العدوان على غزة تأكيد لفشل الحلول الأمنية

ظاهرة الهرولة الخليجية نحو تل أبيب ظاهرة تستحق التوقف أمامها، بعد أن اتسعت بين أوساط رسمية وشبه رسمية متنوعة، وبين فئة من رجال المال والأعمال، الذين لا حرج عليهم، فجمع المال هو غايتهم وتكوين الثروة هدفهم الأسمى، ومنهم من لا يتورع عن بيع بلاده بما فيها وبمن عليها.. وهذه الهرولة تعكس في جانب منها انتشار أوبئة الطائفية والمذهبية والانعزالية، وانتشارها يزيد من أخطار «الصهينة» والتطبيع.. ويستجيب لدعوات «العدو البديل».. والغرق في مستنقع التعصب والاقتتال الأهلي والبيني، والتماهي مع الأعداء الذين يعيشون أزهى عصورهم وذروة نجاحاتهم.ونمر بشكل عابر على تعليق هيئة البث البريطانية (بي بي سي) على العدوان، وسؤالها عما إذا كانت هناك فرص متاحة لهدنة طويلة بين تل أبيب وغزة؟.. فطبيعة الصهيونية لا تشغلها هدنة أو تهدئة؛ طويلة أم قصيرة، أو يعنيها وجود هدنة من الأصل.. فالبنيان عنصري، وعدوانه لا يتوقف عن سفك الدماء والاحتلال والتوسع وقضم الأراضي وبناء المستوطنات، وإذا توقف عن ذلك فقد طبيعته.. ولذا يستقوي بالقوة الأمريكية الغاشمة والمتوحشة؛ ويفرض الفصل العنصري فرضا، ووصل لمرحلة ينظر فيها إلى ما تبقى من تأييد واعتراف بالحقوق الفلسطينية ويعمل على اندثاره وتصفيته..

ومن المهم أن نشير إلى الدور الشيطاني الذي يلعبه «جارد كوشنير» صهر الرئيس ترامب، وراعي المشروع الامبراطوري الصهيوني، وإنكاره لأي حق فلسطيني، وإقراره بالقدس عاصمة أبدية للدولة الصهيونية، ومُصَادرته على حق العودة، وتأييده لبناء المزيد من المستوطنات، ورفضه قيام دولة فلسطينية على حدود 1967، وعمله على فصل الضفة عن غزة، وإبعاده لاحتمالات السلام نهائيا عن المنطقة، ووقوفه حائلا أمام أي حل مرحلي أو دائم، وتعطيله ما لم يكن ملبيا لمصالح الدولة الصهيونية مئة في المئة، أو حاميا للتمييز العنصري، وما لم يكن مفروضا بالإرغام والإذعان والأمر الواقع، وباستبداد وفساد وتبعية نظم الحكم في كثير من بلاد العالم الإسلامي وأغلب أقطار «القارة العربية».

وطال أذى ترامب القاصي والداني؛ شرقا وغربا وشمالا وجنوبا.. واتخذ بالفعل قرارات وإجراءات ظالمة ولا إنسانية ضد السلطة في رام الله، وفرض الحصار والجوع والموت على قطاع غزة، واستمر في الابتزاز والتصعيد منذ ما قبل نقل السفارة الأمريكية إلى القدس. وأوقف تمويل اللقاءات الصهيونية الفلسطينية، وأغلق مكتب منظمة التحرير في واشنطن في أيلول/سبتمبر الماضي.

وترامب هو صاحب مشروع «صفقة القرن» السري، وإقامة «دولة أردنية فلسطينية» فيدرالية؛ من ثلاث «دويلات»؛ واحدة في الضفة الشرقية لنهر الأردن، والثانية في الضفة الغربية، والثالثة في قطاع غزة.. أو يستبدلها بمشروع «غزة الكبرى»، الذي يقتطع مساحة من سيناء تحاذي ساحل البحر المتوسط حتى غرب العريش وعمقها الجنوبي؛ وضم أراضي من النقب مقابل أراضي مطلوب التنازل عنها من مصر، وتبدو هذه الخطة مطلوبة لإنجاح «صفقة القرن».. وهناك تسريبات عن موافقة «المشير» السيسي المبدئية على «تبادل الأراضي»، عندما طلب منه الرئيس الأمريكي ذلك!!.

طال أذى ترامب القاصي والداني؛ شرقا وغربا وشمالا وجنوبا.. واتخذ بالفعل قرارات وإجراءات ظالمة ولا إنسانية ضد السلطة في رام الله، وفرض الحصار والجوع والموت على قطاع غزة.

ووفقاً لنص خطة «غيورا آيلاند»؛ الباحث بمركز دراسات الأمن القومي الصهيوني؛ المقترحة بديلا لحل الدولتين، ووُضعت عام 2010؛ تتنازل مصر عن مساحة 720 كيلومتراً مربعاً؛ تضاف لمساحة غزة، وهي تساوي 12٪ من مساحة الضفة الغربية، ويتنازل الفلسطينيون عن 12٪ من الضفة الغربية لصالح الدولة الصهيونية، فتنكمش الضفة الغربية وتتمدد غزة، وبتعين على مصر بناء على هذه الخطة أن تتصدر مشهد تنفيذ مشروع غزة الكبرى، ويتصدر الأردن بدوره تنفيذ مشروع «الدولة الأردنية الفلسطينية» الفيدرالية، وتبدو الخيارات ما زالت مفتوحة ولم تحسم بعد، وقد يكون ذلك سبب الحفاظ على سرية «صفقة القرن» حتى الآن انتظارا للحظة الحسم، التي قد لا تأتي.

وأشارت مصادر صهيونية إلى تطورات جرت في السنوات الأخيرة، ووردت في تقرير نشره موقع «المونيتور» العبري، عن اهتمام دول إسكندنافية بالقضية الفلسطينية، وتقديم عدد من الليبراليين الجدد هناك، ووجدوا دعماً من أكاديميات سويدية لحل تناوله أستاذ الصحافة والكاتب الصهيوني «عاراد نير»، ويعتمد ما أسماه «إجراء تغيير مفاهيميّ وإدراكي شامل بشأن القضية الفلسطينية للوصول لحل يكسر الجمود السياسي الطويل». فبدلاً من تقسيم الأرض تبقى الأرض مشاعا بين دولتين، وتقام عليها دولة يهودية وأخرى فلسطينية؛ تتوازيان وتتداخلان وتمتدّان من نهر الأردن إلى البحر المتوسط.

وتم توثيق الخطة في كتاب بعنوان «أرض واحدة لدولتين ـ إسرائيل وفلسطين كدول متوازية». واستثناء النزاع على «الأرض» وإخراجها من المفاوضات، وإنهاء «الاحتلال»، وضمان حرية التنقل للجميع في كل البلاد. وولاية السلطة يخضع لها اليهودي والفلسطيني بغض النظر عن الحيز الجغرافي الذي يقيم عليه، ولن تقام حدود بين الدولتين، ولكل دولة سلطتها القضائية الموزعة على جميع البلاد، ويشارك السكان في اختيار المسؤولين عن إدارة المنطقة؛ إن كانت يهودية أو فلسطينية بالانتخاب، ويختارون السلطة القضائية المناسبة. وتحتفظ كل دولة برموزها الوطنية، وحق تشكيل حكومة مستقلة ورئيس وزراء مستقل، وعن حق العودة ينص المقترح على تطبيقه بالتدريج؛ على أن تكون القدس عاصمة الدولتين.

وقد وصف التقرير هذا المقترح بأنه محاولة نظرية تتبناها جماعة من الليبراليين الجدد ـ بدعم أمريكي في الغالب ـ وتعبر عن اتجاهات مختلفة في الفلسفة وفي النظرة للدولة والوطن، وتروج لتعريف مغاير لعلاقة السكان بالأرض. ونظرا إلى أنه مقترح خالف المقترحين السابقين؛ لم يتحول لمشروع سياسي، ولم يتمتع بالرواج أو الدعم اللازم من الطرفين؛ اليهودي والفلسطيني، وبقي في إطاره النظري بعيداً عن التطبيق.

ومن المعروف ما من قوة إقليمية ودولية إلا ولها رؤيتها ومشروعها الذي تنطلق منه في التعامل مع القضية الفلسطينية؛ في وقت تراجع فيه «المشروع الوطني الفلسطيني»، وبدا هذا التراجع مقترنا بغياب «المشروع القومي العربي». ويعتبر ذلك نجاحا للدولة الصهيونية والولايات المتحدة وروافدهما الغربية والإسلامية والعربية بشكل عام، وتأييد حكومات السعودية والإمارات ومصر بشكل خاص، بما قدموا من جهد عُد انقلابا في ما يسمى مجازا «السياسات الرسمية العربية»، واعتمادها على الحلول والإجراءات الأمنية، وإفراغ القضية الفلسطينية والقضايا المصيرية الأخرى من محتواها الوطني والسياسي والإنساني. وانتزاعها من «مجالها الحيوي»، وتحميل الناس وزر تحولها من كونها قضية وطنية لشعب طرد من أرضه، وأخرج من دياره، وأستشهد كثير من أبنائه، وبعد ذلك أُسْقِطت خيارات تقرير المصير والتحرير والاستقلال الوطني، واختزلت في نزاع على أرض أُقتُلع منها أصحابها الحقيقيون، وقد تنتهي باشتباك بين القاهرة وواشنطن وتل أبيب؛ في حال استقرار «المجتمع الدولي» على تنفيذ مشروع غزة الكبرى، أو بين عَمّان وواشنطن وتل أبيب إذا ما تم تنفيذ مشروع «الدولة الأردنية الفلسطينية» الفيدرالية، والهدف في الحالين هو صالح المشروع الصهيوني، وتخفيف الضغوط الإقليمية والدولية على الاحتلال والاستيطان.. واستمرار الاقتتال البيني والمتبادل بين العرب وبينهم وبين جيرانهم، وفي كل الأحوال فالمكاسب تبقى مضمونة للمحتلين والمستوطنين والغزاة. وبعد ذلك هل بقيت فرصة أمام «القارة العربية» للإنقاذ؟ والرد لم يبق إلا خيار النجاة واستعادة القوة أو الغرق والاستقالة من الحياة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى