قابيل.. أين أخوك هابيل ؟

تفتتح الرواية بمشهد درامي يتداخل فيه مشهد احتفال سيدي يوسف مع احتفال اللطم والبكاء في بيت للاّ حليمة التي يقتل ابنها سيدي يوسف أخاه حسن البك، المرشح لخلافة والده الباشا على المملكة الطرابلسية ” في بستان الباشا، بضاحية المنشية، أمر سيدي يوسف بإحضار سيدات الطرب من كل الأجناس: طرابلسيات ويهوديات، وزنجيات وحتى التركيات. ويقول الرواة إن بساتين المنشية لم تشهد في تاريخها كلّه احتفالا يمكن أن يضارع في ترفه الاحتفال الذي أقامه سيدي يوسف في تلك الليلة ابتهاجا بفلاحه في القضاء على” الورم المميت” كما كان يلقّب شقيقه(حسن) البك سرّا طوال صراعهما الطويل”. وفي ذروة هذه ” القيامة” انطلق عويل النائحات في ربوع البستان المجاور لبستان الباشا حيث امرأة الكاهية الذي لقي مصرعه على يد سيدي يوسف بعد مصرع البك بلحظات…. فيهددها، “إذا لم يَرُق لها الاستماع إلى طبول الفرح، فما عليها إلا أن تذهب إلى القلعة لتروي هناك ظمأها إلى أصوات النوح( حيث والدته للاّ حلوّمة تقيم مأتما على مقتل ابنها حسن البك( هابيل)… يستند الكوني على شخصية يوسف، حسب الموروثات، والذي استلم السلطة في مصر القديمة، ليصوغ منها قصة تشبه قصة قابيل وهابيل، فيقتل أخاه من أجل السلطة والمال والنساء. يقول أحمد البك لوالده الباشا “في الماضي ظننّاه يوسف في حين ظننّاك يعقوب”.

وتحدث الثنائيات في عوالم موازية حيث الفرح والحزن، البحر والصحراء، الليل والنهار، الأسطورة والواقع، الإنس والجن، الحلم والدم، لتكوّن رواية الليبي إبراهيم الكوني” قابيل.. أين أخوك هابيل؟”. وقد اعتبر المترجم الألماني هارتموت فندريش الكوني بأنه ظاهرة استثنائية في حقل الإبداع الأدبي العربي: وحتى من الصحراء، يكتب عن الصحراء كرمز للوجود الإنساني والعودة إلى كل الكنز الأسطوري لعالم حوض البحر الأبيض المتوسط. وهذا أمر فريد في الأدب العربي.

كما أن الأستاذ صلاح فضل من الأهرام المصرية، يرى بأن إبراهيم الكوني” يمثّل ظاهرة متفرّدة في الإبداع العربي المعاصر من ناحية الخصوبة المتدفقة والفتوحات النوعية الجديدة، فقد استطاع أن يمتح من معين الثقافة الموسوعية الكبرى في الأنثروبولوجيا والفلسفة والأدب، وأن يخطط على مهل لمشروعه الإبداعي الطموح في إعادة بناء الذاكرة، وتشكيل وجدان قومه، واكتشاف كنوزهم المطمورة في الوعي والمخيال الجماعي في الآن ذاته بما جعله صوتا فريدا في الإبداع العربي”.

علي باشا القرمانلي، ملك المملكة الطرابلسية، الذي غالبا ما كان ثملا، يجلس على عرشه، وبجانبه كاهنته اليهودية، إستير، يرقب عن بعد الصراع القائم بين ابنه سيدي يوسف، المفضل لديه، وبين ابنه أحمد البك، الوريث الشرعي للعرش بعد أن قتل سيدي يوسف أخاه حسن البك الذي بدأ صراعهما، وكراهية سيدي يوسف له إثر كلمة قالها حسن البك لأخيه، فقد لمّح لشقيقه حسن بسلطان أجمل نساء طرابلس، للاّ زنوبيا، على قلوب أكابر المملكة، فانتهره  شقيقه بخشونة. وما زالت العبارة التي انتهره بها تطنّ  في أذنيه: ” استحِ أيها الولد”. واستقرت الإهانة في قلبه كطعنة سكين. وذلك بحضور جمع من نساء المملكة. وكانت تلك إحدى الإهانات التي لم ينسها أبدا. وربما كانت السبب المباشر في قتله لأخيه.  أما  للاّ حلوّمة، فقد أطلقت على زوجها الباشا  لقب”هاملت هذا الزمان”، إذ قالت للمسز توللي، صاحبة الحوليات الشهيرة، وهي من القنصلية الإنجليزية، وعاشت عشر سنوات في المملكة التي أحبتها ” إن علي باشا هاملت، وهاملت لا يصلح للعرش”. تقول مسز توللي لمساعدتها: “من يصدق أن الزمان يمكن أن يمكر بالباشا وعائلة الباشا إلى حد تختبئ فيه للاّ حلوّمة في أحد الجحور كأنها فأرة وتنتظر أن تنجدها المسز توللي ببعض القهوة وقوالب السّكر كأنها متسولة تتلقّى الإحسان؟”وذلك بعد أن خلع زوجها عن العرش، وهرب مع أولاده وحاشيته إلى تونس، وبقيت هي تعاني من المرض والذل والانكسار.

” من الشقي الذي اختلق بدعة الحرب يا ترى؟”

تتساءل للاّ زنوبيا الجميلة، التي تقف أمام مرآتها باستمرار، لتضيف وصيفتها بأن قابيل لم يقتل هابيل بتلك الطعنة، ولكنه قتل الجَمَال. فتغيب سيدتها داخل المرآة.. ” وإلى أن يفيق هؤلاء البلهاء من غفلتهم، لا نملك إلا أن نجالس المرايا”.

” الباشا وسيدي يوسف شيطان واحد”

تقول للاّ حسنية لزوجها أحمد البك. فيردّ عليها”قابيل ينحر هابيل بسبب الغيرة، ثم يكافئه الربّ بختم على الجبين لئلا يقتله كل من وجده… إذا كان الربّ قد وضع ختم أول أمانٍ على جبين أول مجرمٍ، فكيف نلوم أهل السلطان إذا تشبهوا به؟”.

حين ذهب أحمد البك لمقابلة أبيه الباشا، بعد مقتل أخيه حسن البك، فيقول “لم يخطر ببالنا يوما أن تصنع منه بطلا مكافأة له على جريمته البشعة… أنت ظننت أنك صنعت منه بطلا، ولا تدري يا أبي أنك صنعت منه قابيلا… أنت صنعت من سيدي يوسف قابيل آدم، بل صنعت منه بغفرانك، قابيل الربّ بعد أن كان قابيل آدم..”…

وتدور الدسائس في أرجاء القصر وخارجه، لتحاك أبشع الجرائم من داخل المملكة وخارجها، مع الاستعانة بالأشباح والأساطير، والحاشية من الملل المختلفة، فيحرّمون الحلال ويحللون الحرام.

النساء في القصر معزولات في جناح خاص بعيدا عن إخوانهن وأبيهن، لا يلتقين بهم إلا في الأعياد، ولا سلطة لهن، وهن شأنهن كشأن بنات الملوك، عليهن أن يتزوجن من العلوج الآتين من الخارج بعد أن أعلنوا إسلامهم، وقد حرّم عليهن الزواج من أبناء الشعب، كما يقول العرف الملكي. مما جعلهن يعشن في عزلتهن. لكن للاّ فطومة، عشقت أخاها سيدي يوسف بعد أن رأت شبحه يوما يحوم في الجناح. وحين سممت زوجها، ذهبت لأخيها يوسف، الذي قال لها” في عرف القدماء كانت الأخوات من حق الإخوة وحدهم…الآن سوف يستعيد قابيل هذا الزمان سيرة قابيل تلك الأزمان بالاستيلاء على الأخت… لا تصدقي أن قابيل قتل أخاه هابيل غيرة من رضوان الربّ… لم يقتل قابيل أخاه هابيل إلا غيرة على أخت فاتنة لهما أحبت هابيل وأنكرت قابيل.”..

لكن بعد أن اجتاح قراصنة الدولة العثمانية المملكة،بقيادة زعيمهم صاحب الألقاب المريبة، وقتلوا ودمروا ومثلوا بالجثث، وأحرقوا كل من وقف في وجههم، حتى أولئك الذين ساعدوه في احتلال بلدهم المملكة الطرابلسية، استدعى علي بن زول، وهو أحد ألقابه، ساعده الأيمن وأمره بتطهير المملكة  من سلالة القرمانلي” انحروهم من الوريد إلى الوريد”. لكن سلالة القرمانلي كانت قد هربت إلى تونس حيث استقبلهم الباي بكل رحابة صدر.. وتدور أحداث كثيرة، منها محاولة صاحب الألقاب احتلال جربة في تونس بعد أن استولى على المملكة الطرابلسية بمرسوم كاذب من الباب العالي في الآستانة، وارتكب جرائم فظيعة ضد القبائل والملة اليهودية والنصرانية… وكل من كان من أتباع القرمانلي. ووسوست له جماعته الاستيلاء على كامل تونس، ثم الاتجاه شرقا حتى الإسكندرية ، وشمالا حتى حدود نابولي بعد الاستيلاء على مالطة التي كما قالوا له يتحدث أهلها باللسان الطرابلسي. وكذلك الاستيلاء على صقلية.

في نزهته على شواطئ تونس، بعد أن جُرّد الباشا من عرشه، وبعد أن أقلع عن الخمر والسهر.. فيقول في نفسه متندرا ساخرا:” اللعنة على العروش وأصحاب العروش.. صرعتني النعمة فأنقذتني النقمة”. ويكتشف في غربته من خلال تأمله للبحر ما يمكن تسميته”أمراض الروح”..” لأن الروح هي السر الذي لا بد أن يحتجب عن تلك المخلوقات المنذورة منذ طفولتها للعروش. ولكن مرأى البحر كان يصيبه دائما بالمسّ. ولو أوتي نصيبا من علم الدروشة لقال إن هذا الضرب من المسّ هو ما يسمّيه أهل الحضرة: الوجد”…. وقد” حققت له الخلوة في أشهر ما أخفق العرش في تحقيقه في سنوات. رأى في إحدى نزهاته على الشط رؤيا: البحر هو الروح، والروح ما هي إلا بحر. البحر والروح لغزان لا تنكشف هوية أحدهما إلا بعون من هوية ثانيهما، ربما لأن البحر ماء، والماء ما هو إلا الروح إذا عنّ للروح أن تتجسد. كما أن الروح ماء، إذا عنّ للماء أن يتخفّى، أن يتبدد، أن يتحرر.”.

لقد كشف سقوطه الغمامة التي كانت تغطي عينيه.

وفي أحدى خلواته على شاطئ البحر، جاءه إلهام آخر: ” فوق الماء ارتفع قمر كاد أن يستوي بدرا. على الماء سطع ضياء غامض. كان انعكاس الضوء على الماء مزعزعا كأن القمر ينهمك مع البحر في حوار، حوار بين الأعالي اللانهائية والأسافل الأبدية…. في هذه اللحظة، فقط، أدرك كم كان علي باشا القرمانلي مغتربا عن علي باشا القرمانلي…..”. وانتصر قابيل” سيدي يوسف” ليصبح ملكا على المملكة الطرابلسية.

وتطول الحكايات، وتمتد الحكايات على مساحة ما يقارب ال400  صفحة، تضيق الصفحات عن قول المزيد من هذه الرواية الجميلة التي صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2007 .

ويبقى إثم قابيل يتلبس روح البشرية منذ الأزل حتى يومنا، وقد غرق العالم في بحار من الدم.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى