الاغتيالات السياسية.. هل تُغيّر مجرى التاريخ؟

هذا الكتاب الممتع يمكن أن يقرأ كرواية بوليسية شيقة جداً، وهو من تأليف باحثين فرنسيين مشهورين؛ الأول هو جان لاكوتير، صاحب الكتب المعروفة عن العالم العربي، بمغربه ومشرقه، وبالأخص مصر. وأما الثاني، فهو جان كلود غيبو، الأكثر تعمقاً من الناحية الفلسفية، والمختص بنقد الحداثة الفرنسية بكل مزالقها وتطرفاتها، دون أن ينسى إيجابياتها بطبيعة الحال. إنه كتاب مشترك، ولكن بقلمين منفصلين تماماً، لا مختلطين. فكل واحد كلف بكتابة فصول محددة بدقة مختلفة عن الفصول التي كتبها الآخر. فمثلاً، جان لاكوتير كتب الفصول المتعلقة باغتيال كل من جون كيندي، وأخيه روبيرت كيندي، وأنور السادات، وأولوف بالم، ومحمد بوضياف، وإسحاق رابين، ورفيق الحريري. وأما جان كلود غيبو، فدبج الفصول المتعلقة باغتيال بي نظير بوتو، ومارتن لوثر كينغ، وألدو مورو، وأنديرا غاندي، وبشير الجميل، إلخ. وعنوانه الحرفي هو التالي: «هل ماتوا من أجل اللاشيء؟ نصف قرن من الاغتيالات السياسية».

وفي مقدمة الكتاب، يقول المؤلفان شارحين مقصدهما: ما نريد إيضاحه هنا ليس فقط سبب الاغتيال، وظروفه وحيثياته، وإنما بالدرجة الأولى انعكاساته على السياسة المحلية أو العالمية. فكل عملية اغتيال لشخصية سياسية معينة تهدف بالضرورة إلى إجراء تغيير أو تعديل على السياسة السائدة، وإلا لما خاطر القتلة بعمليتهم. دعونا نطرح هذا السؤال: إلى أي مدى أدت تلك الرصاصات القاتلة في دالاس إلى تغيير تاريخ الولايات المتحدة، وتالياً تاريخ العالم كله؟ السؤال نفسه يطرح على تلك الرصاصات التي أودت بحياة القائد المناضل الفذ مارتن لوثر كينغ، بعد 4 سنوات من ذلك التاريخ. وقس على ذلك مصرع الرئيس السادات على أيدي المتطرفين الإسلامويين.

لنتوقف هنا، ولو للحظة، عند الفصل الذي كتبه جان كلود غيبو بعنوان: «مارتن لوثر كينغ: موت حالم كبير وانتصاره». في رأيه، فإن مارتن لوثر كينغ انتصر على جلاديه أو قتلته بعد موته بأربعين سنة فقط. كيف؟ عندما انتخبت أميركا عام 2008 أول رئيس أسود في تاريخها. فالزعيم الأسود العظيم الذي سقط تحت رصاصات الحقد العنصري الأعمى عام 1968 هو الذي أدى مباشرة إلى انتخاب باراك أوباما عام 2008. لولا هذا لما كان ذاك. لولا نضالات مارتن لوثر كينغ، لما حصل ملايين السود الأميركيين على حقوقهم المدنية والاجتماعية والصحية والتعليمية، وأخيراً السياسية. لا شيء عظيماً في التاريخ يتحقق دون نضالات مريرة وتضحيات جسام. هذه هي فلسفة التاريخ التي أفهمها وأعتنقها وأومن بها. وهي فلسفة تقول لك ما معناه: صحيح أن هناك ظلماً وقهراً في العالم. صحيح أنه يبدو أحياناً هائلاً ضخماً إلى درجة أنك تيأس سلفاً من مواجهته، بل لا تتجرأ على ذلك. ولكن الرجال العظام، من أمثال مارتن لوثر كينغ، لا ييأسون من رحمة الله ولا يقنطون. ففي قلوبهم، يترعرع إيمان راسخ رسوخ الجبال، وهو الذي يدفعهم للتضحية بكل شيء، بما في ذلك حياتهم الشخصية، من أجل قضية الحق والعدل. وبالتالي، فعلى جميع السود أن يشكروه. عليهم أن ينحنوا أمام سقوطه المدوي تحت رصاصات الغدر، يوم 4 أبريل (نيسان) من عام 1968. لقد ضحى بنفسه من أجل الآخرين، من أجل المظلومين المحتقرين بسبب لون شعرهم أو بشرة وجوههم. قال لي أحدهم أمام البناية في باريس: يا أخي، أنا أسود اللون، ولكن روحي ليست سوداء! الروح ليست بيضاء ولا سوداء. الروح لا لون لها. وفوجئت بكلامه الذي أعجبني جداً.

لننتقل الآن إلى قصة اغتيال الرئيس أنور السادات: هل غيرت هذه الجريمة مجرى التاريخ العربي والعالمي؟ أبداً، لا. فاتفاقية كامب ديفيد لا تزال سارية المفعول حتى اللحظة. ومعلوم أن الرجل سقط صريعاً مضرجاً بدمائه بسبب توقيعها، لكن الشيء الذي غير مجرى التاريخ هو مغامرة السادات بنفسه، وذهابه إلى الكنيست الإسرائيلي، وإلقائه لخطابه التاريخي هناك، تحت أنظار العالم الذي يحبس أنفاسه ولا يكاد يصدق ما يراه. هذا الحدث هو الذي قتل أنور السادات. بدءاً من تلك اللحظة، أصبح شبه ميت، أو في حكم الميت. لقد دفع حياته ثمناً لاقتحامه الجنوني الذي أدى إلى انعطافة كبرى في تاريخ المنطقة. وسواء أحكمنا عليه سلباً أم إيجاباً، فإن ذلك لا يغير في الأمر شيئاً. السادات دخل التاريخ لأنه انتهك أكبر تابوهات التاريخ. وانتهاك التابوهات، أو المحرمات العظمى، يدفع ثمنه عادة دماً ودموعاً. هذا أيضاً أحد قوانين فلسفة التاريخ. بشكل من الأشكال، يمكن القول إن السادات بفعلته المباغتة والمرعبة تلك أحدث خرقاً في جدار التاريخ العربي المسدود. كيف تجرأ عليها؟ كيف رمى بنفسه في أحضان المجهول؟ كيف تجرأ على تحطيم ذلك الجدار السيكولوجي الهائل الذي يفصل بين العرب واليهود؟ كان الفيلسوف كيركغارد يقول هذه العبارة الرائعة: لحظة حسم القرار لحظة جنون! ولكنه دفع الثمن نيابة عنا جميعاً. هناك تفسير آخر: ربما كان السادات معقداً من شخصية جمال عبد الناصر البطولية الضخمة، بل هذا مؤكد. وبالتالي، فلكي يخرج من ظله، من تحت معطفه، كان ينبغي أن يرتكب فعلة هائلة لا يكاد يصدقها العقل. ولولا ذلك، لما استطاع الخروج من عباءة جمال عبد الناصر. لولا ذلك، لظل رئيساً صغيراً، وأكاد أقول قزماً، قياسا إلى زعيم القومية العربية. بل وحتى بعد أن ارتكب أخطر أنواع المحرمات، فإنه لم يستطع أن يرتفع إلى مستوى قامة جمال عبد الناصر، ولكنه حازاها، بل وكاد أن يغطي عليها، وذلك لأنه استطاع أن يصبح رئيساً حقيقياً قادراً على اتخاذ أخطر قرار في تاريخ السياسة المصرية والعربية. بهذا المعنى، فقد دخل التاريخ، وأي دخول! قد تقولون إنه دخله من أبشع أبوابه. ربما، ولكنه دخله. وحتى الآن، لم تخرج السياسة العربية عن النهج الذي اختطه، بل تابعته فصولاً، وسارت على أثره.

اسمحوا لي الآن أن أنتقل إلى قصة أخرى هزت العالم كالزلزال، وأقصد بها اغتيال الزعيم الإيطالي الطيب المحبوب ألدو مورو: يقول الفيلسوف جان كلود غيبو ما فحواه: لقد كان ألدو مورو القائد التاريخي التقدمي للديمقراطية المسيحية الإيطالية؛ إنه إحدى الشخصيات الأكثر أهمية في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، والأكثر حظوة بالاحترام والتقدير. وكان قبيل خطفه في طور التوصل إلى تسوية تاريخية بين الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الشيوعي، وهو حدث خطير هائل في تاريخ السياسة الإيطالية. وكانت هذه التسوية تقضي بدخول بعض الوزراء الشيوعيين إلى الحكومة لأول مرة في تاريخ إيطاليا، ولكن هذه المبادرة التي اتخذها وتحمل مسؤوليتها، والتي حصلت في عز الحرب الباردة، أزعجت الولايات المتحدة كثيراً. والأخطر أنها أزعجت بشكل خاص المخابرات المركزية الأميركية. ولا ينبغي أن ننسى معارضة البابا بولس السادس الشديدة لها. وبالتالي، فقد وقفت في وجهه أكبر قوتين في العالم: الأميركان والفاتيكان. بدءاً من تلك اللحظة، أصبح مصيره على كف عفريت، فقد ضرب ضربة أكبر منه، وتجاوز كل الخطوط الحمر، وسوف يدفع الثمن غالياً. وكان هنري كيسنغر (الحائز جائزة نوبل للسلام!) قد هدده أكثر من مرة لكي يتراجع عن التقارب مع الشيوعيين، ولكنه لم يرتدع.

لقد استمر خطف ألدو مورو 55 يوماً، بالتمام والكمال: من 16 مارس (آذار) 1978 إلى 9 مايو (أيار) 1978. وقد شغلت وسائل الإعلام العالمية الكبرى طيلة 3 أشهر تقريباً، وتحولت إلى مسلسل تلفزيوني يتوالى فصولاً، يوماً بعد يوم. وكان العالم يلهث وراء الأخبار وتطورات القصة حتى حلت تراجيديا، عن طريق قتله بشكل مجرم شنيع. وماذا كانت نتيجة العملية؟ ذلك أن كل عملية اغتيال للشخصيات الكبرى تهدف كما قلنا إلى إحداث تغيير معين في السياسة الدولية. في الواقع، إن اغتيال ألدو مورو أعطى ثماره، إذا جاز التعبير. فـ«التسوية التاريخية» التي أرادها مع الحزب الشيوعي أجهضت، وهذا ما أثلج قلب أميركا. أما الثمرة الأخرى، التي لا تقل أهمية، فهي فقدان اليسار المتطرف لمصداقيته، ليس فقط في إيطاليا، وإنما في كل أنحاء أوروبا. صحيح أن ذلك لم يحصل فوراً أو دفعة واحدة، وإنما بالتدريج، ولكنه حصل. بعدئذ، لم تقم للشيوعية قائمة، بل وانهار جدار برلين، والعالم الشيوعي كله، بعد عشر سنوات فقط من فاجعة ألدو مورو. وقد اعترفت إحدى «مناضلات» الألوية الحمراء بالحقيقة لاحقاً، عندما قالت: «لقد أعمتنا الأدلجة العمياء. لقد حولتنا إلى وحوش حقيقية، لا بشرية ولا إنسانية».

بقيت نقطة أخيرة. كل الدلائل تشير إلى أن المخابرات المركزية الأميركية تلاعبت بالخاطفين، بشكل مباشر أو غير مباشر، على الرغم من أنهم أعداؤها التاريخيون. والدليل على ذلك أن ألدو مورو شخصياً قال لخاطفيه وجلاديه هذه العبارة الرهيبة: «هل الأميركان هم الذين طلبوا منكم أن تصفوني؟»؛ لاحظ كيف تحول اليسار الشيوعي المتطرف إلى أداة في أيدي الإمبريالية الأميركية! يا لها من سخرية الأقدار… هل هو مكر التاريخ كما يقول هيغل؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى