نزيف مخيف.. تصاعد هجرة اصحاب الكفاءات العرب الى عموم العالم

أظهرت عدة دراسات قامت بها جامعة الدول العربية ومنظمة اليونيسكو والبنك الدولي أن العالم العربي يساهم في ثُلث هجرة الكفاءات من البلدان النامية، وأن 50 بالمئة من الأطباء، و23 بالمئة من المهندسين، و15 بالمئة من مجموع الكفاءات العربية المتخرجة يهاجرون متوجهين إلى أوروبا والولايات المتحدة وكندا، ما يفرز تبعات سلبية على مستقبل التنمية العربية.

وذكرت تقارير أن 54 بالمئة من الطلاب العرب، الذين يدرسون في الخارج، لا يعودون إلى بلدانهم، ويشكل الأطباء العرب في بريطانيا وحدها 34 بالمئة من مجموع الأطباء فيها.

بدأت ظاهرة هجرة العقول العربية بشكل محدد منذ القرن التاسع عشر، وخاصة من سوريا ولبنان وفلسطين ومصر والجزائر، وفي بداية القرن العشرين ازدادت هذه الهجرة وخصوصا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وتعد المنطقة العربية أكثر منطقة يضطر علماؤها وكفاءاتها إلى الهجرة وهم من المهندسين والأطباء وعلماء الذرة والفضاء، حيث أن أكبر نسبة مهاجرين للأدمغة في العالم من سكان المنطقة العربية.

العالم العربي، وفي منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على وجه الخصوص، يعاني من هجرة الكفاءات العلمية لأسباب عديدة ومتداخلة يأتي الجانب المعيشي على رأسها، ففي بلد مثل تونس على سبيل المثال، هاجر 10 آلاف مهندس إلى خارج البلاد إلى حدود العام منذ العام 2016 بسبب تردي وضعيتهم المادية، في ظل حصولهم على أجر في الوظيفة العمومية لا يتجاوز 1300 دينار (600 دولار)، وفق نقابة المهندسين، والتي طالبت نواب البرلمان بسن قانون أساسي منظم للقطاع.

ويحذر مثقفون عرب من هذا الصدع الكبير الذي يصيب البلاد العربية وهو الاغتراب داخلها وفيها، ويؤدي إلى تفسخ الرابطة بين الفرد والمجتمع، والصدع الأكبر هو نزيف الأدمغة العربية المستمر نحو الغرب.

وهنا لا نعني بهجرة العقول والمثقفين من العالم العربي فقط حملة الشهادات الجامعية العليا من الدكتوراه والماجستير، بل جميع الكفاءات والخبرات في مختلف الميادين الإنسانية والعلمية في الطب والهندسة والاقتصاد والإعلام والفنون.

وفي المقابل، فإن لسائل أن يسأل: ألم يتغير العالم اليوم وأصبح عبارة عن قرية كونية صغيرة ذابت فيها الخصوصيات، وانهارت معها الحدود الجغرافية والمعرفية والسياسية التقليدية لتحل محلها ثقافة “المشترك الإنساني”؟ لقد أصبح مفهوم “هجرة الأدمغة” يتحول من عنوان للتبعية إلى نوع من القيمة المضافة التي يعطيها الفرد لنفسه ولدولته ولشعبه.

صحيح أن دول “الأطراف” التابعة والمتخلفة تنفق الكثير من المال والجهد لتكوين كوادرها العليا التي سوف تنتقل إلى دول “المركز”، لكن بالمقابل فإن هذا الانتقال ليس شرا مطلقا.

فمن يسافر ويكون قادرا على الاندماج في العالم المتقدم ليس فردا شوفينا ولا فردا وطنيا صرفا بل هو عبارة عن مواطن عالمي نهل من المدرسة والجامعة المحلية كل ما وصل إليه العالم الحديث من معارف وعلوم وتقدم، وبالتالي فالبعد الكوني حاضر فيه منذ تكوينه الأساسي، فالعلم لا جنسية له. إضافة إلى أن من سيسافر سيؤمن لنفسه مستقبلا علميا وعمليا ما كان يمكن أن يحققه في بلده الأصلي نظرا لضعف الفرص في دول العالم الثالث، وبالتالي فهو يؤمن لنفسه ولعائلته ولجيل برمته آفاقا أرحب ومستقبلا أفضل دون التخلي عن هويته وأصوله، ولنا في الهنود المنتشرين في كل أرجاء المعمورة وقصص نجاحهم خير مثال على ذلك.

كما أن الكفاءات المهاجرة إذا وجدت الرعاية والإرادة السياسية من دول المنشأ فإنها ستتحول إلى نقاط قوة لبلدانها وشعوبها الأصلية حيث سيتحولون إلى سفراء لهذه الشعوب يدافعون عن مصالحها من داخل منظومة الدول المتقدمة نفسها.

فأن تكون مستشارا في مراكز القرار السياسي أو رجل أعمال معروفا وناجحا أو مدير شركة مرموقة في الخارج أو طبيبا أو مهندسا أو أستاذا جامعيا متميزا فذلك يعطي أفضل صورة عن بلدك وشعبك، صورة لا يمكن أن تعطيها أكبر الحملات الترويجية والدعائية التقليدية.

كما يمكّن دولته وشعبه من أن يكون لهما من يمثلهما ويمثل مصالحهما في الدول المتقدمة وبالتالي يكون جزءا من مجموعة ضغط وعلاقات عامة تعمل لصالح بلده وشعبه. فنحن في عصر التشبيك بامتياز وليس في عصر الهويات المتشنجة والمتقوقعة والمنغلقة على نفسها، وهذا ما يفترض أن نكون في صميم المشترك الإنساني إذا أردنا أن نكون فاعلين أفرادا وشعوبا ودولا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى