تؤكد زيارة الرئيس بشار الأسد إلى طهران المفاجأة وغير المعلنة ،على أهمية علاقة التحالف الاستراتيجي التي تربط بين الجمهورية العربية السورية والجمهورية الإسلامية الإيرانية،في مواجهتهما للتحديات الإقليمية والدولية،حيث عَقد الرئيس الأسد لقاء قمة مع المرشد علي الخامنئي قائد الثورة الإسلامية في إيران، وآخر مع السيد حسن روحاني رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
في نظر المحللين لقضايا إقليم الشرق الأوسط، تأتي زيارة الأسد من حيث توقيتها في مرحلة جديدة قوامها تغير موازين القوى على الأرض لمصلحة الدولة الوطنية السورية بشكل كبير،لا سيما بعد التدخل الروسي إلى جانبها،والذي تزامن مع دعم قوي من جانب إيران وحزب الله ، إذ تمكن الجيش العربي السوري من السيطرة على مساحات كبيرة من الأراضي، كانت خلال السنوات القليلة الماضية خاضعة لسيطرة التنظيمات الإرهابية.
الزيارة تكريس لانتصار محور المقاومة
فالزيارة تأتي في ضوء الهزائم المتتالية للتنظيمات الإرهابية والمعارضة المسلحة،وفشل المخطط الأمريكي-الصهيوني –التركي-الخليجي، الذي كان يستهدف تقسيم سورية إلى دويلات على أساس طائفي ومذهبي وعرقي.والانتصارات التي حققها الجيش العربي السوري وحلفاؤه أحدثت تغيرات ميدانية سريعة صبت في مصلحة سورية،إذ أصبحت الدولة تسيطر على مساحات كبيرة وتعد ثقلاً سكانيًا واقتصاديًا وازنًا،وفي مقدمتها دمشق ،و تشمل غالبية المدن الكبرى باستثناء “إدلب” الواقعة تحت سيطرة “جبهة النصرة”.
فسوريا ليست فقط الحليف العربي الاستراتيجي لإيران، ولكن تتيح لطهران الوصول إلى حلفائها في محور المقاومة، وفي مقدمتها:حزب الله، وتعزز وجودها في لبنان. فقد وفرت سورية تاريخيًاممراً آمناً للدعم المالي والعسكري لحزب الله في لبنان. وعلى هذا النحو،عندما تصاعدت الاحتجاجات في سورية،وانفجرت الأزمة السورية في 2011، ساندت إيران الدولة الوطنية السورية الحليفة، سياسياً بداية، ثم بالأسلحة والمقاتلين لاحقاً لدعم صمود سورية في الحرب الإرهابية الكونية التي تعرضت لها طيلة السنوات الثماني الماضية،من قبل الإمبريالية الغربية وعلى رأسها أمريكا،والدول الخليجية بقيادة المملكة السعودية،التي تحمست لإسقاط الدولة السورية،وتفكيك المحور السوري الإيراني المناوئ لها،ومحاولة إضعاف النفوذ الإيراني في لبنان،وأخيراً،محاولة استعادة قدر من توازن النفوذ إقليمياً،وهو التوازن الذي اختل لمصلحة إيران بدرجة كبيرة، بعد احتلال الولايات المتحدة للعراق في عام 2003،وهزيمة مخطط أمريكا في سورية.
لاشك أنّ الرئيس الأسد في زيارته لطهران، بحث مع القادة الإيرانيين مجمل القضايا الاستراتيجية التي تهم البلدين،لا سيما استمرار محورالمقاومة ومسألة الصراع مع الكيان الصهيوني وكيفية الرّد على اعتداءاته المتكررة على السيادة السورية ،وكذلك التهديدات الأمريكية لإيران والتحالفات المعادية وسبل التعاطي معها والرّد عليها سياسياً وعسكرياً، إضافة إلى نتائج قمة سوتشي الأخيرة ،التي أفرزت اتفاقًا واضحًا بين روسيا وإيران متطابقًا مع الدولة الوطنية السورية لتنفيذ “عملية عسكرية مشتركة في إدلب”، لتفتح على احتمالات عديدة قد تشهدها تلك المنطقة السورية الخاضعة لتنظيمات تدور في فلك جبهة النصرة.
فقد وضعت قمة سوتشي التركي بين خيارين وحيدين، إما التعاون والالتزام بما تم الاتفاق عليه حيال القضاء على الإرهاب في إدلب والعزوف عن كل المشاريع والمؤامرات التي تستهدف وحدة وسيادة الدولة الوطنية السورية، وإما الذهاب نحو تداعيات الخيار العسكري الذي بات خياراً موضوعاً على طاولة دمشق للقضاء على الإرهاب في مدينة إدلب، وهذا الأمر ينطبق أيضا على الولايات المتحدة التي تلعب على كل الحبال بما يتوافق مع مصالحها وأطماعها وحساباتها، وبالتالي فإنّ المطلوب من الأميركي والتركي التعامل بموضوعية وجدية مع قواعد الاشتباك الجديدة التي فرضتها تحولات ومتغيرات الميدان وإلا الوضع سيكون أسوأ بكثير وتداعياته ستكون كارثية على تلك الأطراف.
الاستعداد لتحرير إدلب
ففي الوقت الذي يتابع النظام التركي الرقص على حبال اوهامه العثمانية لاهثا وراء سراب “المنطقة الآمنة” المزعومة ،بدأ الجيش العربي السوري في تطبيق استراتيجية القضم من أجل تحرير ليس الشمال فقط ،بل كل شبر من الاراضي السورية المحتلة وإعادتها الى الحضن السوري سواء بالعمل العسكري ام بالطرق السياسية أم بالاتجاهين معاً، لتعكس الحقيقة القادمة، وتفند كل مزاعم هؤلاء المراهنين على اوهامهم التوسعية والاستعمارية، لا سيما من جانب الإمبريالية الأمريكية،و النظام التركي الذي تتحكم فيه العقدة العثمانية.
هناك رسائل صارمة من موسكو وطهران ودمشق موجهة إلى رئيس النظام التركي مفادها أن الجيش العربي السوري يضخ المزيد من الامدادات العسكرية لحسم معركة إدلب وإنهاء الوجود الإرهابي على كافة الجغرافية السورية.وبحسب محللين يتوقع أن تبدأ معركة تحرير إدلب ومحيطها من ريف حماة الشمالي الغربي “سهل الغاب”، لإيقاف العمليات الارهابية التي تقوم بها المجاميع الإرهابية “جيش العزة والنصرة”، والتي تستهدف المناطق الآمنة ونقاط تمركز الجيش السوري في عموم هذه المناطق، والتي تأتي بدعم تركي يقوده رئيس النظام الاخواني.
وغداة زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى طهران،أرسلت تركيا تعزيزات عسكرية ضخمة إلى الحدود مع إدلب،تضم عدداً من السيارات والعربات وناقلات جند إلى الحدود السورية- التركية.وأشار إعلاميون في إدلب إلى أن رتلاً من 40 آلية مختلفة وصل إلى الحدود مع إدلب بهدف التقدم لاحقاً إلى داخل المحافظة،وأفاد “مركز إدلب الإعلامي” بأنّ الجيش التركي يعتزم نشر ست نقاط مراقبة في بلدتين في تل الطوقان وتل السلطان غرب أبو الظهورعلى الطريق الواصل بين مدينة سراقب وبلدة أبو الظهور،إلى جانب النقاط الـ12 الرئيسة التي نشرها بموجب اتفاق آستانة.
من هنا، فإنّ زيارة الرئيس الأسد هذه التي تأتي بعد ثماني سنوات من اندلاع الأزمة في سورية، جاءت لتؤكد حرص سورية وإيران على العمل المشترك بينهما، حيث قال مرشد الثورة الإيرانية،الإمام على الخامنئي للرئيس السوري بشار الأسد،من أن سورية وإيران هما في جبهة استراتيجية مشتركة،وأنّ الأمن القومي لإيران لاينفك عن الأمن القومي السوري، والعكس بالعكس. والحال هذه، تقف سورية إلى جانب إيران في مواجهة التهديدات الأمريكية والصهيونية لها كما وقفت إيران إلى جانبها في الحرب على الارهاب وتدعمها في مواجهة الحملة الأمريكية الصهيونية الشرسة التي تستهدفها،وهي جاهزة للتنسيق والتعاون معها في كل ما تقتضيه ظروف المرحلة القادمة مع انتقال محور العدوان إلى خطط بديلة بعد فشل خططه السابقة في تفكيك محور المقاومة وتمكين الارهاب من إضعاف سورية وإسقاطها في براثن المشروع الصهيوأميركي.
على رغم الطبيعة الأيديولوجية المختلفة في كل من نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ونظام حزب البعث الحاكم في سورية،فإن العلاقات السورية–الإيرانية شهدت استقرارًاواضحًا طيلة العقود الأربعة الماضية،على رغم ما أصاب المنطقة من ويلات الهزات السياسية والجيوبوليتيكية العنيفة بسبب الحروب الإقليمية التي حصلت في المنطقة.
الجيوبوليتيك الشرق أوسطي وصمود التحالف الاستراتيجي الإيراني-السوري
إن ملامح السياسة الخارجية التي ينتهجها الرئيس بشار الأسد متماثلة مع النهج السياسي للرئيس الراحل حافظ الأسد،الذي وقف مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية -بعد نجاح الثورة الإسلامية في إسقاط أحد قلاع ركيزة الإمبريالية الغربية في المنطقة- ردًّاعلى نهج كامب ديفيد الذي بدأ يعمّ الوطن العربي بعد توقيع الرئيس المصري أنور السادات اتفاقيات كامب ديفيد التي أخرجت أكبر دولة عربية من دائرة الصراع العربي-الصهيوني، ما خلق محورًا جديدًا يمتد من طهران عبر دمشق إلى جنوب لبنان يرفع راية المقاومة، لا سيما بعد أن انقلبت إيران 180 درجة وأصبحت مناهضة للإمبريالية الأمريكية،ومعادية للسياسات الصهيونية.
وفيما كانت معظم الأنظمة العربية، إضافة إلى الغرب يقفان مع العراق في حربه الضروس ضد إيران، صدًّا لتصدير الثورة الإسلامية إلى الوطن العربي،اعتبر الرئيس الأسد تحالفه مع إيران تقتضيه عملية المجابهة مع المخطط الأميركي للهيمنة، ومقتضيات الصراع العربي-الصهيوني. وقد خلق هذا الخيار لسورية نزاعات مع الأنظمة الرجعية العربية المرتبطة بالإمبريالية الأمريكية.
إذا كان العداء لنظام البعث في العراق شكل القاسم المشترك بين سورية وإيران،مرورًا بالمصالح المشتركة لكل دولة في تحالفها مع الأخرى، منذ عقد الثمانينيات من القرن الماضي، فإنّه، وبعد أحداث 11سبتمبر 2001 وما تلاها من حروب أميركية على كل من أفغانستان والعراق، أصبح لكل من سورية وإيران، بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق، عدوًا مشتركًا هو الولايات المتحدة الأميركية التي صنفت إيران جزءا من “محور الشر”، خدمة للكيان الصهيوني.
و الحال هذه، ونظرا لسياسة الممانعة ضد السياسة الأميركية في المنطقة التي ينتهجها البلدان، أصبح التحالف بين سورية وإيران في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية ضرورة استراتيجية دفاعاً عن الوجود والاستمرار أمام التهديدات الأميركية والصهيونية التي يواجهها كل من البلدين.وبعد مرور سنوات العواصف الهوجاء، صمدت سورية أمام الحرب الإرهابية الكونية التي شنت عليها،وهاهو الرئيس الأسد يتوج نجماً مقاومًا للمخططات الاستعمارية الأمريكية والصهيونية والتركية ،وينتقل في إطار الشراكة الاستراتيجية مع إيران،وكل محور المقاومة،بذلك من سياسة الدفاع عن النفس والمحافظة على النظام إلى سياسة الهجوم.
وفي الوقت الذي تؤكد فيه دمشق على تحالفها الاستراتيجي مع طهران، يعتبر المحللون الغربيون أن الخيار الأميركي-الصهيوني، الذي يقوده الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تعاطيه مع الأزمة النووية الإيرانية، يقوم على محاولة عزل الجمهورية الإسلامية الإيرانية،التي وقفت بثبات منذ انتصار ثورتها في عام 1979،إلى جانب الكفاح الفلسطيني التحرري.وفضلاً عن ذلك، انحازت العديد من الدول العربية،وفي مقدمتها المملكة السعودية إلى جانب الإمبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني في عدائهما البهيمي للجمهورية الإسلامية الإيرانية،بهدف زعزعة الاستقرار فيها .
ففي الوقت الذي تقدم به إيران الدعم لتحرير الأراضي الفلسطينية من الاحتلال الصهيوني ، والدعم العملي لمحور المقاومة من الجهاد الإسلامي وحزب الله ،وحماس،لم تقم أي دولة أخرى بمؤازرة ملايين الفلسطينيين الذين يعيشون تحت نير الاحتلال الصهيوني منذ الحرب العربية الصهيونية في حزيران عام 1967.
قبل اندلاع الثورة الإيرانية،كانت إيران الشاه تمثل قلعة للإمبريالية الأمريكية في إقليم الشرق الأوسط،وكان نظام الشاه يقيم علاقات دبلوماسية وثيقة الكيان الصهيوني،لكن مع نجاح الثورة الإسلامية في إيران، كان أول قرار اتخذه الإمام الراحل الخميني هو قطع العلاقات بين طهران مع تل أبيب وتوفير كل الدعم للكفاح الفلسطيني من أجل تحريرالأرض السليبة.
وفي ضوء الانقلاب الحاصل من جانب الدول العربية الرجعية على إيران،وتحالفها مع الإمبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني،لإضعاف النفوذ الإقليمي للجمهورية الإسلامية الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط حسب زعمها،ازدادت العلاقات الاستراتيجية التي تربط بين سورية وثوقًا ،ولم تستطع المحاولات التي قام بها الأميركيون والأوروبيون والعرب،فك عرى العلاقات الوثيقة هذه ،من أجل إضعاف النفوذ الإيراني في المنطقة.
و بما أن الكيان الصهيوني والإمبريالية الأمريكية يسعيان إلى تصفية القضية الفلسطينية، ويرفضان إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة ،فإنّ محور المقاومة مستمرٌفي قوته، نظراً لوجود مصالح مشتركة بين سورية و إيران في كل من العراق و لبنان و فلسطين،وبسبب عدم خضوعه لإملاءات وشروط الاستعمار الجديد الأمريكي-الصهيوني، وهزيمة استراتيجيته التفكيكية للدول الوطنية المدافعة عن استقلالها، وسيادتها القومية، واحترامها للقانون الدولي.