كانت فلسطين قبل قيام الدولة الصهيونية عام 1948 معروفة بازدهارها وتقدّمها وخصوبة أراضيها وانتاجها الزراعي الوفير كمّا والمميّز نوعا، وكانت مدارس البنين والبنات الابتدائيّة والثانويّة التي تقدّم تعليما جيّدا موجودة في جميع مدن فلسطين، وأتاحت الفرصة للمرأة للحصول على تعليم جيّد مكّنها من العمل في مجالات مختلفة، ومن المساهمة في ازدهار تعليم البنات في بلدها، والمشاركة في تأسيسه وممارسته في عدد من الدول العربية منذ بداية الثلاثينيّات من القرن المنصرم.
المرأة الفلسطينية في مدن وقرى فلسطين معروفة بأصالتها وسموّ أخلاقها، ووفائها، وحرصها على حماية وتماسك أسرتها، واهتمامها بتربية وتهذيب أبنائها وبناتها، وتعاونها وتعاملها الطيّب الودود مع الآخرين، وتديّنها الفطري، واحترامها لعادات وتقاليد وقيم الآباء والأجداد، وكفاحها وتضحياتها من أجل تحرير وطنها.
وعلى الرغم من أن المرأة الفلسطينية القرويّة كانت حتى بداية الخمسينيّات من القرن الماضي أقلّ حظّا في التعليم من المرأة الحضريّة، وتعليمها اقتصر على تعلّم القراءة والكتابة والدين والحساب في ” الكتاتيب”، ومعزولة ومحرومة من الخدمات العامّة الأساسيّة كالكهرباء والماء والتلفون والأسواق المزدهرة ووسائل الترفيه، فإنها قامت بدور محوري في الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة في قراها.
كانت الحياة الزوجيّة في الريف شبه مقدّسة لأنها ” تستر ” المرأة والرجل، وتنتج رجالا يساعدون آباءهم وأمهاتهم في الزراعة وفي شيخوختهم وأوقات ضعفهم، وبنات صالحات يتزوّجن وينجبن؛ ولهذا كانت الزوجة البسيطة الطيّبة تعطي زوجها كل ما تستطيع، وتبذل جهدها لإسعاده ومشاركته مسرّاته وأحزانه، ونجاحه وإخفاقه، وتوفّر له حياة هادئة هانئة بسيطة وهي مرتاحة البال وواثقة بأن زواجها سيدوم حتى النهاية؛ ولهذا كانت نسب الخلافات الزوجيّة والطلاق والانفصال قليلة جدا، والأزواج والزوجات يعيشون بسعادة فطريّة طبيعيّة لا علاقة لها بمشاكل وتعقيدات وطقوس الحياة الزوجيّة في المجتمعات الحضرية الأكثر تطورا آنذاك.
وكربّة بيت كانت تحرص على الاهتمام ببيتها البسيط وتنظيفه، وتبذل قصارى جهدها في إطعام أطفالها والمحافظة على نظافتهم وصحّتهم، وتعيش حسب إمكانيّات زوجها، وترضى بما كان بمقدوره أن يقدّمه لها ولأفراد أسرتهما، وتؤمن بالمثل الشعبي القائل ” على قد فراشك مد جريك”؛ وتتولّى كامل المسؤوليّة عن رعاية بيتها وأبنائها وبناتها وإدارة شؤون عائلتها عندما يغادر زوجها قريته بحثا عن الرزق في دول الخليج أو في دول عربيّة وأجنبيّة أخرى.
كأم ومربية قدّمت الفلاحة البسيطة، بطرقها الخاصّة وعفويّتها وقدراتها العقليّة الخالية من التعقيد، الكثير لأبنائها وبناتها؛ فكانت الأم الحانية التي تسهر على تربيتهم تربيّة صحيحة قائمة على التشجيع والرعاية والمشاركة الوجدانيّة والعقليّة، والثقة بالنفس والاعتماد عليها، والقناعة، والاستقامة ومخافة الله، والحرص على مصالح وكرامة ومشاعر الآخرين، واحترام الكبير والصغير؛ وكانت تسهر معهم وتروي لهم القصص التراثية المحكيّة المتوارثة، وتساعدهم في حلّ مشاكلهم الشخصيّة، وتوجّههم لما فيه الخير لهم ولغيرهم.
حتى نهاية الستينيات من القرن المنصرم كانت الفلاحة تساهم مساهمة فعالة في حياة الاسرة الاقتصاديّة من خلال مشاركتها في حراثة الأرض وتعشيبها، والحصاد والدراس، وقطف الزيتون واللوز، ” وبحاشة “: حراثة الأرض وخاصة ” العماير” البساتين، ” والجناين” الواقعة حول البيوت وزراعتها باستخدام ” الفأس والمنتوش”، وفي ” تلقيط ” قطف التين والصبر والعنب واللوز الأخضر الخ، وفي تربية وإطعام وحلب حيوانات الأسرة من أبقار واغنام ، وعملت كحطّابة تجمع ” النتش” من الجبال وتحمله على ظهرها لتستخدمه كوقود للطبخ، وكملّاية تحمل تنك الماء من الآبار على رأسها، أو ” ترد ” تذهب لجلب الماء من العيون البعيدة لتسقي أسرتها وتغسل ملابسهم .
وفيما يخص ” مونة ” العائلة: أهم ما يلزمها خلال العام، كانت تقوم بتحضير ” الكشك ” الجميد لتستخدمه في الطبخ، والجبنة المغلية، والزيتون والمخللات، والسمنة البلدية، والفريكة، والبرغل، وتجفف الطماطم وبعض أنواع الخضار لاستخدامها في فصل الشتاء، وتعمل المربى من التين والعنب والخوخ، وتصنع الصابون الذي تستخدمه هي واسرتها للاستحمام وغسل الملابس في بيتها، وتربي الدواجن للاستفادة من بيضها ولحومها معظم أيام السنة، وكان بعضهن يربين أرانب وديك رومي وحمام في بيوتهن.
وكانت زوجة صاحب الأغنام ” تعزّب ” تقيم معه في فصل الربيع في الأغوار، وتشارك أحيانا في ” السراحة ” أخذ الأغنام والأبقار إلى السهول والجبال المحيطة لترعى، وفي حلب الأغنام والأبقار، وعمل أنواع من الجبنة والرائب لبيعها في القرى وأسواق المدينة المجاورة.
وكانت تشارك في أفراح وأحزان الأقارب والأصدقاء وأهل القرية، وتحافظ على علاقات وديّة مع الجيران وتحمي ممتلكاتهم عندما يغيبون عن البيت، وتثني عليهم أمام الآخرين وتحافظ على سمعتهم كما تحافظ على سمعة أسرتها؛ وتتبادل معهم اطباق الطعام والحلوى، خاصة في شهر رمضان، كتعبير عن الحبّ والتعاطف والمودّة حيث كان للجيرة احترامها وقدسيتها ومكانتها المميّزة في ذلك الزمن الجميل.
وفي بيوتهن كن يرتدين ” خلقان ” فساتين طويلة واسعة تصل إلى الكعبين، و” شداد ” حزام من القماش الملوّن للصغار وأبيض للكبار، ولفحات: غطاء رأس قطني مختلف الألوان يشبه الشماغ للرأس، أو” خرق ” بيضاء، وعندما يخرجن من بيوتهن كن يرتدين عباءات تمنع الآخرين من مشاهدة وجوههن، وكان من مظاهر الحياء والأدب ألا تتكلم المرأة إلا مع أقاربها، وأن تقبّل أيادي الرجال والنساء الأكبر منها سنا، وأن تقف على جانب الطريق عندما يمر رجل، وكن يسلكن طرقا فرعية ليتجنبن المرور من مراكز تجمع الرجال!
وكانت لقاءات النساء تنحصر في الزيارات، حيث يزرن بعضهن بعضا، ويلتقين في أماكن معيّنة في المساء، ما بين العصر والمغرب، وفي الطوابين عندما يخبزن ليتبادلن الأحاديث عن آخر أخبار أهل الحامولة والقرية؛ وكن كذلك ” يتعلّلن” يسهرن معا أحيانا لفترة وجيزة بعد غروب الشمس؛ حتي نهاية السبعينيات من القرن الماضي لم يكن في عقربا ومعظم قرى فلسطين كهرباء أو أجهزة تلفاز، فكان الأطفال ينامون بعد غروب الشمس بقليل، ومعظم الرجال والنساء ينامون قبل أو بعد صلاة العشاء مباشرة ويستيقظون قبل شروق الشمس.
وكان من الشائع ان تنجب المرأة عددا كبيرا من الأطفال قد يصل إلى عشرة أو أكثر وهي ما زالت دون الأربعين من عمرها؛ كان الآباء والأمّهات بسطاء، والحياة رخيصة، وتربية الأطفال غير مكلفة مقارنة بوقتنا الحالي، والناس ينجبون أطفالا ويسلّمون أمرهم لله الذي سيرزقهم ويتكفّل بإطعامهم وإلباسهم؛ لكن الأطفال حديثي الولادة كانوا يموتون بأعداد كبيرة؛ ولهذا فإن معظم الأمهات كن يفقدن بعض أطفالهن بعد الولادة بعدّة أيام أو أسابيع قليلة بسبب غياب العناية الطبيّة، وبعضهن فقدن حياتهن خلال الولادة التي كانت تقوم بها ” دايه ” قابلة تعلّمت المهنة بالخبرة ولا تعرف كيف تتعامل مع الحالات الطارئة أو غير العاديّة.
وبالنسبة للزينة كانت ” المكحلة ” كيس مزركش بالخرز تضع المرأة فيه الكحل، و” مرواد ” عود خشيب على شكل مسلّة تضعه في الكحل وتمرّره بين جفنيها ورموشها لتكحّل عينيها؛ أما تحضير العرائس يوم الزفاف فكان يتم محليّا؛ لم يكن في القرية صالونا لقص شعر النساء وتجميلهن، وكانت تقوم بقص شعر العروس وتجميلها وتحضيرها للصمدة إحدى قريباتها أو امرأة معروف عنها القدرة في هذا الأمر، أما ” المكياج ” استخدام ” الحومرة ” والبودرة وصبغ الأظافر وتلوين أجفان العيون فلم يكن شائعا.
كان للفلاّحات الفلسطينيات دورا رائدا في تربية أبنائهن وبناتهن واسعاد أزواجهن ونجاح أسرهن وتطوير مجتمعاتهن القرويّة؛ وكان لهن عالمهن الخاص بهن الذي حدّدته لهنّ العقائد والعادات والتقاليد المتوارثة ومفاهيم العيب والحلال والحرام؛ ولهذا كان عالمهن متناقضا، وأحيانا ظالما لا يعطيهن حقوقهن كاملة، ويتعارض مع العقل والمنطق.
ففي معظم قرى مشاريق فلسطين، ومن بينها قرية عقربا، كان الاختلاط بين الجنسين محرّما؛ ولهذا كانت النساء لا يجالسن أو يختلطن بأحد غير محارمهن وأقاربهن من الرجال؛ وعندما يذهبن بصحبة أزواجهن أو أقاربهن إلى الحقول أو إلى المدينة يسرن خلفهم؛ وكن محرومات من التعليم، ومن مشاركة أزواجهم أو آبائهن في معظم القرارات الهامة التي تعنيهن وتؤثر على مستقبلهن، وينظر إليهن ككائنات أقلّ شأنا من الرجال؛ لكنهن، وعلى الرغم من هذا الظلم، كن صابرات وراضيات ومقتنعات وسعيدات بعالمهن، وواثقات بأن الله سيجزيهن خيرا على جهودهن وتضحياتهن في الدنيا والآخرة.
هؤلاء الفلاحات هن جدّات وأمهات الشهداء والشهيدات والعلماء وأستاذة الجامعات والأطباء والمهندسين والمدرّسين والتجار والعمال إلخ. الذي ساهموا مساهمة فعّالة في بناء وتطوير فلسطين والعالم العربي. فشكرا لهن على تضحياتهن ووفائهن وخدماتهن لأسرهن ووطنهن وأمتهن العربية.