قراءات وتأملات في فكر الدكتور منيف الرزاز

( في ذكرى رحيله الرابعة والثلاثين )

 

مقدمة :

تعرفي على الدكتور منيف الرزاز بدأ بتعرفي على انسانية هذا المفكر الكبير ومن ثم تعرفي عليه معلماً ألهمني الكثير من الأفكار وقادني إلى دروب جديدة في الفهم والتحليل والتأمل والنقد والتفكير، ولذلك بقي في وجداني وعقلي حتى اللحظة منارة معرفية ومناضلا نموذجياً، وبقيت أتتلمذ على اشاراته وتنبيهاته ونصوصه وإيحاءاته، مستفيدا من عمق أفكاره ورصين حواراته وقوة منهجه ومنطقه، وعزّ علي أن نفتقده في لحظة فكرية – سياسية انتقالية كنا نرى فيها الآتي الفاجع والمختلف ونذر الانسداد والآفاق المسدودة ، وبقي لنا العزاء في هذا التراث الفكري الكبير والثرّ الذي تركه الدكتور للأجيال العربية وبقي معاصرا لنا ولواقعنا العربي وبقي موحياً وملهماً لكل عربي يريد الخطو على طريق الحرية والنهضة والاستقلال .

قد تبدأ اللحظة الانسانية والمعرفية المؤثرة والجوهرية عابرة أحيانا واستثنائية ، ولكنها بفعل التأثر والوعي والانتباه الانساني والعقلي تمكث في النفس وتستقر في الروح وتأسر صاحبها في شرنقة الاهتمام والمتابعة وتقيده في سياجها المحبب أو غير المرغوب فيه احيان اخرى، وتخلق للاسترسال الشعوري متسعاً،  ولكل صنوف اللوعات والمسرات فرجة للظهور والتمدد في الداخل الإنساني   حتى تصل الأمور بالمرء ليقول في لحظة فاجعة : لماذا عبأت نفسي بعذاب التذكر والاسترجاع وقسوة اللحظة ؟ ولماذا أشرعت   لنفسي أفقاً قلقاً ومقلقاً ومساحة للتأسي في كل لحظة ؟ .

ثم تستمر التأملات وتأخذ حيزها وتكبر في الإنسان فيأخذ بيدها للظهور والتبلور ويقودها معراة أمام الرأي العام فيتساءل الناس إن كانت هذه التأملات لحظة مجيدة أم لحظة بليدة، وعما إذا ما كان التأمل يفتتح أفقا في المعرفة أم يدخل المرء في نفق الالتباس السياسي والمعرفي ؟ وتخلع الأفكار غلالاتها فتبدو هكذا كما خلقت وولدت واستقرت في العقل وفي صورها الواضحة فتقوم العلاقات التواصلية والتكاملية بين الأفكار وجماهيرها ويتولد من خلال ذلك فكر الانتهاض والنهضة أو الانغمار في حالة تراجع وسقوط في سياق تلك الجدلية التي رافقت الفكر العربي في عهوده المختلفة.

وتتحرك الأسئلة وبعدها الحوار فتفصح المجتمعات عن قلقها وعذاباتها وتشخّص آلامها وقليلا ما تأسرها محنها وفواجعها وتعيقها عن الانفتاح على فضاءات ايجابية مغايرة ، ثم يتلو ذلك الشروع في ثقافة ادراك ويقظة واندفاع مفترض نحو امتلاك التاريخ وتغيير المعاش والأحوال نحو الأسمى والأكثر حفظا لحقوق الإنسان وكرامته .

هذه مقدمات عامة ومداخل فكرية مبتسرة لإنعاش وإدخال لحظة استثنائية ومميزة في وعينا كان رمزها وعنوانها المفكر القومي منيف الرزاز ، وهذه افكار انتقائية ومتقاطعة ومتداخلة قد نبدأ بها الحوار الجديد والجدي عنه وقد نستعيد من خلالها قبسا يزيح بعض الغشاوات عن مسارات واشكاليات فكره، وقد تبعث الحنين الى زمن فكري صاعد تم تضييعه جراء الضحالة الثقافية والكسل الفكري واحتقار المفكرين والتوحش السلطوي، وربما تستنهض في داخلنا سؤالا كبيرا وضروريا حول الاجتهاد والتجديد في الفكر القومي ودور الرزاز في ابتدائه وإشاعته وتحويلة الى اطروحات فكرية مفصحة عن حقيقته وثوريته ووعوده .

كنت ولا أزال أعتقد أن لحظة منتصف السبعينيات من الزمن الفكري القومي العربي هي اللحظة التي برز فيها السؤال الحائر والنقدي حول مستقبل الفكر والعمل القومي على الصعيد القومي العام والبعثي بشكل خاص،  وبدأ الحزب يبحث عن أجوبة لأسئلة مخبأة ومضمرة ومسكوت عنها أو جرى طمسها وإهمالها جراء انتهاء بقايا المرحلة الخمسينية والستينية الأولى بالإخفاق وعدم تحقيق الأحلام والأماني القومية ، وكان البعثيون إجمالا لا يجدون أجوبة دقيقة ومخصبة في فكرهم التقليدي ” العتيق ! ” ولذلك اتجهت أنظار الجيل الجديد إلى الدكتور منيف الرزاز لكي ينقذ اللحظة والمرحلة وخصوصاً أن جهات بعثية متعددة بدأت تلمح وتلامس فيه مناضلا واقعيا ومفكرا قوميا قادرا على تحليل وتشخيص المراحل النضالية ومهماتها واستنباط مهمات للمراحل القائمة والقادمة ، وكانت تلك الفترة هي فترة الانفتاح الفكري العربي والارتحال إلى التيار والفكر الماركسي وأدبياته وأطروحاته ومقولاته ونزوع كثير من الجهات والتيارات لدراسة وتبني هذا الفكر وتقليده واستنساخه وتمثله في التنظيم والتفكير والممارسة السياسية ” تبنياً إطلاقياً واستسلاماً لمسلماته لا استلهاماً وتوظيفاً لبعض جوانب منهجه ” .

هنا في هذا الزمن الفكري الصعب ” والقلّب ” كان الدكتور منيف يؤسس لفلسفته وفكره السياسي البديل والذي أسماه لاحقاً ” فلسفة الحركة القومية العربية ” ، ومن خلال ذلك كان عقله النقدي يؤسس لحقبة الانتقال من الرومانسية إلى الديناميكية الثورية والانقلاب ، ومن التجريد إلى التحقق ، وكان يسعى إلى تحويل هذا ” الهوس والانهمام اليساري الماركساوي العربي شبه الجماعي ” بالفكر الماركسي إلى عقلانية فكرية نقدية ومنهجية قومية استقلالية تأخذ من تراث الشعوب العالمي ومنظوراتها المعرفية والحضارية وتوظفها في تحليل معطياتها ومجتمعاتها ، ولكنها لا تستسلم لحرفية معطيات هذا الفكر ومسلماته ومنظوماته وأجهزته المفهومية وإطلاقياته وحتمياته ، وتكون في سياقاتها مع العلمّية في النظر والتحليل والاستلهام،  ولكنها ضد الاستسلامية العلمية .

هذا العقل الرزازي النقدي آمن بتدرجية تغييرية ولم يرد بأي حال أن يقطع ويفترق   عن الفكر القومي وثوابته بل أراد أن يؤسس في داخله مساحة معرفية “شغّالة ” بتعابير أركون تعيد النظر باليقينات وتزحزح بعض المعطيات والركائز بغية تأجيج وتعميق العقلانية النقدية وإعطاء تفسيرات واقعية للمعطيات الواقعية البارزة في الأفق والمناخ السياسي العربي .

إذن كانت وراء هذه الأطروحات غايات تطبيقية تريد الوصول إليها عن طريق مساءلة الأفكار والأحداث والوقائع والتحديق في كنهها ومساربها لكي يوضح للجماهير المناطق الممكنة للانطلاق والانبعاث والوصول إلى الغايات . فهو في مشروعه الفكري الحركي النضالي يبحث عن إمكانات تحقق الأفكار أكثر من بحثه عن تناسقها وانتظامها .

مفاتيح لفهم بعض اشكاليات الوطن العربي

أطلق الدكتور منيف العنان لتأملاته وأطروحاته الفكرية النافذة في الخمسينيات لكي تأخذ مكانها في المجال الفكري القومي،  وبدأ يرتب أفكاره وتأملاته بما يعني تأسيس العقلانية النقدية وركائز الاجتهاد السياسي الخلاق وطموحاته الفكرية التجديدية .فأخذ يطور ويتراجع جزئياً عن الأفكار المؤقتة (التي ورد بعضها في أول كتاباته – معالم الحياة العربية الجديدة ) ويجذر الأفكار الدائمة والجوهرية ، وكان يطالع ويتفاعل منهجيا مع الفكر والتراث العالمي “والغربي خصوصا ” ويعيد إنتاجه إبداعياً بإسلوبه ومنهجه الاستقلالي الخاص فيتحول الاستلهام واستيعاب التجارب السياسية الثورية العالمية والعالمثالثية كما طرحها ” فانون ” بشكل رئيس إلى مفاتيح لفهم معطيات الواقع العربي وهو يعاينه بعين المناضل النافذة والطامحة إلى التفسير والتغيير .

وكانت بشائر تأملاته وأطروحاته الأولى قد نحت منحىً ليبرالياً فيه من الطوبى السياسية الشيء الكثير لكنها حوت في داخلها نزوعاً وهاجساً للاهتداء إلى صور للأمة ودولتها الواحدة وهي تتبلور وتأخذ شكلها ” ما بعد الاستعماري والاستقلالي الناقص ” ، فكانت المثالية السياسية بمثابة معادل موضوعي لواقع متناقض ومتخلف وراكد   ويحمل في داخله كافة الاحتمالات أو هي كانت بمثابة ” لاوعي سياسي ” يريد أن يشق طريقه الى الوعي السياسي بطريقة اسطورية وحالمة . ، وكان ” هارولد لاسكي ” الأقرب والأكثر تاثيرا وايحاءً في تلك الفترة بما قدمه من دراسات سياسية حول الدولة وإشكالية الحرية والنقابات وغيرها من القضايا التي وصلت الى فكرنا السياسي العربي وهو في أطوار نشأته المبكرة ، ولأن هذا الفكر ذاته كان نقدا للاستعمار والدول الاستعمارية في موطنها الأصلي .

وعندما كان فكر الرزاز السياسي ينضج بهذه الطريقة المتسارعة وبهذا الوقع النضالي كانت الأمة تولَد احداثا وتحولات، وكان على هذا الفكر القومي الذي ينهض بتطويره الرزاز أن يكون متيقظا ومستعدا لملاقاة الأسئلة الجديدة وخصوصا أن الفكر القومي والحركة القومية   وحزبها الأساسي ” البعث ” تحول بالنضال السياسي الى حزب جماهيري مؤثر ويقود الأحداث والجماهير في اكثر من قطر عربي، فكان لابد من اجتراح وصياغة ايديولوجيا “انتقالية” ومطابقة لهذا الخطو النضالي ، ونهضت ضرورة ملحة لتأطير هذه التحولات والانتقال بها الى مستويات أكثر تقدماً وعمقاً . ولأن الرزاز كان في عمق هذه الأحداث وأحد قادتها فقد بدأ يدرك حاجة الحركة القومية وحزب البعث تحديدا إلى فكر ” نقدي تجاوزي” يقود الممارسة ويزيل التباساتها وعماءاتها ( وعلينا القول هنا بأن الرزاز وانطلاقا من ضرورات ملحة بدأ يبحث في الفكر عن امكانيات للتأطير والتجذير وتبيئة وتوطين الأفكار والمفاهيم الشاردة وتعميق الفهم السياسي والعقائدي، فهو لم يكن مفكرا تجريدياً ينطلق من الفكر الى الواقع بنزوع مثالي بل كان الواقع ذاته هو الذي يحدد خياراته المنهجية وانحيازاته الفكرية وتوجهاته السياسية ، ولذلك كانت معظم كتاباته تصب في هذا البعد النضالي – الجماهيري باعتبارها جواباً نقدياً وعقلانياً وواقعياً عن أسئلة يفرزها النضال والحركة القومية والجماهيرية وهي تناضل وتنافح من أجل تحقيق أهدافها .

البحث بحرية وعقل طليق

مارس الدكتور منيف البحث بحرية وعقل طليق ويقظ ، ورفع الحصانة عن بعض الثوابت وأخضعها للنقد لا بقصد النقض والرفض والإلغاء بل من أجل الاستئناف والاستكمال والتجاوز والانتقال إلى صعيد جديد، انطلاقا من إيمانه بنسبية المعرفة واحترام العقل الإنساني الذي يرنو دائما للتفسير وتحليل القضايا ويضخ في عوالم المعرفة طاقات ومناهج جديدة .

ولذلك فإنه في وقت مبكر من التجربة تصدّى لبناء منهج في التساؤل والنقد والنقد الذاتي محاولاً بذلك ابتداء مرحلة سياسية معرفية جديدة تتأسس على النقد . وبدأ بذلك بنقد حزبه وممارساته السياسية الجماهيرية ، ومن خلال محاولاته لتفسير مجريات الأمور والتعرض للعيوب والانحرافات التي اعترضت مسار الحركة القومية وحزبها الأساس ” البعث ” الذي انتقل من صفوف المعارضة وقيادة الجماهير الى الحكم وقيادة الدولة .

ويمكن القول بأن ريادية المنهج وأسلوب النقد الذي مارسه الرزاز لتجربة الحزب في الحكم وإدارة الدولة وفي علاقاته مع القوى الأخرى فاجأت الوعي السائد في تلك المرحلة، واعتبرها البعض ( في أوساط الحزب ) تمرداً فكريا وخروجاً عن النص أو ” طهرانية سياسية ” يراد منها تبرئة الذات، أو أنها محاولة غير ناضجة وذاتية لتفسير الأحداث والأزمات لدرجة أن تعرضت بعض القيادات والأوساط الحزبية بالهجوم والنقد اللاذع لكتاب ” التجربة المرّة ” ومؤلفه ، ومارست ضغوطاً معنوية من أجل اعتبار الكتاب خروجاً على الثوابت والنظامية الحزبية ، وفيه محاولة ذاتية لقراءة الأحداث الحزبية لا يجوز أن يقارفها أمين عام الحزب وقائده في تلك الفترة ( عام 1965 ) . ولذلك سعت تلك الأوساط ذاتها إلى استثناء الكتاب من الأدبيات الحزبية القومية الرسمية المعتمدة في الثقافة الحزبية أو أنها اعتبرته في بعض الأحيان مدخلاً وشهادة للطعن والكيد النظيمي والحزبي .

ولكن الأهم من هذا “الشغب” الحزبي هو ما احدثه الكتاب في أطروحاته ومنهجيته من أثر سياسي – فكري وجماهيري باعتباره أول محاولة جادة وعلنية لنقد تجربة الحزب وما يعنيه ذلك على صعيد تحفيز الوعي وإثارته وإزالة الغموض عن بعض الخفايا التي اعتقدت بعض الأوساط الجماهيرية أنها لم تكن تسير بهذا المنحى والمعنى الذي أفصح عنه الرزاز، ولذلك فإن الكتاب أسهم في خلق تماسك نظري وسياسي داخل الأوساط الحزبية وأعاد الناس للإيمان مجدداً بقدرة الحزب على تجاوز أزماته بما يملكه من صدق وقدرة على المكاشفة والمراجعة والنقد والتجدد وتصحيح الممارسات السياسية المغلوطة والهجينة والطارئة .والحقيقة أن كتاب ” التجربة المرّة ” كان نقطة بداية هامة لتأسيس قاعدة فكرية في النقد السياسي ومدخلآ لمناقشة قضايا خطيرة وجوهرية أثرت بقوة على مسرى الأحداث السياسية العربية من مثل ( التجربة الناصرية ومعطياتها ومساراتها ) ، و” دور العسكرتاريا العربية في الحكم والتأثير على القرار السياسي ” و ” أزمة اليسار ” والضحالة الفكرية في الحزب وعدم الاهتمام بالثقافة السياسية والتثقيف الحزبي وانحسار الاسهامات الفكرية واقتصارها على أدبيات سياسية ابتدائية ومحدودة العمق والتأثير وما أثاره ذلك من انقسامات وخلافات فكرية كانت قد انفجرت بشكل تراجيدي في المؤتمر القومي السادس للحزب بصدور كتيب ” بعض المنطلقات النظرية ” الذي قام الدكتور منيف بنقد وتحليل بعض أطروحاته كونها أرادت أن تؤسس ” لنظرة حزبية وفكرية انعطافية مغايرة ومفترقة عن فكر الحزب وثوابته الأساسية ورؤاه في تلك الفترة من الستينيات .

وعلى ضوء ذلك كان الدكتور الرزاز يعتبر من الواجب مراجعة كافة اشكاليات الحزب النظرية والعملية وتطوير فكر الحزب بما يناسب المستجدات والتحولات الجديدة التي تطرأ في مجال السياسة العربية وفي داخل الحزب الذي بدأ يؤثر في نضالاته على السياسات السائدة وأصبح يقود أكثر من دولة عربية بالإضافة لقيادته للشارع السياسي العربي في أكثر من قطر وقد يكون الدكتور الرزاز من أبرز القيادات الحزبية التي ناضلت وعملت وأسهمت في تقديم تفسيرات ورؤى نظرية عقلانية للأحداث السياسية والحزبية ، ومن أجل انتشال الحركة القومية العربية من أزماتها وتعبئة الفراغات التي بدأت تظهر في داخل تجربتها العملية .

وبناء على ما تقدم فإن الإسهام النقدي ( موضوعاً ومنهجاً في التحليل والرؤية السياسية ) الذي قدمه الدكتور الرزاز يعتبر ريادة وتجديداً، إذا ما نظرنا إليه في زمنه وتاريخه وظروف إنطلاقه، وجرأة فكرية يحسب لها كل الحساب المعرفي إضافة لكونها في المعنى والمبنى نبذا “لجدانوفية ” وصنمية حزبية وفكرية مقيتة ومنوالية في التفكير والتحليل أسهمت في خلق نمط من الكسل الايديولوجي والجمود العقائدي وحاصرت المحاولات التي تريد أن تتجاوز في فكرها وممارستها السائد، وتريد أن ترتقي بالفكر ليصبح قائداً للواقع العربي لا مقودا لمعطياته .

ويبدو أن هذا العقل النقدي الطليق أراد أن يحرر البحث السياسي من قيوده المعرفية ويهدم سياجاته الدوغماتية وأن يبتدع له أدوات معرفية وأحهزة مفاهيمية جديدة تحاور الاشكاليات السياسية المعقدة وتفك عنها غلالات الالتباس والعماء من أجل فتح دروب جديدة للعقل والنضال والممارسة السياسية الواعية . ومع أن الدكتور الرزاز كان يستطيع أن يصمت أمام بعض المسائل إلا أن شعوره بمسؤوليتة الأخلاقية والفكرية والنضالية كانت تحفزه على الاستغراق في المجابهة والدخول إلى الحقول البكر والخطرة ” المفخخة ” وكان بدأبه وعناده وأخلاقياته ومناقبيته يحمّل نفسه مسؤولية ما يقول ويبعد الآخرين عن شبهات الخطأ ولكي لا يفرض مقولاته على الآخرين الذين يشاركهم النضال والتفكير بالمستقبل .

السياسة فعل أخلاقي

بحكم نشأته الأخلاقية الصارمة استمر الدكتور الرزاز ينظر إلى الممارسة السياسية على أنها فعل أخلاقي ابتداءً ، ويرى أنها إذا تجردت من لحظتها الانسانية – الأخلاقية تصبح لعبة متهافتة و ” مكيافيلية ” وانتهازية سياسية وتخريباً وطنياً ، ولذلك ارتبطت محاكمته للأشياء والظواهر بهذه النظرة الأخلاقية وأثرت على طريقة تفكيره السياسي وطرق معالجته للأزمات . فأنت تقرأ في ثنايا كتاباته هذا الملمح ويمكن أن تلاحظ استغرابه المطلق للاستهتار السياسي والانتهازية وتغيير المواقف خصوصاً وهو يحتل منصب الأمين العام للحزب والدولة ( حسب يقينه المستقيم ) وكأنه بحكم نظرته الأخلاقية وتربيته وفهمه للحزب والحزبية لم يكن يفصل بين الوسيلة والغاية في رؤيته للتنظيم والعقيدة ، ولطالما ركز في ملاحظاته على هذا الاتصال واعتبار الوسيلة جزءاً لا يتجزأ من الغاية . وهذا مما أدى فيما بعد ( أي الاستغراق في الاستهجان والاندهاش البريء) إلى التباس في الموقف والتقدير وتبادل الأدوار على صعيد العسكرتاريا الحزبية والهجوم عل المثل والتقاليد الحزبية – التي كان الدكتور الرزاز يطمح إل الاعلاء من شأنها وتحويلها إلى حصانة أخلاقية وضابطا للحركة والممارسة الحزبية – للحؤول دون توظيف الحزب ذاته للوصول إلى مواقع في السلطة السياسية وإضعاف دوره والاحتماء بإمكانياته ونضالاته السياسية والشعبية لتمرير المواقف الانتهازية وتمييع وتشويه الأفكار الكبرى للحركة القومية.

وكان على الدكتور الرزاز أن يتنبه مبكراً إلى الدور السلبي الذي يمكن أن يقوم به الجيش في دول العالم الثالث في حال استئثاره بالسلطة السياسية ، وأن يحتاط منذ البداية لهذه الظاهرة بغية تحجيم سلبياتها وترتيب ادوارها بما يضمن بقاءها بعيدة عن التأثير في القرار السياسي وقيادة الدولة .

إلا أن الحزب ذاته بقيادته وبمجموعه ( والذي وافق على هذا الزواج الفاسد منذ البداية ) والذي سارعت بعض رموزه إلى استلام السلطة دون تفكير عميق بدور الجيش ومستقبل هذا الدور ومخاطره وعن امكانية السيطرة على جموحه ونزواته التسلطية واندفاعاته عندما يمسك بزمام الأمور ، وعن امكانية تحوله إلى ” بونابارتية ” تتغطى بأقنعة إيديولوجية وتسلب الثورة روحها ومعناها من الداخل وتشوه مضامينها وغاياتها وتأخذها بعيداً عن السياقات والمسارات الشعبية المفترضة والمنتظرة .

إذن لم يكن أمام الدكتور الرزاز وهو يعاين هذا الانفلات السياسي في إدارة الحكم وترتيب العلاقة بين الجيش والسلطة السياسية ومؤسساتها المدنية والحزب الذي يقود ” الثورة ” إلا أن ينغمر في أتونه محاولا التنبيه إلى خطورة الظاهرة البونابارتية في الحزب مع أن محاولته جاءت متأخرة كثيراً عن موعدها العملي ، وان يحاول الذهاب إلى قواعد الحزب ( قبل وقوع انقلاب شباط في سوريا عام 1966) علّه بذلك يطوق الظاهرة بموقف شعبي وحزبي يمنع استفحالها والانجرار وراء مقولاتها   وادعاءاتها وشعاراتها المفرغة من المضمون .

ويبدو أن هذه المرجعية الأخلاقية التي انطلق منها الدكتور الرزاز في معاينته للحدث السياسي والظواهر الحزبية التراجعية هي التي ادخلته في متاهات والتباسات ومغالطات، نظرا لأن الحالة الحزبية لم تكن بمستوى هذه المرجعية، أو نظراً لأنها تأسست على مرجعيات براغماتية أخرى لا تحسب للأخلاق بصورتها المثالية المجردة حساباً كبيراً، ولذلك خلق هذا التناقض للدكتور الرزاز التباساً شخصياً وفكرياً وحزبياً لم يستطع الخروج من براثنه حتى في آخر تجاربه الحزبية ، وهو الالتباس الذي عرّضه إلى محن كثيرة وموجات كثيرة من سوء الظن والفهم .

ومع أن الدكتور الرزاز أشار عرضاً إلى حادثة ومفارقة حزبية تتعلق بالموضوع الأخلاقي ( في ثنايا سيرته الذاتية – رسائل إلى أولادي ) عندما ذكر أن بعض أعضاء الحزب ( ومنهم من أصبح لاحقاً في مواقع حزبية وحكومية عليا ) قد عارض وجود صفة الأخلاق والأخلاقية لدى عضو الحزب في أحد المؤتمرات الحزبية التي ناقشت مواصفات العضو الحزبي ، وهذا قد يؤشر على مرارة شخصية ونفسية عانى منها الدكتور الرزاز وعاد وبثها على شكل لواعج وتأسيّات وهو يواجه لحظة جديدة من هبوط مستوى الأخلاق في العمل السياسي وظهور تراجع عن المثل والمباديء وانتكاس صورة العمل الحزبي المتعالي والمدجج بالأخلاقيات والسويّة النفسية والعقلية المتعالية .

هاجس الأخلاق في العمل السياسي العربي كان أطروحة ثابتة في صميم البناء الفكري للدكتور الرزاز يمكن ملاحظة تجلياته في صور شتى وبتعابير مختلفة ، ولكنه بقي معياراً ومرتكزاً يرى الدكتور الرزاز من خلاله الظواهر الحزبية والإنسانية والسياسية وهذا مما جعله في أحيان كثيرة يتضاد ويتصادم مع الانتهازية والانحلال وعدم الرسوخ على المبدأ والانحرافات بأنواعها وهذا مما أدى به إلى أن يكون في لحظات معينة ” منبوذاً ” وخارج السرب في كل لحظة أريد بها للأخلاق أن تتنحى جانباً ويصار إلى ظهور الفردانية والتسلطية بهواجسها وهذاءاتها وابتذالاتها .

    بين المنافي والسجون

المنافي والسجون لم تترك ظلالا جارحة في نفسه الوثابة وعقله المشتعل بل خلقت في هذا العقل نزوعاً جبهوياً وإنسانياً فانفتحت الدروب المغلقة بينه وبين الآخرين،  وتعارف ديموقراطياً على الأفكار الأخرى فأدى ذلك إلى عناق مطلق ودائم بين فكره وممارسته السياسية وبين الديموقراطية قولاً وفعلاً، ولذلك لم تتعطل الخطوط الإنسانية بينه وبين المناضلين من الأحزاب والحركات الأخرى بل يمكن القول أنه أصبح نقطة لقاء والتقاء لهذه الفئات يؤجج فيها رغبة الحوار ويحترم التعددية ويحفز على الانطلاق وعدم التقيد الصارم   بالمطلقات السياسية والتابوات الصماء . وقد اتيحت لي تجربة شخصية وخاصة لكي أرى هذا التفاعل في بيته الذي كان بوجوده يتحول إلى ندوة وملتقى حيث كانت القوى السياسية تراه معلماً وملهماً ومناضلاً صلباً يلجم الاندفاعات السلبية ويؤدب ويكبح الجموح الأعمى . ويعطي للمراحل والظواهر عناوينها الجوهرية فتتحول اللقاءات إلى نقاط بداية ويصبح الفعل السياسي تحصيلا لهذه الحوارات الهادئة والعاصفة التي كان الدكتور الرزاز يحركها ويبعث فيها التوهج والاشتعال والحركة، ولم يكن احب الى نفسه إلا الانطلاق وعدم الاختباء وراء المتاريس والشكليات والغلالات السياسية المقيتة .

السجون تتحول في حضرته الى مرابع كانت فيها تجربته ومعاناته الشخصية والسياسية ولذلك كان سجن (الجفر) مكانا مثل القلاع التاريخية الاثيرة يتحدث عنه بهوىً واسترسال مقدرا عبقرية هذا السجن في دفعه لزراعة بعض الاشجار ومعالجة المرضى ومحاورة المساجين ومدركاً لقدرة هذا المعتقل على جمع هذا النفر من السياسيين الطامحين الى حرية الوطن وفتح شقوق في جدران الحاضر للإطلال على المستقبل .

( الجفر ) منبع الالام والمشاهدات المؤسية والانفعالات الإنسانية والتوق إلى الحرية والانطلاق ، ولذا تراه حفر في نفس الدكتور مسرباً جارحاً وخاصاً واستقر ّ في فؤاده وحوّله بقسوته إلى مشروع سجين وشهيد دائم ، وكانت المصادفة التاريخية المؤلمة أن يبدأ في السجن يتألم ويتذكر، وأن ينتهي في السجن متألماً مخذولاً واعزلاً متذكراً وغير قادر على التأمل والكتابة بحرية .

وجع السجون أدخل الدكتور الرزاز في نفق المخاطرة الذي لم يأبه له ولم يأخذ حيطته وهو يمشي إلى الأمام، ولكنه جعله هدفاً دائماً للوحشية السياسية التي تحب العتمة والغفلة لإلقاء القبض على النسور المحلقة في الذرى بحجة الخوف من نذر الخطر القادم واحتمالات المفاجأة في الفضاء المبهم والانقضاض على بعض تركات السلطة والحكم وهذياناتها .

إننا ونحن نتأمل في التجارب الحزبية والسياسية العربية نجد أن هناك حالات ومحاولات محددة كانت تظهر للقيام بدور تنويري يخترق الأقانيم والفكر المترهل وتحارب الجهل السياسي والامتثالية الخرقاء وتبعية الروح والعقل والتسلط والاستبداد بكافة صوره ، ولكن المعاينة المعرفية لهذه الحالات تشير إلى أن معظم هؤلاء المفكرين قد تعرضوا للنبذ والإقصاء والاستبعاد وسوء الفهم، ويعود ذلك باعتقادي إلى تأخر الوعي السياسي وإعضالات واكراهات العمل الحزبي والعصبوية وانتقال أمراض اجتماعية متعددة إلى أوساط الأحزاب وظهور نمط من الانتهازية السياسية التي لا تحب الفكر والعقائد أو أنها ترى فيها عائقا لنفاذها ونفوذها السياسي، ولذلك فإنها تحاول أن تقيم سياجات وأسوار حول الحالات التنويرية الجاذبة بغية إخراجها من دائرة الاهتمام والتأثير والنزوع إلى الطاعة الأيديولوجية والإسفاف السلوكي والأخلاقي الذي يوفر الطمأنينة السياسية والمستوى المتواضع الذي لا يقود إلى الخطر . ولذلك نرى مثلاً أن هؤلاء المفكرين كانوا هدفاً لهذه الضحالة والانتهازية السياسية وكانوا عرضة للإزاحة والتطاول عليهم من قبل المتواطئين من كل لون، وانتهوا نهايات بشعة أو غير محببة . ولكن الشعب عرفهم فأبقاهم في ضميره رصيداً وتعلم منهم مقاومة الجهل والظلم والهمجية والانغلاق، وهاهو يعود إليهم كلما ظهرت في الأفق غمامات وغيوم داكنة ووحل سياسي .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى