وداعا حمدي قنديل آخر الاعلاميين العمالقة

لقد شكلت نهاية شهر أكتوبر/تشرين اول من هذا العام يوما حزينا وفاجعا في تاريخ الأمة ، فقد رحل آخر جيل عمالقة الإعلام من الرجال العظام .

حمدي قنديل رحل بعد معاناة طويلة مع المرض وبرحيله فقد الإعلام العربي ركناً من أركانه وعملاقا قلما يجود الزمن بمثله ، وقبله بعامين ونيف رحل الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل  وهكذا أصبحت الساحة الإعلامية خالية من المع نجومها .

لقد كان الفقيد الكبير حمدي قنديل مدرسة حقيقية بكل ما تحمل الكلمة من معنى وصاحب موقف طالما دفع ثمنه غاليا ، فهو إعلامي ورجل مهنة حقيقي لم يجامل أحدا على حساب مهنته وقدسيتها ، ولم يعطي حاكما أكثر مما يستحق  وكان صوتا مسموعا في الإذاعة في عصرها الذهبي أو التلفاز  وكان يتابعه الملايين .

لقد كان الفقيد الكبير من ابرز عناصر القوة الناعمة لوطنه وأمته الذي لم يأخذ حقه في وطنه ولا في أمته  لأن صاحبها لم يقبل على نفسه  تزيف الحقائق من أجل مصالح ضيقة لا تتعدى الأنا .

لقد كانت البداية لفقيد الأمة الكبير حمدي قنديل في خمسينات القرن الماضي في مجلة آخر ساعة ككاتب مقال أسبوعي بطلب شخصي من الإعلامي مصطفى أمين ، وفي عام 1961 عمل في التلفزيون المصري في برنامج أقوال الصحف الذي أخذ شهرة واسعة كانت من أشهر البرامج في عصره ، وذات يوم منعت إحدى حلقاته بأمر من وزير الإعلام المصري في ذلك الوقت محمد عبد القادر حاتم ، فما كان من الزعيم جمال عبد الناصر الا أن استفسر شخصيا عن غياب تلك الحلقة من ذلك البرنامج الهادف، وعندما علم أن الحلقة أوقفت لسقفها العالي بأمر من وزير الإعلام ،  تدخل الزعيم في بثها وهكذا كان .

وبقي يذيع برنامجه حتى عام 1969م ، حيث عين مديرا لاتحاد الإذاعات العربية واستقال عام 1971م ، احتجاجا على قيام نظام السادات بتفتيش العاملين الفنيين  ثم عمل بعد ذلك في منظمة اليونسيكو من عام 1974 لغاية 1986م ،  وكان أفضل مندوب مشرف ليس لبلده الحبيب مصر فحسب ولكنه شرف كل العالم العربي أمام العالم الخارجي  .

ثم شارك في تأسيس قنوات فضائية عرفت باسم  MBC وقدم لفترة قصيرة برنامج مع حمدي قنديل على راديو وتلفزيون العرب، ثم غادر مستقيلا بسبب مقابلتين مع العقيد معمر ألقذافي والأستاذ طارق عزيز رحمهما الله ، وبعد ذلك  بأعوام وتحديدا عام 1998 عاد فقيدنا الكبير للتلفزيون المصري القناة الثانية ليقدم برنامج رئيس التحرير الذي شكل ثورة حقيقة في عالم الكلمة، وضاق به نظام مبارك ليجبر على الهجرة من جديد لدبي عام 2004م ، ليقدم برنامجه الشهير قلم رصاص الذي حظي بأكبر نسبة مشاهدة رفعت اسم دبي وحتى الإمارات عاليا  بذلك البرنامج .

ولكن لأن الأقزام تبقى أقزاماً مهما حاولت أن تلبس الكعب العالي وأن تضيف المساحيق على وجهها القبيح فقد ضاق به نظام دولة الإمارات لسقفه العالي ثم انتقل إلى الفضائية الليبية لمدة شهرين وبعد ذلك عاد إلى مصر بعد تأميم تلك القناة من الحكومة الليبية .

وتفرغ للكتابة في جريدتي مصر اليوم والشروق ثم أنهت الأخيرة عقده معها على أثر قضية رفعها عليه أحمد أبو الغيط وزير خارجية مبارك بتهمة السب والقذف في مزرعته، اقصد وزارته، عام 2010م ، وتم إسقاط تلك القضية التي لا وجه لها مع سقوط المخلوع حسني مبارك بعد ثورة 25 يناير .

ثم تفرغ الفقيد الكبير لكتابة مذكراته الشخصية التي صدرت تحت عنوان ( عشت مرتين) وهكذا كان فقيدنا صاحب موقف واضح ورأي لا يقبل أنصاف الحلول، وعندما كان يشعر في كل تجاربه بضغوط معينة يقدم استقالته لأنه احترم نفسه واحترم قدسية الكلمة المقروءة والمسموعة التي نذر نفسه إليها من أجل وطنه وأمته  .

ولن تنسى الأجيال كلماته الصادقة وهو ينعي رحيل الزعيم جمال عبد الناصر حيث كانت دموعه الصادقة أكبر وأبلغ من أي تعبير في كل الدنيا .

وبرحيله فقدت الأمة العربية ومصر بشكل خاص قامة إعلامية  قومية وإنسانية لا تعوض، ونزل الستار على مرحلة نسميها إذا جاز التعبير بعصر العملاقة الذي لا يتكرر.

لقد رحل الفقيد الكبير والذي سيبقى على مر الأجيال مدرسة للإعلام  والفكر المستنير ، ولا زلت أذكر على المستوى الشخصي عندما تكون هناك حلقة لأي من الأستاذين الكبيرين محمد حسنين هيكل أو حمدي قنديل كنت أغلق هاتفي وانقطع عن العالم طيلة بث تلك الحلقة .

اليوم للأسف برحيلهم أصبحت الساحة خالية إلا  من إعلام أولاد الكامب ديفيد .

رحم الله الاستاذ الكبير حمدي قنديل واسكنه فسيح جناته ، ونعزي أنفسنا  وأسرته ومحبيه على امتداد ساحات الوطن العربي الكبير، وسيبقى حمدي قنديل في تاريخنا مدرسة عظيمة للأجيال ولكل من يؤمن بحرية الكلمة وقدسيتها التي هي المقدمة الأولى للديمقراطية، كما قال زعيم الأمة الحاضر الغائب جمال عبد الناصر .

إلى جنات الخلد  يا فقيدنا الكبير حمدي قنديل .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى