في اللامعقولين.. الفلسطيني والعربي

في تقرير قدَّمه أمام لجنة الأمن والخارجية في الكنيست، ابدى رئيس الشاباك مخاوفه إزاء تطوّر الأوضاع المهددة لأمن الاحتلال في الضفة، محذّراً من أن ما يبدو فيها من “الهدوء يقابله غليان تحتها”، ويعتبره “هدوءً مضللأً”، مشيراً إلى احباط 450 عملية فدائية، واعتقال 500 مقاوم يزعم أنهم “كانوا في طور التخطيط لعمليات فردية”، وهنا يمكن ملاحظة مسألتين:
الأولى، أن هذه الحصيلة التي أشار إليها، ما كانت لتصل لوفيرها هذا، لولا تعاون لطالما اثنى عليه المستوى الأمني في الكيان الصهيوني، من قبل أجهزة السلطة الأوسلوية تحت الاحتلال، أو ما يدعى “التنسيق الأمني”، والذي يصفه رئيسها، كما هو معروف، ب”المقدَّس”.
والثانية، أنه قد تجنَّب الإشارة لفشل التعاون ثلاثي الأبعاد بين اجهزته، وأجهزة السلطة، ومنظومات العملاء، في الوصول، بعد مرور أكثر من شهر على عملية بركان الفدائية لبطلها فتى الشويكة اشرف نعالوه، والذي لا زال حراً بفضل من توفر حاضنة شعبية لمقاوميها، يدرك رئيس الشاباك مدى احتدام غليانها ويحذّر من ما يحبل به…ويدرك هو والسلطة، أن “انتفاضة الفدائيين”، هذه المتواصلة بشكل أو بآخر، والتي يطلقون عليها “العمليات الفردية”، لا من سبيل لهم لإيقافها، أما ما يتحسّبون له ، فهو ما استحقته أوضاع الضفة القهرية، وتأخر، وبات مما لا بد منه، وهو العصيان المدني.
هذا في الضفة، أما غزة المحاصرة من الأعداء والأشقاء والسلطة، فتكفي الإشارة إلى مسيرات العودة والعبقرية النضالية المتجلية في ابتكاراتها الكفاحية المدهشة، والتي هي السر في كل حومة الظاهر والمخفي من الوساطات والضغوطات، الشقيقة وغير الشقيقة، والقريبة والبعيدة، والتي لا تتوقف ولن تتوقف، ملتمسة هدوءً، ويقال هدنةً لأمد، لا ترفع حصاراً، وإنما تخففه لتمنع انفجاراً سيؤدي إليه، وكله ضمن معادلة رغيف مقابل هدوء ولن يتجاوزها…اطفال غزة وجدات آبائهم يدركون أن الحصار على غزة لن يرفع دون أن تسقط غزة بندقيتها المقاومة، وهي إذ لن تفعل، فرفعه هو مهمة مسيرات العودة، أي رهن بإدامتها وتطوير ابتكاراتها النضالية، لا غير.
ما تقدم يشي هو الآخر بأمرين: الأول، هشاشة الكيان الاستعماري الاستيطاني الإحلالي الغاصب، مهما بلغ من قوة عاتية تتوفَّر على كل ما امتلكته ترسانات الغرب الهائلة من متطور وسائل الموت واحدثها، وبالتالي، ما يفسّر فوبياه الوجودية المزمنة والمستحكمة، والتي ستظل الملازمة لطبيعته المصطنعة، وحيث يسكنه ويطارده ادراكه القاتل، برغم رداءة الواقع العربي،  بأنه إنما المغروس عنوةً في بيئة ترفضه تاريخاً وتلفظه جغرافيا.
والثاني، استمرار متحارجة فلسطينية مغرقة في لا معقوليتها، بل ويصعب تخيّلها، لولا أن وجودها ماثل أمامنا عياناً، وكان لعقود خلت، ومنذ أن كان الصراع، والمتبدية بدورها في اثنتين:
شعب اسطوري صموداً وتضحيةً، فدائي استشهادي في عناده النضالي، وطيلة أمد الصراع، لكنما مشكلته ظلت، وتاريخياً، هي في قياداته ونخبه، والتي، وهنا المفارقة، لم ترتقِ يوماً إلى مستوى ما يتصف به شعبها من اعجازية نضالية…هي، ومن أسف، كما يبديه راهنها، إما انهزامية مفرّطة فمساومة على قضيتها حد التصفية، كما هو حال الأوسلويين، أو ما يتكشَّف عنه الواقع الفصائلي كمحصلة لسائد، أي لا نعمم، حيث في غالبها، أما العاجزة، أو المتكلّسة، أو الفاقدة للإرادة السياسية المتبارية مع اللحظة المصيرية التي تمر بها القضية، ولدرجة المراوحة، وحد عدم القطع مع الفئة الأولى، وأقله تجاوز فئويتها والانصراف إلى عمل جبهوي ببرنامج مقاوم يتجاوز الأوسلويين وينهي اختطافهم للقرار الوطني…الارتفاع، كفعل ضرورة وجود، للمستوى الكفاحي الذي يعبّر عنه الدم الفلسطيني المشتبك مع الاحتلال يومياً في كامل فلسطين التاريخية.
وإذ نحن ممن لا تتجزأ عندهم قضايا الأمة، ولأنه كما يقال، الحال من بعضه، فاللامعقول الفلسطيني هو جزء لا يتجزأ من اللامعقول العربي ومنه وإليه. هناك بون شاسع وهوة محال وفق راهنها امكانية ردمها، بين نبض الأمة وتوقها، والمقياس هنا قضيتها المركزية في فلسطين، واغلب متهالك أنظمتها الرسمية…من هذا اللامعقول، شائن التهافت التطبيعي المتسارع، والذي بات على عينك يا تاجر، بعد أن كان يتم بطريقة خفَّاشية. عاد نتنياهو والسيدة حرمه برفقة رئيسي الموساد والشاباك من مسقط، ليهبط فيها وزير مواصلاته واستخباراته، مبشّراً بسكة حديد “السلام الإقليمي”، الواصلة ما بين حيفا المحتلة وبحر العرب، مروراً بما بينهما من عواصم. سبق هؤلاء رابين قبل ربع قرن غداة اتفاقية أوسلو. وريغيف سيغف، وزيرة ثقافته، وواصفة الآذان ب”صراخ كلاب محمد”، في مسجد الشيخ زايد، وسبقها إلى تلك الديار وزيراتصالاته أيوب قرا، كما وأن الوزير ايلي كوهين سيحل قريباً على الرحب والسعة في المنامة. ناهيك عن “حوار اديان” جويل روزنبيرغ، المطالب باستخدام الأسلحة النووية لإبادة المسلمين، في الرياض في ضيافة ابن سلمان مع وفد من الانجيليين المتصهينين.
لا يدافع نتنياهو عبثاً عن ابن سلمان، وإنما هو ينافح عن تمكين مقولة “العدو البديل”، و تمرير “صفقة القرن”، وحفاظاً على دور محميات ظلت ادوارها ونفطها ودولاراته، ومنذ أن سمّيت دولاً، تطويق توق الأمة للانعتاق من ربقة التبعية، ونفض اليد من قضية قضاياها، والمعادلة لوجودها من عدمه، في فلسطين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى