤسسة العسكرية  التركية التي كانت تعتبر نفسها الحامية الوحيدة للعلمانية.

فالرئيس بوتفليقة الذي وصل إلى رئاسة الدولة في أكتوبر سنة 1999 بوساطة العسكر – الانتخابات الشعبية كانت شكلية – بدأ منذ الأسابيع الأولى لتوليه رئاسة الجزائر في فتح بعض الملفات المقفلة التي طال انتظارفتحها. فكانت تجربة التعايش بين الرئيس الجديد و”المقررين” داخل الجيش،يشوبها التوتر،بسبب تنازع الصلاحيات، فترة ولايته الأولى بين عامي 1999 و2004. بيد أنه منذ إعادة انتخاب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة  في 8أبريل/نيسان  2004بنسبة 84.9%، وحصوله على”الشرعية الشعبية”، دقت ساعة أفول المؤسسة العسكرية كصانعة للرؤساء في الجزائر.وتحرر الرئيس بوتفليقة و معه الفريق الذي يعمل معه لاسيما يزيد زهروني وزير الداخلية السابق والرجل الثاني في المخابرات الجزائرية  لفترة طويلة، من وصاية الجيش على مؤسسة الرئاسة،وقررأن يكون الرجل القوي في الولاية الرئاسية الثانية  عبر إمساكه بيديه القرار في الجزائر، وإعادة صياغة الحياة السياسية في هذا البلد عبر تغيير المعادلات والموازين في القوى السياسية، بما يدعم مؤسسة الرئاسة على حساب المؤسسة العسكرية.

وكانت أولى مفاجآت نتائج الاستحقاق الانتخابي في الجزائرتقديم الفريق محمد العماري رئيس أركان الجيش الجزائري  يوم الإثنين 3آب 2004استقالته رسميًا “لأسباب صحية”،إلى الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة،الذي يتولى حقيبة الدفاع أيضا في الحكومة الجزائرية.وجاء في إعلان بيان الرئاسة الجزائرية أن الرئيس قَبِل الاستقالة، وعيّن قائد القوات البرية اللواء صلاح قايد أحمد قائد خلفا له، الذي يشغل الآن رئيس هيئة الأركان في الجيش الجزائري.. و كان الفريق محمد العماري ينتمي إلى مجموعة ( الجانفيريست-الينايريين)، أي مجموعة الضباط الكبار في الجيش الجزائري الذين أرغموا الرئيس السابق الشاذلي بن جديد على الاستقالة عقب الفوز الكاسح للجبهة الإسلامية للإنقاذ في الدورة الأولى من الانتخابات التشريعة في نهاية عام 1991،وإلغاء تلك الانتخابات أصلا مع بداية عام 1992، تحت حجة “حماية النظام الجمهوري” من الانهيار،ومنع تسليم السلطة في الجزائر إلى الإسلاميين.

وبعد أن رحل محمد العماري في صيف عام 2004، كما حصل لرفيقه من “حزب فرنسا” الفريق خالد نزار من قبل،جاء دور الجنرال  العربي بلخير الذي كان يشغل مدير ديوان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ،إذ عينه بوتفليقة آنذاك سفيرًا مفوضًا فوق العادة،بالمغرب.وبعد رحيل الجنرال العربي بلخير،طرح  المحللون  السياسيون في الوطن العربي السؤالين التاليين:هل ربح بوتفليقة معركته مع المؤسسة العسكرية؟ وهل دخلت الجزائر مرحلة جديدة يسيطر فيها الساسة المدنيون على القرار السياسي فيها  بعد 42عاما من احتكارالجيش له؟

لقد أصبح الرئيس بوتفليقة مسيطرًا بصورة كلية على المؤسسة العسكرية، وعلى إدارة السياسة الخارجية، وحتى المتحكم في توزيع الريوع النفطية، لكن هذا قد تم في إطار التسوية التاريخية مع المؤسسة العسكرية، التي تضمن لها بقاء امتيازاتها الاقتصادية والسياسية،وحتى القضائية ، التى استمدت روحها من القوانين التي سنّها بوتفليقة للخروج بالجزائر من الحرب الأهلية الدامية التي تعرف في الذاكرة الوطنية بالعشرية السوداء.

ثم استكمل الرئيس بوتفليقة دائرة السيطرة على المؤسسة الأمنية،من خلال إقالة الجنرال توفيق مدين الرجل القوي في الجزائر(76سنة) في شهر سبتمبر/أيلول  2015،وهوالذي استلم رئاسة  جهاز المخابرات العسكرية منذ 1990،وتعيين مكانه اللواء بشير طرطاق،وهو مستشارالرئيس للشؤون الأمنية على رأس المخابرات،تُعَّبِدُ الطريق بصورة جذرية أمام الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة والمقربين منه من أجل تنطيم خلافته بعد سيطرتهم بشكل كامل على الجيش والمخابرات.ويمكن القول إنّ إقالة الجنرال توفيق لم تكن قرارًاإرتجاليًا، بل إنّها تدخل في سياق التغييرات الأخيرة التي شهدتها وتشهدها المؤسسة العسكرية ، والتي تؤكد أمرين: الأول أنه أصبح لرئاسة الجمهورية اليد الطولى على كل مؤسسات الدولة، وأصبح الرئيس بوتفليقة طليق اليد لينفذ السياسة التي يرتئيها للبلاد ، والثاني أنه سيتم تسريع خلافة الرئيس ،من دون أن يعني ذلك أن الرئيس بوتفليقة يرشح شقيقه السعيد لخلافته، بل ربما أراد فقط أن “يضمن حماية أقاربه من أي تصفية حسابات” بعد رحيله.

خاتمة

تُعَدُّ خطوة الرئيس بوتفليقة بعدم الترشح لولاية خامسة “حكيمة”،وانتصارًا حقيقيًا للحراك الشعبي المطالب الرئيس بعدم الترشّح مرة أخرى. وتمثلت  الخطة التي أعلنها الرئيس بوتفليقة للخروج من الأزمة،فيما يلي:

*-إطلاق “ندوة وطنية جامعة” مستقلة، تكون بمنزلة هيئةٍ تتمتع بكل السلطات اللازمة لتدارس كل أنواع الإصلاحات، وإعدادها واعتمادها، مع الالتزام أن تكون الندوة عادلةً من حيث تمثيلها المجتمع الجزائري، بمختلف فئاته ومشاربه، تتولّى تنظيم أعمالها، بحرّية تامة، هيئة مستقلة،

على رأسـها شخصية وطنية تحظى بالقبول والخبرة، على أن تفرغ هذه الندوة من مهماتها قبل نهاية عام 2019.

*-عرض مشروع الدستور الذي تعدّه الندوة الوطنية على الاستفتاء الشعبي. وتتولّى الندوة تحديد موعد تاريخ إجراء الانتخابات الرئاسية.

-* تنظيم الانتخابات الرئاسية، عقب الندوة الوطنية الجامعة الـمستقلة، تحت الإشراف الحصري للجنة انتخابية وطنية مستقلة.

* -تشكيل حكومة كفاءاتٍ وطنية، تتمتع بدعم مكونات الندوة الوطنية. وتتولى الحكومة المنبثقة من هذه الندوة الإشراف على مهمات الإدارة العمومية ومصالح الأمن، وتقديم العون للجنة الانتخابية الوطنية الـمستقلة. ويتولى الـمجلس الدستوري الاضطلاع بمهماته، وفق الدستور والقانون، فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية.

غير أنّ المحللين يرون أنّ هذه القرارت التي جاءت مترافقة مع تخلي بوتفليقة،تأجيل الانتخابات، والقرار الثاني الذي يُبَيِّنُ أنَّ لا شيء تغير حين تم تعيين وزير الداخلية في الحكومة المقالة رئيسا لوزراء الحكومة ،ونائبه رمطان لعمامرة الذي كان وزيرًا للخارجية، والأخضر الإبراهيمي غير المقبول شعبيًا، والذي يُعتقد أن الرئيس سيوكل إليه مهمات ترتيب المرحلة الانتقالية، التي ستشرف على المرحلة الانتقالية طوال فترة التمديد التي لم تحدّد مدتها، تَنِّمُ عن رغبة الدولة العميقة وشبكات الفسادالمستفيدة من النظام في للتشبث بالسلطة،و في إجهاض الحراك الشعبي من مضامينه السياسية والديمقراطية المطالبة بالتغيير،في حين أن المنطق و الحكمة يقتضيان من القيادة الفعلية للدولة الجزائرية أن تتجه نحو فتح حوار حقيقي مع قادة الحراك الشعبي  والمعارضة ،من أجل تحقيق إصلاح ديمقراطي حقيقي يلبي انتظارات الشعب الجزائري.

ولعل الدعوة إلى عقد ندوة الحوار الوطني كما جاء ذلك في طرح خطة الرئيس عبدالعزيزبوتفليقة،تُعًدّ خطوةمهمة على المعارضة الحزبية  الفاقدة للثقة الشعبية،وكذلك قادة الحراك الشعبي التقاطها،والمشاركة في رسم مستقبل البلاد، عبر تحقيق انتقال ديمقراطي سلمي ، يقوم على إجراء تسوية تاريخية بين المعارضة والنخب الفكرية والسياسية التي تقودالحراك الشعبي ،والسلطة الجزائرية من داخل النظام القابلة بإجراء إصلاح حقيقي ، يتم فيها الاتفاق على قواعد عادلة للإنتقال الديمقراطي على غرار ما حصل في عديد بلدان أميركا اللاتينية.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى