هل سوريّة .. عربية ؟!

{ اسْتجابَةً لطلب بعض الأصدقاء، كتَبْنا هذا المقال }

يتساءلُ البعضُ حول ماهية الخسائر التي تلحق بسورية في حال انعزلت عن محيطها العربي و تخلت عن عروبتها.. !؟

و يمكننا حصر الإجابة على هذا التّساؤل بالفقرات التّالية :

1▪ لقد تحَدّثنا، في مناسبات عدّة، عن عروبة سورية ، و كانت الوثائق التّاريخيّة المحقّقة والبحوث ثّابتة المصادر قد ساعدتنا في معرفة أن سورية بشعبها عربيّة الأصل منذ الألف الثّاني أو الثّالث قبل الميلاد ، عندما هاجرت الشّعوب العربيّة من جنوب و وسط الجزيرة العربيّة في أربع أو خمس موجات بشريّة لتستقر في حوض النّهرين و سواحل سورية الطّبيعيّة و جبالها السّاحليّة و واحات البادية السّورية في ما نسمّيه ، عموماً ، بلاد الشّام أو ( سورية الكبرى ) .

2▪ إذاً ، ليس من باب الاختيار أن تكون سورية عربيّة ، كما أنّه ليس من باب الانتقاء أو التّحلّي بالصّفات .

و أمّا ما يمكن أن تختاره سورية ، نظريّاً ، إنّما هو تأكيد و تكريس عروبتها عن طريق التزامها بقضايا العروبة و ممارستها لدور المدافع عن هذه القضايا ؛ أو تخلّيها عن هذا الدّور الرّياديّ الذي ميّزها و أعطاها حجمها العالميّ ، و احترامها بين الحلفاء و الأصدقاء و الشّركاء التّاريخيين ، و منحها موقفها الذي يدعمه الحقّ الطّبيعيّ و التّاريخيّ و السّياسيّ لمواجهة استعماراتٍ متعدّدة و بأشكال مختلفة و أهداف متباينة ، تجتمع كلّها على التهام سورية ، و أهمّها الاستعمار الصّهيونيّ الذي يُريد أن يتمدّد في كيانه السّياسيّ ( إسرائيل ) ليشمل سورية و مصر و العراق و ما هو أبعد من ذلك بكثير .. من الهويّة التّاريخيّة العربيّة الضّاربة في جذور العالم الحديث و المعاصر ، و الثّقافة الإسلاميّة المحمّديّة الخالدة .

3▪ و عندما تنعزل سورية عن محيطها العربيّ ، يعني عمليّاً أن تتجاهل قضايا الأمّة و تسكت عن انتهاكات الحقوق العربيّة في أهمّ القضايا الملحّة ، التي تشكّل إهانات مباشرة للشخصيّة السّياسيّة و التّاريخيّة العربيّة و احتقاراً لوجودها الجمعيّ و القطريّ و الفرديّ ، على حدّ سواء .

4▪ و عندما تدافع سورية عن الوطن العربيّ أو عن الأمّة العربيّة بالتزامها قضاياها ، و دفع الأثمان الباهظة في سبيل ذلك ، فهي بهذا تدافع عن الأفراد المواطنين و الشّعوب العربيّة لِتُجنّبَهم مسوخيّة التّكوين العالميّ ، التي تميّز القبائل الرّحل في أطراف هذا الحضارة العميقة التي تميّز المنتمين إليها في عالمَ اليوم ، بالاستقرار على أرض محدّدة تصنعها الجغرافيا و التّاريخ و الدّولة القويّة القادرة على ضمان استمرار معالمها ، في وجه التّحدّيات الحالّة منها و الموضوعيّة ، التي تتربّص بالكيانات و الدّول الضّعيفة في هذا العالم .

5▪ يصنع الاستقرارُ القوميّ- السّياسيّ لهويّة الأمّة ( و لو في ما قبل الدّولة القوميّة ) العمق النّفسيّ الحضاريّ ، الذي يصنع الشّخصيّة الخاصّة المندمجة عالميّاً و المتوازنة و التي يكون عمقها الثّقافيّ – الحضاريّ متعلّقاً بكلّ من التّاريخ و الجغرافيا و الكتلة البشريّة ، المعبّرة عن وجود و صوت عالميين ، لهما تأثيرهما في الدّفاع و الثّبات الوجوديين ضدّ الالتهام العالميّ ، الذي تجري ممارساته على القبائل و الشّعوب المحدودة ، و التي ليس لها تاريخ في كتلة معتبرة من البشر على سطح هذه الأرض .

6▪ و في التّخلّي و التقوقع و العزلة ، تخسر سورية شخصيّتها الثّقاليّة العالميّة في عالم متكالب على الشّعوب ذوي الصّفات الضّئيلة ، التي لا تمثّل أمماً واسعة و ممتدّة في الجغرافيا و التّاريخ .

7▪ صحيح أنّ الأمّة العربيّة هي قوميّة في ما قبل مرحلة “الدّولة القوميّة” ، و لكن وعي و إدراك حضورها الاعتباريّ في مشروع الدّولة الوطنيّة- القوميّة ( القطريّة ) ، وحده ، كفيلٌ بجعلها ذات حضور عالميّ معبّر عن كتلة كبيرة ، لها بعدها السّياسيّ و الاجتماعيّ و الثّقافيّ ، الذي يُميّز الشّخصيّات الاعتباريّة المتينة ؛ و هذا على رغم ما يبدو في الحقيقة من تشتّت لأوصال الدّولة القوميّة أو دولة الأمّة ..

و على رغم أنّ ذلك المشروع قد يبقى حلماً ، لفترة طويلة ، و لكنّ الأحلام و الآمال ، على صعيد الأفراد و الشّعوب ، هي ما يبعث التّماسك في جسد الوجود السّاعي إلى الهدف المحدّد .

8▪ و في الخسارات المباشرة ، فإنّ من يَخسر في غياب سورية هو ، أوّلاً ، محيطها العربيّ ؛ إلّا أنّ ذلك سينعكس على سورية حينما تضعف أواصرها بباقي دول وشعوب الأمّة العربيّة ، ممّا يُسهّل استفرادها و بالتّالي يُضعفها في جميع قراراتها ، و ذلك كما هو المثالُ حاضرٌ أمامنا في ( مصر ) عندما اختارت التّفرّد و الانفراد في شخصيّتها السّياسيّة كدولة ، ما أوقعها موضوعيّاً في شرك ( إسرائيل ) ، و أعجزها عن تمثيل مصالحها الوطنيّة الحقيقيّة ( القطريّة ) التي خسرتها ، أيضاً ، في علاقتها ب” إسرائيل ” و باقي الدّول العربيّة الوطنيّة – القوميّة كسورية و الجزائر و ليبيا قبل “انقلاب الرّبيع” الاستعماريّ .

9▪ إنّ المصداقيّة التي تكتسبها سورية في عروبتها و دفاعها عن القضايا القوميّة للأمّة العربيّة ، يجعل منها دولة متينة في حياتها المجتمعيّة و السّياسيّة و العقائديّة ، و هو ما ينعكس منعةً و قوّةً في وجه الاستعمارات و المؤامرات و الحروب العالميّة التي تستهدفنا ، صراحةً ..

و المثال على هذا حيّ و معاصر و لا يزال مستمراً في صمود سورية ، في وجه أعتى الحروب و المؤامرات العالميّة الاستعماريّة و غير المسبوقة في تاريخ البشريّة .

هنا يجب أن ندرك أن الشّعوب العربيّة ، عموماً ، لا تزال متمسّكة بقضاياها القوميّة المصيريّة في وجه التّحدّيّات التّاريخيّة التي تواجهها ..

و المثال الأقرب هو الشّعب العربيّ السّوريّ الذي كان صورةً حقيقيّة للفهم العفويّ لمسألة المصير ، هذا الفهم المكتسب من خلال تاريخ من الانتماء إلى العروبة و قضاياها العادلة ..

و الدّليل وقوف هذا الشّعب العظيم بكلّ شرفائه ، إلى جانب الجيش العربيّ السّوريّ و الدّولة الوطنيّة- القوميّة في سورية .

و لنذكر ، أيضاً ، في هذا السّياق أنّ المنابر الحقيقيّة لمعرفة اتّجاهات الميُول العقائديّة للشّعب العربيّ السّوريّ ، هي ليست في منبر واحد ( كوسائل الاتّصال و التّواصل الاجتماعيّ الحديث ) ، و إنّما هي ربّما تكون أصدق في أوساط أولئك الذين ليس لهم صوت ، أو عند هؤلاء الأبطال الذين يُصوّتون على القضيّة القوميّة العربيّة في ساحات النّضال و الحرب و الشّهادة تصويتاً بالدّماء !

10▪ و في محصّلة هذه الجردة البسيطة يتبيّن أنّ ما تخسره سورية في تخلّيها عن شخصيّتها القوميّة ، هو تاريخها النّضاليّ و التزامها بقضايا المصير العربيّ ، ووقوفها مع العدالة الطّبيعيّة التي تخصّ الإنسان الطّبيعيّ و الاجتماعيّ ، قبل أن تخصّ الإنسان السّياسيّ ( أو المواطن ) ..

وكذلك تخسر سورية في التّخلّي عن العروبة ، جميعَ تضحياتها ودماء شهدائها وتضحيات أحرارها و أشرافها في سبيل القضايا القوميّة الكبرى ، منذ القديم حتى الْيَوْم .

وقبل ذلك وبعد ذلك ، فإنّ ما نخسره جميعاً في عزلتنا و انعزاليّتنا القطريّة أو الإقليميّة ، إنّما هو ذلك الجزء الأغلى على كلّ إنسان عادل في هذا العالم ، وأعني بذلك “الحقيقة” التي تفتتح في اعتناقها باب “الحقّ” الثّابت والأبدي .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى