حركة الاحتجاج العربية وأطوارها المختلفة

فكرة وبذرة الاحتجاج العربي التي انطلقت نهاية عام2010وكان لها تاريخ سابق مديد ومجيد في الكثير من تعبيراته ومنجزاته لم تنطوي وتتلاشى كما قد يتصور البعض  ولكنها نمت وتطورت بطرائق وأطوار مغايرة على الرغم من بعض النتائج الوخيمة التي رافقت بعض أشكالها  وأطوارها وغيرت مقاصدها وأجهضت معناها التاريخي الكبير والواعد ولكن احتياجها والنزوع إليها بقي في خيال الناس الذين يقادون الى جحيم الحياة وبؤس العيش وافتقاد الأمل وانسداد الآفاق ، كما أن الأسباب التي  دعت إليها بقيت في مكانها لم تتزحزح  ولم تتغير في عقل السلطة العربية وممارساتها .

ولذلك بقي الجمر تحت الرماد يؤذن بالاشتعال في كل لحظة وبقيت الأسئلة بلا أجوبة حقيقية واستمر الاحتقان والاحتباس والاختناق في صدور الناس وأحاق بهم الاحباط وصروف الحياة ولم يبق في الخيال إلا مسرب الاحتجاج والوقوف في الشارع لإعلان المواقف والمطالب التي لم تخرج في الكثير من حالاتها عن اطاراتها المطلبية العادية ولم تشكل تهديدا لأي نظام ،  ولا ريب  بأن خيارات الشارع هذه والمعبر عنها بهذه الطريقة لم تكن بأي حال تحبيذا للفوضى وإشاعة البلبلة بقدر ما كانت تعبيرا ممكنا واضطرارياً بعد أن أغلقت الأبواب وسدت المنافذ والنوافذ .

وكانت السلطات العربية على الجانب الآخر تقايض الناس وتخيرهم بين الصمت والقبول بما هو كائن أو اندلاع الفوضى كما حدث في الكثير من الدول العربية وأصبحت تلك من المقولات الرائجة على ألسنة الأنظمة تخوف بها الناس وتعدهم بالويل والثبور إذا تمادوا في الاحتجاج أو استمروا في احراج السلطات ، وغاب عن خيال هذه السلطات البحث عن مخارج أخرى من مثل تفهم واستيعاب حالة الناس وبؤسهم المعاشي والوجودي وملاقاتهم في وسط الطريق  وتوعيتهم بحقائق الأمور  وضغوط المؤثرات الداخلية والخارجية من خلال ذهنية وطنية تريد  المحافظة على النسيج الوطني واستمرار الوطن بعيدا عن الفوضى والانفلات .

اللافت أن الأنظمة العربية وخصوصاً  تلك التي نجت من أزمة وتداعيات ما أطلق عليه ” الربيع العربي ” لم تقرأ كل الحقائق والتجليات التي أنتجتها هذه الانتفاضات المختلفة ولم تقدم على دراسة واقعها بطريقة مغايرة تأخذ في الاعتبار  الأخطار الكامنة داخل مجتمعاتها وإمكانية تجدد الحركة الاحتجاجية واندلاعها بأشكال خارج توقعاتها أو بطرائق قد تأخذ الأمور إلى دوائر لا تحمد عقباها .

واللافت أيضاً أن الحركة الاحتجاجية العربية أصبحت تدرك جيدا الأخطار الممكنة لتغيير المقاصد الحقيقية للاحتجاج والنزوع إلى الفوضى  ولعل الهتاف الذي تطلقه الاحتجاجات وتؤكده واقعياً في الساحات بأنها سلمية ولا تريد سوى التعبير ورفع الصوت بالإضافة إلى المحافظة  على انتظامية الاحتجاج والارتقاء بكل تعبيراته وممارساته وعدم ظهور صدامات ومواجهات مع أجهزة الأمن إن كل ذلك يعطي إشارات واضحة عن نوعية الاحتجاج ومقاصده وأن الأمر لا يحتاج سوى إلى  وقفة وطنية نوعية في تفهم مطالب الناس واحترام إرادتهم والتحاور معهم واشراكهم في القرارات التي تؤثر على معاشهم وعدم أخذ الأمور إلى الصدام وكسر العظم لأن ذلك سيكون من سوء الفطن والتدبير ومدخلا ممكناً للتأزيم غير المبرر .

لا أحد منا شاهد حرق باريس  – مدينة النور والمعرفة كما كانت تسمى –  قبل أيام إلا واجتاحه الغضب والأسى وتلبسته الدهشة  لكن سؤالا  مدبباً وقف أمام العقل وعلى طاولة الحكومة الفرنسية بالطبع   لماذا ذهب الناس إلى هذا الطريق ولماذا اختاروا الحرق والتدمير؟ وكان الجواب الرسمي حاضرا : دعونا نحن وأصحاب السترات الصفراء نبحث عن الأسباب ، أو دعونا نفهم الأسباب ، دعونا نفكك الأزمة بطرائق توافقية والخير أبقى وإن طال الزمان به !

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى