“مؤمنون بلا حدود”.. الواجهة الثقافية لخدمة الأجندة الإماراتية

في الـ28 من أكتوبر/ تشرين الاول الماضي ألغت وزارة الداخلية الأردنية مؤتمرًا لمؤسسة تدعى “مؤمنون بلا حدود” كان من المقرر أن يعقد في العاصمة عمّان في الفترة من 2-4 من نوفمبر / تشرين الثاني الحاليّ، استجابة لضغوط شعبية وتشريعية جراء احتواء جدول أعمال المؤتمر على ندوات يرى البعض أنها تسيء للذات الإلهية وبعضها يشكك في ركائز العقيدة الإسلامية.

وقبل 8 أيام تقريبًا وتحديدًا في الـ9 من الشهر الحاليّ، خرجت بعض الأنباء تشير إلى تعرض الأمين العامة للمنظمة، يونس قنديل، للاختفاء في ظروف غامضة، ليتم العثور عليه بعد أقل من سبع ساعات على اختفائه وعلى جسده آثار تعذيب وضرب، أثار حينها تنديدًا واسع النطاق، داخليًا وخارجيًا.

قنديل وفريقه حرصوا منذ الوهلة الأولى على توجيه أصابع الاتهام للإسلاميين في الأردن، على رأسهم جماعة الإخوان، وهو ما أثار حالة من الجدال والنقاش في الشارع السياسي الأردني، لكن سرعان ما تكشفت الأمور وانقلبت رأسًا على عقب، ليتحول قنديل من ضحية إلى ممثل مدعٍ.

رواية الاختطاف التي تم الترويج لها بصورة غير مسبوقة لم تكن لتقنع جهات التحقيق الأردنية وهو ما دفعهم للبحث عن مسارات أخرى للقضية، لتتكشف معها تلابيب الحقيقة رويدًا رويدًا، وتسقط الشعارات التي رفعها القائمون على المؤتمر، لتجنب البلاد فتنة سياسية كان من الممكن أن يكون لها تبعات كارثية لولا نجاح السلطات الأردنية في كشف خيوط المؤامرة، ليعود اسم منظمة “مؤمنون بلا حدود” وما تحمله من أجندات إلى دائرة الأضواء مجددًا.

حبكة درامية

البداية حين تم الكشف عن جدول أعمال المؤتمر المزمع إقامته من المنظمة، ورغم أنه ليس الأول للمنظمة في الأردن إذ أقيم مؤتمران قبل ذلك، غير أن اختيار عناوين مثيرة للجدل على هامش المؤتمر الملغى مؤخرًا كان مثار تساؤل، إذ كان من بينها محور عن مناقشة “ميلاد الله” وهو ما أثار ضجة وتنديدًا لدى شريحة كبيرة من الأردنيين.

تفاعل نواب وسياسيون ومواطنون أردنيون مع ما أسموه إساءة للذات الإلهية، وطلبوا من وزارة الداخلية إلغاءه، التي بدورها لم تتخذ وقتًا طويلاً لتفكر في الأمر، لتصدر قرارًا بمنعه على الفور استجابة للضغوط التي مورست عليها، لتبدأ رحلة التوظيف السياسي لهذا الحدث من القائمين على المنظمة.

موجات من التنديد والإدانات تعرضت لها عمّان جراء إلغاء المؤتمر من منتسبين للثقافة والإعلام وحريات التعبير، على اختلاف توجهاتهم السياسية والفكرية، حيث أشهرت سيوف النقد والتوبيخ للإسلاميين واتهامهم بعرقلة حركات التنوير ومحاولة بسط نفوذهم على مسارات التحرر والتطور وكسر تابوهات الفكر والعقيدة.

لكن يبدو أن جرعة التسخين لم تكن مناسبة لإحداث الوقيعة بين الإسلاميين والسلطة، فكان لا بد من إضافة جرعات أخرى أكثر تشويقًا وإثارة، تكون كفيلة بتحقيق المراد، وهو ما تم التخطيط له جيدًا، ليتم الإعلان فجأة عن اختفاء غامض لأمين عام المنظمة مساء الجمعة 9 من نوفمبر الحاليّ.

ثم كانت الإثارة.. ففي صباح اليوم التالي، السبت، وبعد أقل من سبع ساعات على خبر الاختفاء، عثرت الأجهزة الأمنية الأردنية على قنديل، في أحراش منطقة عين غزال بالعاصمة عمّان، في وضع حرج وقد بدت عليه أثار تعذيب وتشويه فضلاً عن ارتجاج في المخ بحسب التقارير الأولية.

موجة جديدة من التعاطف والتأييد أثارتها واقعة الاختطاف والتعذيب لا سيما الصور التي تم نشرها التي أكسبت الضحية دعمًا غير متوقع، فضلاً عن تصاعد الإدانات للإسلاميين الأردنيين إثر اتهامه ورفقائه لهم منذ الوهلة الأولى، غير أن تلك الراوية لم تقنع الداخلية الأردنية التي بدورها سعت إلى فك طلاسم تلك الراوية الغامضة.

بالأمس كشفت التحقيقات التي أجرتها إدارة الأمن الوقائي في مديرية الأمن العام زيف ادعاءات قنديل، حيث توصلت إلى أن القضية لم تكن أكثر من “مسرحية” من بطولة أمين عام المنظمة وابن شقيقته الذي اعترف باختلاق الجريمة مع خاله بناء على طلبه، وعلى إثر ذلك جرى استدعاء قنديل ومواجهته بالأدلة فاعترف بالحقيقة، وعمدت السلطات الأمنية لتسليمهما إلى المدعي العام، فيما تشير التوقعات إلى احتمالية حبسهما.

السجال السياسي والديني الناجم عن الواقعة منذ بدايتها، الذي تصاعد بصورة كبيرة عقب واقعة الاختطاف والتعذيب، وأوشك أن يطرق بابًا جديدًا للفتنة بين طوائف الشعب الأردني، دفع البعض للتساؤل عن الأهداف الحقيقية والدوافع الكامنة وراء اختلاق هذه الأزمة.. وهو ما أعاد اسم منظمة “مؤمنون بلا حدود” للأضواء مرة أخرى.. فماذا عن تلك المنظمة؟

“مؤمنون بلا حدود” والربيع العربي

بعدما تحولت واقعة اختطاف وتعذيب يونس قنديل التي أراد تحويلها إلى قضية رأي عام في الأردن إلى مسرحية ساقطة تكشفت ملامح فصولها سريعًا، لم يعد خافيًا على أي من المتابعين للشأن المحلي الأردني حقيقة ارتباطات منظمة “مؤمنون بلا حدود” المدعومة إماراتيًا، كواجهة ثقافية لتشويه ثورات الربيع العربي من مدخل محاربة الإسلام السياسي، ولتكون أداة للامتداد “الناعم” للإمارات في دول المنطقة.

فالمؤسسة التي أنشأتها أبو ظبي في 2013 بالرباط، عقب صعود الإسلاميين في أعقاب الربيع العربي، لتكون أحد أدوات “القوى الناعمة” التي يستند إليها أبناء زايد في تفكيك سرديّات ما يسمى بـ”الإسلام السياسي”، ومساندة فلول النظم السياسية في صراعها مع الجماهير الثائرة ضدها.

كان الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية بصورة عامة الهدف الرئيسي لتلك المنظمة، وقد نجحت منذ نشأتها في دعم التحركات التي تستهدف تقويض تلك الكيانات وتحجيم نفوذها، كما حدث في الإمارات نفسها بجانب السعودية ومصر وتونس واليمن وفق ما تشير إليه بعض الوثائق المسربة.

المنظمة وإن كانت تهدف في الظاهر إلى دعم الحريات الفكرية وتهيئة الفرصة والبيئة الملائمة والدعم الذي يتيح لمختلف أنماط التعدد الفكريّ والثقافي ذي الطابع العقلاني والعلمي أن تتفاعل فيما بينها، إلا أن أهدافها الخفية تتمثل في نشر الأفكار والأجندات الخاصة بدولة الإمارات عبر استغلال الدين في هذا المجال، وتقديم تقارير دورية عن واقع النشاط الديني في الدول المستهدفة ودراستها بالشكل الذي يخدم أهداف أبو ظبي، وهو ما كشفه موقع “أسرار عربية”.

وتكشف إحدى الوثائق التي حصل الموقع عليها أن جهاز أمن الدولة الإماراتي خصص مبلغ 20 مليون درهم (5.44 مليون دولار أمريكي) لتمويل المؤسسة وحتى منتصف العام 2017 كان المبلغ الذي تم إنفاقه على هذه المؤسسة 3.75 مليون درهم، أي مليون دولار أمريكي بالضبط، كما يظهر استمرار ضخ المزيد من التمويل خلال المرحلة المقبلة لتفعيل الأجندات الخارجية للإمارات.

وهناك عدد من المؤسسات المحلية التي تتعاون معها “مؤمنون بلا حدود” في الدول العربية، من بينها مؤسسة “دال” للإنتاج الفني في مصر، ومعهد غرناطة في إسبانيا، إضافة إلى دار للنشر والتوزيع تعمل في لبنان على نشر الكتب والمطبوعات والأبحاث لأشخاص محسوبين على المنظمة، هذا بخلاف إعداد تقرير أسبوعي عن النشاط الديني في المغرب يتم إرساله إلى أبو ظبي، بحسب الموقع.

علامات استفهام

أثارت المنظمة منذ نشأتها حالة من الجدل داخل الأوساط الفكرية العربية، سواء فيما يتعلق بإستراتيجيتها المعلنة ومساعيها لتمييع الدين وبث الفكر الإلحادي البعيد بنسبة كبيرة عن الشائع في المنطقة العربية من جانب أم ما يتعلق بالأهداف غير المعلنة التي تثير الشكوك والتساؤلات.

المسؤول عن المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة، محمد الهيلالي، كان قد قال في تصريحات سابقة له”: “مبادرات هذه المؤسسة تعد محاولة جديدة لمحاصرة فكر التجديد المعبر عن الشعوب والمتبلور في بواحاتها”، مضيفًا “مشروعها يخضع لعلامات استفهام كثيرة بشأن سياق خروجها، وهي مرتبطة بخريف الربيع العربي والارتدادات الحاصلة”.

الهيلالي تساءل عن التوجهات العامة والدوافع الحقيقية للمؤسسات الإماراتية التي تمول مشروعات المنظمة في البلدان العربية المختلفة، لافتًا إلى أنها تحاول أن تجمع فلول أنظمة الاستبداد التي أسقطت الشعوب العربية جزءًا منها وهزت عروش البعض الآخر.

ومن ثم فإن الأمر يمكن فهمه في إطار رغبة إماراتية في سحق الحركات الإسلامية التي لها طموحات سياسية عبر مدخل علمي، في محاولة لإلصاق تهم التخلف والرجعية عليها لتشويه صورتها والتقليل من شأنها، ما يمهد الطريق نحو وأدها خطوة خطوة، بما يتماشى مع المخطط الإماراتي، وذلك وفقًا لما نقله موقع “عربي21” عن أحد الباحثين المقربين من المنظمة.

وفي المجمل لا يمكن قراءة الفصل الجديد للمنظمة الإماراتية في الأردن بعيدًا عن السياق العام للأحداث، حيث يضيق الخناق على الحليف محمد بن سلمان إثر اتهامه بالتورط في اغتيال جمال خاشقجي، ليبقى السؤال: هل لهذه الحبكة البوليسية علاقة بالتغطية على الحادثة؟ وهل أشرف الإماراتيون على عملية يونس قنديل كما أشرف السعوديون على مقتل خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول؟ أسئلة وإن لم تتوافر الإجابات الكاملة عنها حتى الآن غير أن المؤكد هو استمرار دفع أبو ظبي لأياديها العابثة لإحداث الفتن واختلاق الأزمات داخل دول المنطقة بما يخدم أجندتها الخارجية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى