إخفاق الفكر السّوريّ السياسي والثقافي في الحرب.. أدعياء الثّقافة في الامتحان!

 تحتاج سورية إلى نهضة ثقافيّة سوريّة جديدة ، و تحتاج هذه النهضة إلى أكثر من ”وزارة الثّقافة” و ”وزارة الإعلام” و ”وزارة التّربية” و ”وزارة التّعليم العالي”  و”وزارة التّخطيط” و ”وزارة الإدارة المحلّيّة” .. و معهم جميعهم ”وزارة العدل ” !

■ السّؤال ما هو ”الخطاب السّياسيّ – االثّقافيّ” للدّولة في سورية ؟

○ أين نجد عوامل الوَحدة الاجتماعّية ؟

○ و كيف نصنع معامل لصَهر ”الفلزات” الاجتماعيّة حول هدف هو المجتمع و الوطن ؟

○ ثم ، أين البحث عن ”الرّجال” الأحرار الذين يستطيعون تجشّم عناءات التّفكير الجريء و المواقف التي تحرق خلفها السُّفُن ؟!

1▪ “الماءُ تُكذّب الغطّاس” ، و قد قالها مرّة (هيجل) ، بما يُشبهها و بالمعنى إيّاه ، نقلاً عن مأثور رومانيّ (على ما أذكر) : ” هنا الجبل فلتقفِزْ هنا ” ؛ أو ” هنا الزّهرة فلترقصْ هنا ” ! حيث كان معرض الحديث عن التّبجّح الإنسانيّ بما هو ليس أهلاً له في الواقعات و الامتحانات الصّعبة ، التي يتعرّض لها الأشخاص في الأفعال الجسام و الأفكار القوّية النّافذة التي يدّعيها المزيّفون من الأفراد و ”الفلاسفة” و ”السّاسة” الدّعيين ، بخاصّة ، و كذلك عند الجماعات و الأمم و الشّعوب .

2▪ تقاطرت على (سورية) في ”الحرب” جميع صنوف الطّغيان و المجازر و الملاحم و المكاره و الصّعوبات و الامتحانات التّاريخيّة ، التي استهدفت الوجود الاجتماعيّ و السّياسيّ للفرد الاجتماعيّ و الشّخص المواطن و للمجتمع و الدّولة ، مثلما استهدفت المناعات المختلفة للشّعب العربيّ السّوريّ ..

حتّى أنّ فئة من الوطنيين ، هي من كانت واثقة بقدرة الدّولة و المجتمع على تجاوز هذه الحرب و لو بأثمان كانت بديهيّة البَهْظِ و التّحديد و العدّ و الإحصاء ، فلم تفلّ الحرب من إيمان هؤلاء بإمكانيّة تحدّي هذه المأثرة التّاريخيّة الفظيعة و المشاركة في مواجهتها و كتابتها تأريخاً لواحدة من الحروب الهمجيّة و المتوحّشة على (سورية) ، بثقة لم تتزعزع بالنّصر .

3▪ لقد اختلطت شتّى صنوف المبارزات و الاجتهادات و المعطيات و المفرزات و التّجارب و الاجتهادات الفرديّة و الشّخصيّة ، في المكتوب و المَقُول في مختلف وسائل الإعلام و التّواصل و التّصريحات الرّسميّة و غير الرّسميّة و المناظرات و المثاقفات و الحوارات و المناقشات ، و تخلّلها الكثير من الثّرثرات الاستعراضيّة في الّلقاءات و التّحلّقات الفرديّة و الجماعيّة ..

و لقد تخلّل ذلك تنظيرات و تقوّلات و تجارب انتهازّية و وصوليّة و دغدغات اجتماعيّة و غزل سياسيّ .. مع جميع الأطراف علي اختلاف عقائدها القتاليّة الموصوفة … إلخ ،إلخ ..

بحيث استمعنا إلى مختلف ”الثّقافات” و ”المهارات” المُكيَّفة .. و شاهدنا ما لا يدخل في الحصر من أشكال تنكّريّة و مهرّجين ، و كنّا مضطرّين إلى متابعة ذلك بحثاً عن ”خطاب” يوازي هذه الحرب أو يقاطعها أو يتقاطع معها ، في العقد الكأداء و التّمفصلات الواقعيّة لطبيعة الحرب و واقعيّتها و وقائعها غير اليوميّة ، التي يستطيع الكثيرون وصفها ، إن كان أمرُ فهم هذه الحرب و طبيعتها ، و مواجهتها و تحدّيها ، متعلّقاً بالوصف الفارغ للأحداث التي تجاوزت بطبيعتها قابليّات الوصف ..

وذلك لخُلوّ المعاجم و القواميس السّياسيّة التّاريخيّة و الإعلاميّة الحديثة و المعاصرة ، من لغة تليق بوقائع هذه الحرب أو تستطيع أن تُلِمَّ بمفرداتها النّافرة ؛ أو كان متعلّقاً بتأليف الأفكار و الأدوات الجديدة التي تناسب غرابة و فظاعة هذه الحرب . .

و في هذه الأثناء تنّكر الإعلام و الصّحف ، و بخاصّة منها المحلّيّة ، ناهيك عن وسائل الإعلام المرئّية و المشاهدة و المسموعة ، لكلّ اتّجاه فكريّ فلسفيّ – سياسيّ كان يمكن له أن يختزل الكثيرَ ممّا كان مادّة للتّجريب الثّقافيّ – السّياسيّ ، و أن يُضيف ، بالعكس ، المادّة السّياسيّة الحقيقيّة و الواقعيّة و التي يفهمها ”الجميع” إلى هذه الكومة العارمة من التّفاهات و السّخافات ”الثّقافيّة” و الاستعراضّية ، كقيمة ثابتة في المعايير و المحاصيل ، و أعني بها القيمة ”الفكريّة” الموسوعيّة لجوهر الحرب و أبعادها و طبيعتها و احتمالات مآلاتها في المصير .

4▪ أخفق الواقع الثّقافيّ – الإعلاميّ في أدائه في ”الحرب” .

لقد كان من المنتظر انبثاق أفكار من الظّلال و الزّوايا المحشورة في التّعتيم المقصود الممارس على ”الفكر” و ”الأفكار” في ”السّياسات” العامّة و الإدارة و التّخطيط و التّنفيذ ، المستولى عليها من قبل متعهّدين حصريين محتكِرين من إمعات السّياسة و مخلوقاتٍ غير مكتملة البناء و الهيئة و الهيكل و الأدمغة .. ، إلخ ، إلخ ..

تلك الأفكار التي كانت قادرة على تكثيف ”اليوميّ” في ”الحرب” و التّوسّع في ”الخطاب الفكريّ” و ”السّياسيّ” و ”الواقعيّ” للحرب .

طبيعيّ أنّها مَهمّة شاقّة ، و لكنّ ثمّة من العقول و الأفكار في الجانب السّوريّ المُظلِمِ في جغرافيا و مناخات ”خطوط الطّول” و ”خطوط العرض” في الجغرافيا السوريّة في غير هذه الحرب و في هذه الحرب الأسطوريّة ؛ من هي قادرة ، عند السوريين الأذكياء ، على تجشّم هذا العناء و لو أنّه كان سيبدو جديداً و غريباً ، و شأنُه في ذلك شأنُ كلّ الفتوحات الفكريّة في أوقاتها على المواعيد .

5▪ في المفاصل الوطنيّة القوميّة في تاريخ الأمم و الشّعوب ، تجري مباريات إبداعيّة و عبقريّة في ما بين السّاسة و المفكّرين ، و كلّ منهم على حِدَةٍ ، في السّرّ و في العَلَن ، لابتكار و اجتراح أعظم الأفكار للمشاركة بحلّ و تحليل ظروف و أسباب الحرب ..

على أنّنا لسنا بعيدين في ردّة الفعل الوطنيّة على أعداء البشريّة عن ثورات شهيرة في التّاريخ كالثّورة الرّوسيّة و الثّورة الصّينيّة و الثّورة الكوبيّة و الثّورة الفيتناميّة ، و غيرها ، حيث كان جميع المفكّرين و القادرين يؤسطِرُ للأحداث الدّامية دفاعاً عن الوطن و الفكرة الوطنيّة و سائر الأفكار الاجتماعيّة و الاقتصاديّة و السّياسيّة ، فيما تدور حولَهم رَحى الحروب و الدّمار و التّخريب ، و يؤسّس لقيم ترافق الحرب و لأخرى تجهّز لغيرها الطّريق .

فهل هذه هي ، بالفعل ، الرّوح الإبداعّية عند شعوب في هذا العالم دون شعوب أخرى ، لاتقلّ عن البشر في مظهرها الخارجيّ ؟ ربّما هنا كان و مازال الاختلاف .

ليسَ مثل الكراهيّة و الحقد و الّلؤم ، ما يبعث على المحدوديّة و الغباء . و هكذا اختارت جماعات و أفراد و أحزاب ( و حتّى منها المُرَخَّصَة ) ( في سورية ) ، بمن فيهم ” مثقفون” و أدعياء ”الفكر” و بحّاثة و أساتذة جامعات و أكاديميّون و مُجَازونَ و فلّاحونَ و عمّالٌ و عاملونَ و و احتكاريّون و تجّار و صناعيّون و صغارُ كَسَبَةٍ .. اختارت الحيادَ و الّلون الرّماديّ و مشتقّاته ..

فيما لم يترك ذلك كلُّه أثرَه على توعية الفهوم و الأدمغة و العمل و السّلوك “الدّاعشيّ” الاجتماعيّ و الاقتصاديّ بل و حتّى السّياسيّ ، كما تركه تقاعس و انسحاب و هزيمة و خيانة ”المثقّفين” و ”المفكّرين”(!) ، و ذلك أوّلاً، و لقد كان قبل كلّ شيءٍ هذه الكراهيّة السّياسيّة للدّولة المُشَخصَنَة ..

[ تصوّروا معي يا أصدقائي أنّه في القرن الأوّل للألفيّة الثّالثة ، ما يزال البعض يشتغل في السّياسة بالحُبّ و بالكراهيّة ! ] ..

نحو ”الدّولة” .. ، تلكَ التي جعلت منهم (الكراهيّة) قوماً محدودين و تافهين ..

و ثانياً ، لأنّهم في الأصل فاشلون و عاجزون بنيويّاً و هيكليّاً ، ناهيك عن مضامينهم المُخجلة .. و هذا ما انضاف إلى غباءاتهم حتّى أخصبت ضآلات تاريخيّة سوف يبقى عليها التّاريخ شاهداً و إلى الأبد .

6▪استعيدت الذّاكرة المريضة بالأوهام السّياسيّة ، و بدلاً من تسخير هؤلاء أنفسَهم لقضيّة الحرب ، و فظائعها الثّقافيّة بالتّحديد ، وجدناهم يبتكرون نوعاً جديداً من الظّهور الإعلاميّ و العصبيّ و النّفسيّ ، يتلعثمُ بأناقاتهِ الّلافتة و يُضفي على الّلؤم و المحدوديّة و الغباء إشهاراً رسميّاً ، كي يليق بالقوانين الوضعيّة التي لا تسري جرائمها و عقوباتها ، أو َبدْءُ تنفيذها ، ما لم يتمّ نشرها و إشهارها في الوسائل القانونيّة المعتبرة و المقبولة بالتّبليغ ..!

7▪ و لأنّهم يمتلكون أنفساً جريحة ”تاريخانيّاً” و منتفخةً أوداجَ الّلؤمِ و نظرةً داميةً نحو العقل و العقلانيّات ، و نحو ”الاجتماع” و ”السّياسة” و “المؤسّسات” التّنفيذيّة ، فلقد كانوا يرون حتّى في ”الأشياء” أرواحاً مُشَخصَنَة أعداءً لهم قمينين بالكراهيّة و اتّخاذ المواقف الثّأريّة منها ، و أحياناً بصراحات و وقاحات لا يعلو عليها من صنفها غيرها من الممارسات ذات الخلفيّات و الدّوافع و المظاهر الّلااجتماعيّة و الكارهة للمجتمع و الدّولة و الوطن و المواطنين .

8▪ في البنى الهيكليّة للهندسة الفراغيّة للدّولة ، تُعتبر ”الثّقافة” من ضمن البنى الفوقيّة التي تتأسّس ، في الأصل ، على بًنى تحتيّةٍ من العلاقات الاجتماعّية في الإنتاج و التّبادل و التّوزيع بالاستناد إلى تأهيل حضاريّ متقدّم أو متخلّف ، في علاقات الملكيّة و رأس المال و الإنتاج .

و على رغم أنّ ملكيّة معظم وسائل الإنتاج في الدّولة السّوريّة كانت ملكيّة للدّولة و القطاع العامّ ، إلّا أنّ مستوى تدهور علاقات الإنتاج كان قد وصل في سورية إلى دركٍ منخفض جدّاً في موقع ”الإدارة” العامّة من رأس المال و وسائل الإنتاج و التّبادل و التّوزيع – حيث في خضمّ ذلك تتوضّع منظومات علاقات الإنتاج – بحيث كانت ”المؤسّسة العامّة” قد وصلت إلى مستوى من ”الشّخصَنَة” و ”التّجسيد” ، كان معه مستحيلاً أن يتأسّس عليها بنية فوقيّة وطنيّة ، تنضمّ إليها الثّقافة في التّكوّن و الانتشار و الوصول في تبادلاتها للخطاب ما بين الثّقافة و المثقّفين ، الذين لجأوا إلى أسخف و أسذج أشكال الفهم التي دفعتهم إلى مواقف سلبيّة أو انتهازيّة من الدّولة و قد اختزلوا الدّولة إلى شَيء يتوقّف على مواقف من أشخاص مُحَدَّدِين .

9▪من وجه أو أكثر يُمكن لنا أن نعتبر أنّ هذا الامتحان المركّب الذي دخلت فيه قوى الثّقافة االسّوريّة ، هو الامتحان الثّاني أو الثّالث بالأحرى بعد امتحان السّتينات من القرن الماضي ، العشرين ، حيث فشلت الثّقافة الوطنيّة في استيعاب ذلك الدّرس التّاريخيّ ..

و بعده الامتحان الثّاني للثّقافة السّياسيّة السّوريّة ، في منتصف سبعينيات و أوائل ثمانينيات القرن العشرين الماضي ..

ثمّ امتحانها الصّعب الثّالث الذي نعيشه اليوم و لمّا نغادرْ ، بعد ، احتمالات و اتّجاهات أطواره و تطوّراته .

و إذا كانت الثّقافة السّوريّة المعاصرة لم تنجح بعدُ في اختبار الحدثانات السّياسيّة الجسام التي مرّت على الدّولة الوطنيّة السّوريّة المعاصرة ، عبر أكثر من نصف قرن من الزّمن السّياسيّ الذي يتضاعف كثيراً في تراجع المحصّلات الحضاريّة الاجتماعيّة ..

فإنّه يُمكننا القول إنّ الثّقافة السّوريّة بما هي سقفُ البنية الفوقيّة للدّولة و المجتمع ، إنّما شكّلت مانعاً قويّاً – و لو أنّه مانع متعدّد التّأثيرات في الاختراقات – و سدّاً شاهقاً في وجه التّحوّلات الاجتماعيّة الطّبيعيّة في الثّقافات العامّة ، التي لم تكن لتدخل في تحالفات و تواطؤات مع الثّقافة المعتبرة حصراً كذلك ، و لم تكن لترتهن لها في أيّة واقعة من الوقائع التّاريخيّة الّلاحقة و المعاصرة ، لولا الخداع السّياسيّ التّاريخيّ الكبير الذي مارسته ”الثّقافة” السّياسيّة” السّوريّة على أدمغة و عقول البسطاء من المواطنين االسّوريين ، و هم الأغلبيّة على كلّ حال ، و جعلت منهم لعبَةً في يد مقادير الغرب ، السّياسيّة ، الظّالمة ، و الغاشمة .

10▪ عندما تفشل ثقافة شعب من الشّعوب ، كالفشل الذي فشلته الثّقافة السّوريّة ، فإنّها ، و مهما كانت محدودة و غبيّة و فاشلة ، و سواءٌ ذلك لأسباب داخلّية تتعلّق بالمستويات المعرفيّة المنخفضة للمثقّفين أو لأسباب خارجيّة مَهينة و مُهينة ، فإنّها يفشل معها شعب كانت هي أن عبّرت ، بالعموم ، على مستوى تأهيله الحضاريّ الذي عادة ما يتراجع كثيراًعلى أساس هذه المقياسات .

فالثّقافة ليست ظاهرة اجتماعيّة متنحيّة و لا ظاهرة سياسيّة حياديّة يمكن أن تدّعي براءتها أو أن تُخلي مسؤوليّاتها التّاريخيّة في المنعطفات الوطنيّة الكبرى بالتّحديد ، و هو ما يجعلها بعداً ملموساً و مؤثّراً في بناء أو ترميم الجدران السّياسيّة للدّولة المستباحة ، و هذا عندما يكون للثّقافة ذلك الوعي لدورها التّاريخيّ في واجباتها التي تُرَتِّبُ عليها ، حال خرقها أو إهمالها ، مسؤوليّات و جزاءات تاريخيّة أكثر من كونها جنائيّة ، عندما سيكون دورها ، بالإسم ، مطروحاً ، أو سيُطرح ، على طاولة تقويم الحرب و تقويم أسباب تأجّجها الدّاخليّ على نحو لافت ليس له سابق أو مثيل .

11▪ و مثلما يكون ”الإخفاق” الثّقافيّ الاجتماعيّ و السّياسيّ أيضاً ، بسبب قصور في طبيعة منظومة الدّولة السّياسيّة و منظومات السّياسات الاجتماعيّة المختلفة ، و أسباب أخرى ، بطبيعة الحال ، تتعلّق بالقرار السّياسيّ التّاريخيّ العمليّ و التّنفيذيّ ، من جهة أدائه و مُؤدِّيه ..

فإنّ ذلك الفشل أو الإخفاق في التّعبير عن وجود سياسيّ – اجتماعيّ ، مدنيّ ، يتعلّق بالأدوار السّياسيّة الخارجيّة التي تؤدّيها الثّقافة الاجتماعيّة الدّاخليّة المأجورة بتفاوت ، و المرتهَنة للغرب بتفاوت ، و الغبيّة بتفاوت و السّاذجة بتفاوت .. إلخ ..

بحيث شَكَّلَتْ و تُشكّل تداخلات و تناضدات تلك المجموعة ، من التّفاوت ، من التّفاوتات بنوعها و كمّها ، على الحصر ، جسد هذا الكائن الثّقافيّ السّوريّ المشوّه و الذي بدا في الحرب الأخيرة أّنه جسدٌ خائر و عاجز و مريض و عليل !

12▪ لقد قدّمنا أعلاه بأنّنا نتحدّث عن ”الثّقافة” كنسق أو أنساق عامّة و شاملة من دون التّمييز ، كثيراً ، في خلفيّاتها السّياسيّة ، و كان لذلك سببٌ واقعيٌ كما هو الحال واضح و معبّر و صريح ..

و سببٌ آخَرُ إجرائيٌّ يسمح لنا بوصفنا – كدولة – نمتلك المنصّات و المنابر الثّقافيّة التي يجب أن لا تحدّد بسقف ”إعلامويّ” ، ما هو كفيل بتسويق خطابنا الثّقافيّ – السّياسيّ و خطاباتنا العقلانيّة الأخرى المتعلّقة بالتّنوير .

قد يكون ، في هذه المناسبة ، صحيح أن نذكر أنّ هذه الحرب ، و بكلّ طاقات الثّقافة الإعلاميّة عندما تكون هذه الثّقافة في معطياتها العمليّة و قواعد بياناتها التّخطيطيّة ، انتقائيّة أو شخصيّة أو خاصّة و خاضعة لاعتبارات أهليّة ما قبل اجتماعيّة في خططها و مشاريعها و محسوبيّاتها الإجرائيّة .. و مهما كان ذلك قاهراً ، ذلك لأنّ كلّ إبداع فلسفيّ سياسيّ ، على الأخصّ ، لا يأتي في سياق الإعلان عن وظيفة عاّمة أو إجراء مسابقات لاختيار ”المؤهّلين” ، و إنّما هو في صميمه ، إنتاج ”مؤسّسات” تخصّصيَّة في السّياسة ، لها تقاليدها المتراكمةُ أبعادُها في الخبرات المنقولة من جيل إلى جيل على مستوى ”الدراسات” و ”التّخصّصات” و ”البحوث” و ”التّجارب” الإحصائيّة و نقل كلّ هذا إلى ”فلسفة سياسيّة” واقعيّة ، قبل أن توضع نتائج جميع تلك المراحل ، في صياغات تنظيريّة عمليّة و مباشَرة ، في بدائلَ و خياراتٍ أمام صانعي القرار .

13▪ قد لا يفهم البعض مدى أهمّيّة و خطورة الثّقافة أو الثّقافات المتبادلة اجتماعيّاً و سياسيّاً ، في عصر صار فيه للكلمة – فعلاً – أثرٌ أكبرُ من الأثر المباشر الذي هو للرّصاصة بالذّات .

سبق لنا ، هنا ، مرّة ، منذ قريب ، أنْ قلنا إنّ كلّ ”ثقافيّ” يُناقض ، في السّياسة ، بخاصّة ، ما هو ”طبيعيّ” .

و عندما نتأمّل لبرهة وجيزة هذا الفارقُ الصُّنعيّ نجد أنّ مفهوم ” الثّقافة” قد امتد ، تلقائيّاً ، هذه المرّة ، ليشتمل على سائر البنى الفوقيّة للمجتمع و الدّولة ، و ليستغرق كلَّ ما عداهُ من خلاءات سياسّية – سياديّة أو سلطويّة أو نظامويّة أو رقابيّة أو تنفيذيّة أو إداريّة أو خدميّة أو أهليّة ، في جميع مفاصل الدّولة و المؤسّسة العامّة و المجتمع.

في هذا الوضع ، لنا أن نتصوّر خطورة ”الثّقافة العامّة” المُضَلَّلَة عندما تنفرد بظرف من ظروف حرّيّاتها الاجتماعيّة و السّياسيّة المدمِّرة و الباعثةِ على الفساد و الإفساد و الخراب و التّخريب و حصاد أرواح الكثيرين .

و إذا كان ، إلى الآن ، كلّ بعد ثقافيّ ، اجتماعيّاً و سياسيّاً ، داخلاً أو يدخل من جديد في ”النّسق” العامّ ، سيكون عليه التّعريج ، قبل أيّ شيء آخر ، على باقي سائر الأنساق الأخرى التي لا تسمح لها الثّقافة أو الثّقافات بالاستقلال أو الانفراد ..

و هذا هو بالضّبط ما يعنينا في تدويل ”الثّقافة الوطنيّة”(!) و يجعلها قابلة للنّقاش في النّظريّة االسّياسيّة بالتّحديد ؛ ناسفين ، هنا ، كلّ أمَلٍ للمشاريع ”الصّغيرة” الصّادقة و الوطنيّة بأنّ يكون لها مستقبلها على ما تتوهّمه و تراه أمامها كأضغاث أحلام .

14▪ كانت هذه الحرب ، حقيقةً ، كانت اختباراً تاريخيّاً آخر مَبْهُوظ َ الكلفة الحضاريّة . و لأنّها لا تستقرب منها الثّقافات المعاصرة بقدر ما تستقرب منها و تقرّب ”الحضارة” ، أو العكس ، فقد ننظر من موقع الواقعيّة النّقديّة إلى أثر غياب ”الثّقافة” المنظوميّة للمُقَاوَمَة في هذه الحرب ، و ما ترتّب عليه من انعدام الثّقة الوطنيّة في قطاعات غالبة من المجتمع ، بل و من انعدام الثّقة بالدّولة و الوقوف على الحياد و هو الذي نُسمّيه ،

”الخيانة النّاعمة” أو ”الخيانة” بالتّفكير ، و فقدان التّأمّل المعرفيّ في ”الثّقافي” و ”الاجتماعيّ” و ”الاقتصاديّ” و ”السّياسيّ” و ”الأخلاقيّ” …

أقول أنّ ”المسؤوليّة” عن هذا الوضع التّاريخيّ ، إنّما تقع مباشرة على ”التّقاليد التّاريخيّة” المُعَنِّدَة و الطّويلة من الانسحاق الحضاريّ منذ أواسط دولة الخلافة العبّاسيّة ، على الأقلّ الأقلّ ..

و لكنّها تقع ، و بشكل أسرع ، و لأّنه ممكنٌ و مباشَر ، على عاتق خطط التّنمية السّياسيّة المعاصرة و تَقانيّاتها و أفقها و شخوصها و قدراتهم الفكريّة و مقدِراتهم السّياسيّة الأخلاقّية ، أو هم ممّن مشهودٌ لهم بالقدرة الإدارّية ، و المسؤوليّة عن القرار ، و بالقدرة على الممارسة بنزاهة .. أو بالكثير من النّزاهة و الرّجولة و المواجهة للنّقائض التي تتحول دوماً إلى خصومٍ و أعداء و عداوات تاريخيّة في معرض ”الواقعيّ” .. و ”اليوميّ” ، إذ تستطيع ، هذه الأخيرة ، عادة ، أن تستولي على تعاقب الحدث .

15▪ تشتغل الآن ، قوى المجتمع و قوى الاقتصاد و السّياسة و الدّولة ، و قد حان في نظرها الوقت ، لتقاسم الحصص السّياسيّة و الاجتماعيّة و الدّيموغرافيّة الاقتصاديّة ؛ و من باب ”المصالحات” .. أو من باب ”الإعمار” و ”إعادة الإعمار” .

و من السّهل أن نلاحظ أنّ بعض ” المشاريع ” ( الرّائدة ! ) ، يرافقها ”ثقافات” و ”تثقيفات” و ”مثاقفات” تتجاوز أدوارها كثيراً بلا رادع سياسيّ .

و بينما يجري هذا كلّه على الملأ ، فإنّ ”ثقافة” التّنوير المبدعة غائبة عن صنوف الإعلام المعاصر ، هذا إذا كان لها ، بعدُ ، مشروع كما للآخرين و للجميع مشاريعهم الصّريحة و حتّى لو كانت مشاريع رجعيّة و لكنّ لها أرضاً ثابتة و قويّة ، حتّى اليوم .

16▪ تتلخّص ”الثّقافة” التي نتكلم عنها كخطاب سياسيّ في كونها الظلّ الملازم للأشخاص و الأفراد و الجماعات و ”الُمسَارّات” المنغلقة في ممارساتهم كلّها باستثناء ممارسة واحدة ، و أعني ”الأخلاق” ، أو بدّقة ”السّياسات الأخلاقّية” ..

كما تشكّل ”الثّقافة” منظومة الشّخص ”الفرديّة” ، و تلك التي هي للجماعات و الفئات .

و ”الثّقافة” علي هذا مسألة تتعقّد باستمرار لدخول أدوات و وقائع و مشاكل و مُرَكّبات العصر اليوميّة إليها ، و تجريدها ”العولميّ” من كلّ بعد وطنيّ أو إنسانيّ ، و تحويلها إلى مجرّد رموز تُدار عن بعد ، حيث توجّه ، بالضّبط ، إلى حيث مكاناتها بالتّحديد .

و عندما يظهر على عالمنا أنّه يُمارس بعضه على بعضه الآخر ، الاستقواء و التّضليل و التّخويف و القتل و التّهديد ، فهذا أيضاً وجه آخرُ من أوجه و قدرات ”الثّقافة” على ”غسيل الأدمغة” و على نطاق عملها الذي لا يمكن توقّعه أو تحديده أو حصره .

في هذه الأثناء ، على الأقلّ (!) ، لنا ، و علينا ، أن نستعيدَ – ببساطة – الدّور الثّقافيّ السّياسيّ لحشود الأفكار الهائلة التي يمكن لها أن تطغى – كثقافة معاصرة – علي جميع َمنْ سواها من المنافسين على النّاريخ و الجغرافيا و الدّيموغرافيا ، من سارقيهِ من الأشخاص ”الحياديين” ، و تصويب ”ثقافات” الخطاب الوطنيّ إلى ”الجُمَل” و ”العبارات” و ”المنظومات” و الأنساق التعبيرّية التي تتخبّط في ”الوصفيّة” بتعاملها مع ”الحرب” و نتائجها المأساويّة ، كما الأمر بالنّسبة إلى ”الإعلام الحربيّ و الميدانيّ” ..

ذلك أنّ أبسط مقاتل من أبطال جيشنا العربيّ السّوريّ الأسطوريّ ، من الذين كان لهم شرف التّضحية ، بلا مزايدات ، هو قادرٌ على الاستفاضة بالوقائع الملحميّة في ”الحرب” ..

فيما يترك للمثقّفين ، تدبير مشكلة الفلسفة السّياسيّة للحرب في أماكن يبدو أنّ الصّراع عليها قد تحدّد أخيراً تحديداً نهائيّاً ، و أعني بذلك ”المكانات” الاجتماعيّة و ”المكانات” السّياسيّة التي اخترقتها، بكل أدواتها و دوافعها و نزواتها و نزوعاتها ، الحرب .

17▪ إذا أردنا قولاً صريحاً فإنّه لم ترتقِ ”الثّقافة” السّياسيّة و الاجتماعيّة بيننا ، كما هو مطروح ؛ فيما اعتنق جزء من ”المواطنين” إمّا التّحزّب للصّمت و الحياد ، و إمّا قراءة الحرب و تقديمها للبعض بقراءة ثقافيّة ما يزال فيها روح الاستعلاء ، و الذي كان وراء أحد أهمّ سعارات هذه الحرب ، هذا الرّوح الأخرق الذي ما يزال يتعامل مع الآخرين من منطلق صاحب المكان فيما هو فيه الآخر غريبٌ أو طارئ أو وافد أو عابر سبيل ، كما يُنظر إليه .

من الخَطِرِ أن تترك أمور ”الثّقافة” للمثقّفين وحدهم ، على غرار ( ديغول ) عندما قال : ”من الخطأ ترك السّياسة للسّياسيين” .

و يترتّب على هذا نفض غبار القيد الذّهنيّ الذي يبدو تهديداً للتّغيير ، فيما يعمل آخرون على تغييرات عميقة في خطابهم السّياسيّ و بحرّيّة ، منطلقين من أنّ هذا الوقت هو الوقت الصّريح و الأنسب لدخول ”حرب ثقافيّة” ، اجتماعيّاً و سياسيّاً ، و هم على ”بيّنة” تماماً من أمر الوقت و التّوقيت .

ليس للدّولة في سورية ، بعدُ ، خطاب ثقافيّ خاصّ و مخصوص ، على ما تتطلّبه ظروف نهايات هذه الحرب و التي قد تطول .

و من المعروف جيّداً أنّ ”المشروع” المُخطّط هو أهمّ مراحل توزيع العمل على الأدوات و الوسائل و الطّاقات و الأفراد ، في مستقبل الإنتاج و الإنجاز .

إنّ الإشارة إلى هذا الأمر ، هنا ، اليومَ ، هو بمثابة دعوة إلى نهضة ثقافيّة سوريّة جديدة ، و تحتاج هذه النهضة إلى أكثر من ”وزارة الثّقافة” و ”وزارة الإعلام” و ”وزارة التّربية” و ”وزارة التّعليم العالي” و ”وزارة التّخطيط” و ”وزارة الإدارة المحلّيّة” .. و معها جميعها ”وزارة العدل” !

18▪ أخيراً ننوّه بقضيّة صغيرة في الكلمات ، و نختم بسؤال .

فإذا كان للجميع مشاريعهم الاجتماعيّة – الثّقافيّة – السّياسيّة ، و الاقتصاديّة ، و هذا طبيعيّ في مقتضيات الاجتماع و الّسياسة ..

فالسّؤال ما هو ”الخطاب السّياسيّ – االثّقافيّ” للدّولة في سورية ؟

أين نجد عوامل الوَحدة الاجتماعّية ؟

و كيف نصنع معامل لصَهر ”الفلزات” الاجتماعيّة حول هدف هو المجتمع و الوطن ؟

ثم كخاتمة ، أين البحث عن ”الرّجال” الأحرار الذين يستطيعون تجشّم عناءات التّفكير الجريء و المواقف التي تحرق خلفها السُّفُن ؟!

على هذه الأسئلة الأخيرة يجب أن ُتصَاغ ، من جديد ، نظريّة ثقافيّة ، تحدّد أوّلاً هويّة الدّولة ، و هي ، بالفعل ، ”ثورة” توازي كبرى الثورات الثقافيّة في التّاريخ .

إنّ للأفعال التّراكميّة دوراً مهمّاً في هذا الاتّجاه ، و لكنّ للتّراكم تقاليد و تجارب منتقاة بعناية من المأثور السّياسيّ في التّاريخ ، تكون نهايته أخيراً ، و تظهر في مشروع يحقّقُ ”التّنمية” الثّقافيّة الاجتماعّية الفاصلة والحاسمة ، كبداية لمجتمع و دولة في تجربة تراكم خبراتها و تنمو معها نظريّتها في كلّ الأحداث التّاريخيّة التي تتطلّب مِنَّا القرار الصّائب و الواضح و الصّريح .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى