غزة والضفة.. مسيرات العودة والعصيان المدني

لا تحتكر، ولا هو بالجائز أن تحتكر غزة وحدها جذوة المواجهة وبيرق النضال الفلسطيني الوطني المقاوم، وإن هي بدت في مثل هذه الأيام كذلك. نعم، هي ظلت وستظل محورية ورائدة ورأس حربة فيه. لكنما لا يمكن بحال عزل هذا النضال في بقعة فلسطينية عنه في سواها. زد عليه، أنه موضوعياً نضال له اشكاله المتعددة المتوائمة مع الظروف ومواقع التواجد المختلفة للشعب الفلسطيني المناضل. نعني هنا متعدد أماكن وجوده داخل الخارطة الفلسطينية التاريخية بلا استثناء، بدءاً بالضفة وانتهاءً بشتى أماكن الشتات والمنافي.
وإذا ما استطردنا، نعود لما قلناه دائماً من أنه، وبحكم مركزيّة القضية الفلسطينية بالنسبة لأمة بأسرها، أولا باعتبارها مسألة وجود لا حدود، وثانياً باعتبار كون قضاياها لا تجزأ، فإن الفلسطنة في هذه الحالة ليست سوى هوية نضالية، وما الفلسطينيون أكثر من طليعة اشتباك، أما تحرير فلسطين فمهمة هذه الأمة.
أعداء الشعب الفلسطيني لا ينظرون لهذا الأمر إلا كذلك. وإذ تتعدد هذه الأشكال النضالية الفلسطينية في تمظهراتها المختلفة ومستوياتها المتكيّفة بالضرورة مع ما يتوائم والظروف المحيطة أو تفرضه التعقيدات والمعيقات ، فهي تتكامل بالضرورة وتتضافر في سياق هدفين اثنين لا يُجمع ولا يجتمع الشعب الفلسطيني على سواهما، وهما التحرير والعودة.
لذا، نرى المحتل، وبينما هو يواجه مسيرات العودة وقد انتابه الإرباك وأذهله الصمود والعناد النضالي الغزيّ، على الرغم من كارثية الظروف في ظل حصار همجي مديد يشارك في فرضه العدو والشقيق، يضع يده على الزناد ولا يغمض له جفن مراقباً كل حركة أو سكنة في الضفة مستعيناً بالسلطة الأوسلوستانية والتنسيق الأمني مع أجهزتها الدايتونية. كما أن هواجسه الديموغرافية تترجمها استراتيجيته الترانسفيرية الكامنة وراء متوالية اجتهادات الكنيست “القانونية” حيال فلسطينيي المحتل   إثر النكبة الأولى.
تأجيل نتنياهو لتنفيذ قرار أصدرته محكمة الاحتلال العليا بهدم قرية الخان الأحمر رغم جهوزية التنفيذ مرده خشية ما تنذر به وتحذّر منه أجهزة كيانه الأمنية على اختلافها من تحوّل الغليان الشعبي في الضفة إلى انتفاضة يسرّع من اندلاعها الوهج النضالي الغزيَّ ويحفّزه. أي أنهم لم يؤجلوا هدم الخان الأحمر لأنهم استمعوا لاعتراضات أوروبية منافقة تعوزها الجدية، أو مناشدات لم يلقوا لها بالاً ذات يوم من قبل الأمين العام للأمم المتحدة، كما ولا كان ناجماً عن النضالات الاحتجاجية على الطريقة البلعينية التي يتغنّى بها الأوسلوستانيين. ومن لديه شك فليراجع ربع قرن بالتمام في ظل الكارثة الأوسلوستانية وما تدعى ب”المسيرة السلمية”…العدو يربط بين احتمالات هذا الاندلاع وما تجري من اشتباكات على سياج التطويق الاحتلالي للقطاع المقاوم، وبين انفجار الأوضاع في غزة واندلاع انتفاضة شاملة في الضفة وما سيكون لهما من صدى في الجليل والنقب.
وإذا كان صاروخ بئر السبع الردعي بامتياز وما حمله من رسائل خص بها المعتدين الملوّحين بالحرب، والمتوسطّين المساومين، الرغيف مقابل التهدئة والتهدئة مقابل وقف مسيرات العودة، هو الذي دفع نتنياهو لابتلاع تهديداته، فإن تواصل مسيرات العودة هو الذي حدا بلبرمان لأن يسمح بدخول شاحنات الوقود إلى غزة المحاصرة.
واستطراداً هنا لابد منه لما لا يمكن اغفاله، وهو، استحالة فصل كل ما تقدَّم عن ما تؤشّر عليه التحولات السورية التي لها ما بعدها، وبادي التعاظم المترتب عليها في راهن ومستقبل قدرات محور المقاومة، وبالتالي هواجس القلق الذي تعكسه تقارير المستويات الأمنية الاحتلالية المنذرة من تنامي قوة المقاومة اللبنانية ومتواتر تقديراتها المضطردة ارتفاعاً لحجم ترسانة حزب الله الصاروخية التي وصلت بها مؤخراً إلى 150000 صاروخ، مع إطنابها في التحذير من مستويات الدقة العالية والقدرة التدميرية التي وصلت إليها…كما ولا يمكن عزلها أيضاً عن التحوّلات الكونية المتسارعة، والأخرى المنذرة باقترابها إلى ربوع  بلاد العرب الواسعة، والتي يعجّل منها ويؤشر عليها تخبُّط سن اليأس المتعاظم لسياسات الأمبراطورية الأميركية في راهن نسختها الترامبوية المؤشرة بدورها على فوضى غير مسبوقة كونياً تشكّل البدايات المنطقية لتأسيس عالم تعدد القطبية الماثل حراكه الآن لنا عياناً.
هبّة الخان الأحمر أوقفت، وإن إلى حين، عملية الفصل التهويدي لشمالي الضفة عن جنوبها، وقبلها كانت انتفاضة باب العامود المقدسية قد عصفت بمخطط الأبواب الألكترونية على المداخل المحيطة بالحرم القدسي وأفشلته، ومسيرات العودة وابداعاتها النضالية المدهشة للعدو قبل الصديق وصمود غزة الأسطوري هما وحدهما ما سيرفعان جائر الحصار عنها، وإعجازية الصمود الإسطوري المقاوم هذه متكاملةً مع كافة اشكال النضال المقاوم المتاحة للفلسطينيين في كامل فلسطين والمنافي هو من سيفشل صفقة القرن، لاسيما، وكما اسلفنا، في مرحلة هي حبلى بالتحوّلات التي تذرو كثبان التبعية ولا تسير كما تشتهي سفن التصفية.
…ليس لغزة المقاومة إلا مواصلة صمودها وموالاة مسيرات العودة والاحتفاظ ببندقيتها المقاومة، وليس لضفة انتفاضة الفدائيين، سوى ما ليس منه بد، العصيان المدني، ومعاً، وفي هذه وتلك ما يقلب الطاولة مؤرخاً لمرحلة صراعية مختلفة آن أوانها ترعب العدو وتستثير معجِّلةً وعد أمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى