نحن وثقافة زراعة فكر التلقين والحفظ والنقل ومحاربة التساؤل والفهم والعقل

فلسفة التعليم الحديث بكلّ مراحله ترفض ” زراعة الفكر” الجاهز وتعمل على ” زراعة الفهم”، أي إنها تركّز على تعليم الانسان كيف يفكّر، وكيف يستخدم التقنية الحديثة ومصادر المعرفة المتاحة له ليحصل على معلومات ويطوّرها من خلال إستخدامه لحصيلته المعرفيّة وقدرته الادراكيّة، بينما التعليم التقليدي يعطي الأولويّة لزراعة الفكر من خلال النقل والتلقين والحفظ غيبا وتذكّر المعلومات واجترارها.

الدراسات التربويّة والأبحاث المتعلّقة بالتعليم والتعلّم أثبتت أن حفظ المعلومات غيبا لا يعني فهم خصائصها وطرق تطبيقها؛ ولهذا فإن علماء التربية وعلم النفس التربوي يحثّون المؤسّسات التعليميّة على استخدام طرق التعليم والتعلّم الحديثة، والتركيز على التفكير النقدي، وتشجيع التساؤل الحر في أسس ومكوّنات وحقائق الأشياء، وإعطاء الأولويّة للفهم واعمال العقل في التعلّم وتحليل واستخدام المعلومات، ويرفضون أسلوب التعليم التقليدي القائم على النقل والتلقين والحفظ غيبا، ويعتبرونه أدنى أنواع المعرفة الإنسانيّة وأقلّها أهميّة في بناء الإنسان القادر على  تطوير نفسه ومجتمعه.

ولهذا فإن الدول الديموقراطيّة الصناعيّة الحديثة التي بنت الإنسان وحقّقت نجاحا مميّزا في تطوير مجتمعاتها، أعطت تحديث التعليم أهميّة قصوى فأعدّت المعلم المتخصّص المثقف ورفعت من شأنه وأكرمته، وغيّرت مناهجها الدراسية وطرق تعليمها التقليدية، واستبدلتها بأخرى حديثة تركز على غرس الثقة في نفوس الطلبة، وتعليمهم الاعتماد على النفس، واحترام لغة الحوار، واستخدام العقل والتفكير الحرّ لفهم ما يتعلّمونه بعمق، ومن ثمّ يستخدمون معرفتهم في تطوير الصناعة والزراعة والآداب والفنون والثقافة في أوطانهم.

التعليم التقليديّ القائم على النقل، والالقاء، والتلقين، والحفظ غيبا ما زال يطبّق في مدارسنا وجامعاتنا العربية. المدرس يوصل المعلومة للطلبة، فيدرسونها ويحفظونها غيبا، وينجحون أو يفشلون في المقرّرات الدراسية بناء على ما حفظوه، وليس بناء على ما فهموه وأدركوه. أي ان العامل الحاسم في تعليم النقل والحفظ هو قدرة الطالب على التذكّر وليس على الفهم والتحليل.

ولهذا يتخرج الطلاب والطالبات من مدارسنا الثانوية وجامعاتنا بعقول محشوة بمعلومات حفظوها غيبا واستخدموها في اجتياز الامتحانات، وحصلوا على شهادات؛ لكنهم ينسون معظم ما حفظوه بعد تخرّجهم، ويعانون من ضحالة معرفيّة، وقصور في ممارسة مهنهم، وفقر ملاحظ في ثقافتهم العامّة، وفشل واضح في استخدام أنماط ثقافيّة حضاريّة في تعاملهم المجتمعي، وضعف في قدراتهم على التفكير العلمي المنطقي التحليلي.

النقل والتلقين والحفظ غيبا والقدرة على تذكّر المعلومات واجترارها عند الحاجة لا يعني تميّزا علميّا أو ثقافيّا، ولا يساهم في بناء الانسان المثقف القادر على المشاركة في تطوير وطنه من خلال قدرته على التفكير التحليلي المتوازن الذي يستند إلى إعمال العقل، ويقود إلى نتائج ايجابيّة تفيد الجميع.

الدول الحديثة القويّة المستقرّة تقدّمت وازدهرت بعد أن أقامت أنظمة تعليميّة حديثة وظّفت التقنية التعليميّة المتطورة في المدارس والجامعات، وغيّرت المناهج الدراسيّة وطرق التدريس، وحمت الحريّة الأكاديمية، وضمنت حقوق وكرامة الطالب، وحرّرت عقله من الخرافات والعقد مهما كان مصدرها، وعلّمته كيف يفكّر ويحترم العقل والرأي الآخر، وليس كيف يحفظ ويتذكّر ويقصي من يختلف معه في الرأي.

هذه الدول تزرع فهما يؤسّس لثقافة علميّة وأدبيّة وفنيّة حرّة متطوّرة، وتحصد تقدّما وازدهارا وإبداعا ورخاء، ونحن نزرع فكرا متحجّرا مجترا تلقينيا، ونحصد جهلا وتخلّفا!

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى