سورية ودحر آخر جيوب “داعش” و”جبهة النصرة”

يجزم الخبراء في التنظيمات الإرهابية بقرب نهاية “داعش”، لا سيما بعد هزيمته في الموصل والرقة، ودير الزور، وأخيراً في الجنوب السوري، حيث بسط الجيش العربي السوري والقوى الحليفة له سيطرته الكاملة على ريف محافظة السويداء الشرقي، إثر معارك عنيفة مع مسلحي تنظيم “داعش” الإرهابي.

فقد حقق الجيش العربي السوري تقدّماً جديداً في ملاحقة فلول التنظيم في عمق البادية، وأحكم سيطرته على الحدود الإدارية لريف السويداء الشرقي بشكل كامل، وذلك في إطار هجومه المتواصل على المنطقة الواقعة على بعد أقل من 50 كيلومتراً من مناطق سيطرة التحالف الدولي والفصائل المدعومة غربياً وأمريكياً.

ومع اندحار التنظيم عن السويداء ومن قبلها القضاء عليه في ريف درعا الغربي، لم يعد لهذا التنظيم الإرهابي تأثير في مشهد جنوب سورية، والذي يكتسب أهمية بسبب قربه من الحدود السورية مع الجولان المحتل، والأردن، ومن المتوقع انتشار عناصر “داعش” في البادية السورية التي تشكل نحو مساحة سورية والبالغة نحو 180 ألف كيلومتر مربع، إذ لا يزال التنظيم يحتفظ بجيوب له فيها، خصوصاً في ريف حمص الشرقي وفي بادية دير الزور التي تتصل جغرافياً بصحراء الأنبار العراقية.

وتقع محافظة السويداء إلى الجنوب الشرقي من العاصمة دمشق، وهي من المحافظات السورية صغيرة المساحة، إذ تبلغ نحو 5 آلاف كيلومتر مربع، ولها حدود جغرافية مع الأردن من ناحية الجنوب، فيما يحدها من الشمال ريف دمشق، ومن الغرب درعا، ومن الشرق البادية السورية، وصولاً إلى المثلث السوري الأردني العراقي. وبلغ عدد سكان السويداء التي يقطن فيها بدو سوريون إلى جانب أكثرية من الطائفة الدرزية، نحو 700 ألف نسمة عام 2011، إلا أن عدداً من سكانها، خصوصاً الشباب منهم، هاجروا إلى دول أوروبية إبان سنوات الحرب على سوريا، على غرار باقي مكونات الشعب السوري.

فقد خسر تنظيم “داعش” الإرهابي أهمَّ المدن التي سيطر عليها وركزَّ فيها نُفُوذه في العراق وسورية. وكان تنظيم “داعش” تبنى عدداً كبيراً من العمليات في دول العالم منها ما هو مرتبط فعليا بالتنظيم، ومنها ما هو محاولة لتغذية الماكينة الدعائية لـ”داعش” أو بث الثقة في صفوف المتعاطفين معه، وحثّهم على تنفيذ عمليات لصالحه حتى لو لم ينسقوا معه تنظيمياً.

ومنذ ظهور تنظيم “داعش” يبدو أنه وبحسب متخصصين في شؤون الجماعات الإرهابية قد جهز نفسه ليوم ما بعد الخلافة، ممّا يعني أنّه كان على وعي بأن “دولته” ستنتهي. فهو يسجل اليوم خسائر بالجملة وبعد ثلاث سنوات بات لا يسيطر إلا على 2% من مساحة العراق، و1% من مساحة سورية. كما أن معظم قياداته تعرضت للقتل أو الاغتيال، كما أنّ المقاتلين يغادرون المنطقة بعد أن كانوا يتوافدون للانضمام على التنظيم من أصقاع العالم.

على الرغم من أن الهدف الأساسي الذي ظهر من أجله التنظيم هو تأسيس دولة في معناها المادي وليس تنظيماً عابراً للحدود مثلما كان عليه الأمر بالنسبة إلى تنظيمات أخرى، وأيضاً اعتماده شعار البقاء والتمدد مما مكنه من السيطرة على 90.800 كلم مربع من الأراضي في سورية والعراق، الا ان خسارته للأرض تعني أن التنظيم خسر أهم مكون من مكونات وجوده وهو الوجود على الأرض إضافة إلى تراجع موارده المادية. لذا فإنّ منطق الدولة انتهى ويعني ذلك أن هذه التنظيمات لا يمكن أن توجد إلا في إطار اللادولة، وأنها لا يمكنها أن تتمدد على أراض تحكم سيطرتها عليها. ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن ظاهرة “داعش: ستنتهي، فمن وجهة نظر بعض المحللين الغربيين تبدو المجموعات التابعة لـ”داعش” جاهزة “لدولة إسلامية دون دولة”.

معركة تحرير إدلب

فبعد تحرير المنطقة الجنوبية – درعا والقنيطرة وبادية السويداء – حيث تجرعت فيها الجماعات الإرهابية التكفيرية، على تنوعها وتعدد الجهات المشغلة لها من أمريكا إلى الكيان الصهيوني ودول الخليج التابعة للغرب، أبرز خسائرها وانتكاساتها وانهياراتها السريعة، بحيث لم يتبق أمام الجيش العربي السوري سوى جيوب إرهابية داعشية صغيرة شرق السويداء يقوم بالإجهاز عليها حالياً بالتعاون مع القوات الرديفة وأبناء المنطقة، تتحضر محافظة إدلب الخضراء للتخلص من الاإرهاب الأسود الجاثم على كاهل أهلها وترابها منذ أكثر من ثلاث سنوات ونيف، حيث من المتوقع أن تبدأ معركة مصيرية وحاسمة من شأنها القضاء على تنظيم “جبهة النصرة” الإرهابي.

تأتي معركة تحرير إدلب في مناخ دولي وإقليمي لم يعد في مصلحة التنظيمات الإرهابية التكفيرية التي تكبدت خسائر كبيرة وبالجملة على صعيد مختلف الجبهات، ما أكد بالملموس لدى الأطراف الدولية والإقليمية التي تشغلها، بأن الدولة الوطنية السورية تخطو بثقة نحو تأكيد انتصارها على المشروع الإرهابي التكفيري الظلامي الذي عانت منه لأكثر من سبع سنوات، بحيث لم يعد أمامها سوى جولات قليلة لتنظيف كامل جغرافيتها من رجس هذا الوباء الغريب عن أرضها وتاريخها وحضارتها الموغلة بالعراقة والقدم. ‏فـ”جبهة النصرة” وكذلك الجماعات التكفيرية التي تدور في فلكها، لم يعد لها منفذ سوى تركيا الواقعة بين نارين في الوقت الحاضر: نار خلافها المتأجج مع الولايات المتحدة الأمريكية ونار التزامها باستحقاقي أستانة وسوتشي اللذين يفرضان عليها نوعاً من التنسيق مع الجانبين الروسي والإيراني، ولا مجال هنا للمكابرة أو الخداع لأن تركيا اليوم في وضع سياسي وأمني واقتصادي لا تحسد عليه.‏

وفي نطاق الاستعداد العسكري لخوض معركة تحرير محافظة إدلب، أكدّ وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال مؤتمر صحفي مشترك مع وزير خارجية النظام التركي مولود جاويش أوغلو في أنقرة يوم الثلاثاء 14 آب الجاري، أن المهمة الأساسية الآن بعد تحرير مساحات واسعة من الأراضي السورية من الإرهاب هي القضاء على تنظيم “جبهة النصرة” الإرهابي. وأضاف لافروف: إن اتفاق خفض التوتر حول إدلب لا ينطبق على المجموعات الإرهابية وإن للجيش السوري الحق في القضاء على الإرهاب في جميع الأراضي السورية مشدداً على أن روسيا مستمرة في دعمه لمكافحة الإرهابيين.‏ وشدد على أن روسيا تشاهد في الآونة الأخيرة الأعمال العدوانية من جانب إرهابيي النصرة في إدلب، بما في ذلك حوادث إطلاق النار على قاعدة حميميم.‏ وأوضح لافروف أن الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة يحاولون عرقلة مسار “أستانة” لمنع تسوية الأزمة في سورية لافتاً إلى أن فرض عقوبات على الدول الضامنة روسيا وإيران وتركيا قد يهدف إلى التأثير في نتائج محادثات “أستانة” بالذات.‏ وأشار لافروف إلى أنه يجب العمل على إعادة الإعمار في سورية وتسهيل عودة المهجرين السوريين إلى ديارهم وعلى الغرب تشجيع ذلك.‏

وتتمركز في محافظة إدلب الجماعات الارهابية المتنوعة، وأبرزها تنظيم “جبهة النصرة” الذي يمثل تنظيم “القاعدة” الإرهابي في سورية، إضافة إلى خليط كبير من الجماعات التكفيرية ذات الولاءات المتعددة والمختلفة فيما بينها لدرجة التصادم والاقتتال، وآلاف الشراذم الإرهابية التي رفضت التسوية في مناطق أخرى حررها الجيش العربي السوري خلال السنوات الماضية سواء في دمشق وريفها أم محافظات الوسط والشمال والشرق والجنوب، وهي جماعات لم يعد لديها أي أمل بتسوية أو مصالحة مع الدولة الوطنية السورية أو الانتقال إلى مناطق أخرى داخل سورية، لأنها استنفذت كل الفرص المتاحة أمامها في هذا المجال، وباتت أمام خيارين اثنين إما الموت أو الخروج من البوابة التركية إلى حيث يرغب مشغلوها، وقد بدأ البعض منهم بالهروب فعلاً بتسهيلات من الجندرمة التركية لقاء دفع مبالغ كبيرة خوفاً من المواجهة العسكرية المحسومة النتائج سلفاً.‏ وعلى الرغم من أن تركيا تمر بمرحلة صعبة في علاقاتها مع الإمبريالية الأمريكية، فإنها لا تزال تراهن على “جبهة النصرة” والجماعات التكفيرية الأخرى المنتشرة في إدلب، للإبقاء على نفوذها  داخل سورية كما فعلت  شمالا عبر ما يسمى قوات “درع الفرات” وعملية “غصن الزيتون” التي اجتاحت  من خلالها منطقة عفرين معتمدة مجموعات سورية مسلحة  تعمل تحت إمرتها.

أنجع وسيلة للقضاء على الفكر المتطرف

على الرغم من تشكيل التحالف الدولي لمواجهة تنظيم “داعش” عسكرياً والذى يتكون من حوالى 50 دولة إلا إنه لا يمكن أن يتم القضاء على “داعش” و “جبهة النصرة” والجماعات الإرهابية والتكفيرية الأخرى، باستخدام الأساليب العسكرية فقط، فضرب هذه التنظيمات الإرهابية في مكان لا يحول دون ظهورها في مكان أخر، كما أن المواجهة العسكرية تكلفتها المادية والبشرية هائلة، وأن أفكار التنظيمات الإرهابية انتشرت بشكل كبير ولها تأثير بالغ على الكثير من الأفراد من الفئات العمرية المختلفة وخصوصاً الشباب الذي يعاني من الاغتراب، ولذلك لا بد من مواجهة ثقافية وفكرية للإرهاب، لاسيما أنّ تنظيم “داعش “يعتمد كثيراً على الاعلام ويسميه بـ”الجهاد الإعلامي”.

ويرى العديد من المفكرين العرب والغربيين أنّ الحركات الإسلامية المعتدلة مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بخوض الصراع الفكري والثقافي ضد التنظيمات الإرهابية والتكفيرية، حتى تمنع دعاة الفكر الدموي من اختطاف الإسلام وتقديمه للعالم دين تطرّف وكراهية وإرهاب. وتقوم هذه المقاربة على ضرورة أن يجري التصدي للفكر الداعشي الإرهابي على أسس فكرية وعلمية، من خلال فتح الباب أمام الإسلاميين المعتدلين بهدف تفكيكه وكشف عيوبه وفضح عوراته، استناداً لقاعدة الكاتب والأكاديمي السياسي، دانيال بايبس، إن “الإسلام المتطرف هو المشكلة، والإسلام المعتدل هو الحل”.

ولكن لإجراء هذه الفكرة، كان ضرورياً القطع مع مقولة “ليس في القنافذ أملس”، التي روّجها كتاب ومفكرون عرب وغيرهم من أمثال فرج فودة في كتابه “قبل السقوط” وفؤاد سعيد عشماوي في “الإسلام السياسي”، ونصر حامد أبو زيد في مؤلفه “نقد الخطاب الديني”، وأيضا إيمانويل سيفان في كتابه “الإسلام الراديكالي”، وجوديت ميلر في دراستها “تحدّي الإسلام الراديكالي”، ذلك أنّ المرجعية الفكرية التي ينهل منها هؤلاء الإسلاميون، وإن كانت واحدة إلا أنها تختلف على مستوى الفهم والاجتهاد والتطبيق والممارسة، فهي موزعة على أكثر من مسار وصعيد، ففي الخط السلفي وحده يميز الباحثون في الشأن الديني، بين الخط السلفي التقليدي والخط السلفي الحركي والخط الجهادي وهكذا.

ومن المفكرين الغربيين الذين نظروا لهذه الفكرة، أذكر جون سبوزيتو، الذي حذر في مقال له كتبه بعد الأحداث الدامية للحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، تحت عنوان “الإسلام السياسي والسياسة الخارجية الأمريكية”، من خطورة الدمج بين الإسلاميين المعتدلين والإسلاميين المتطرفين، مؤكدا أنّ الاختلافات القائمة بين الفريقين حقيقية ولا يمكن القفز عليها، بل إن المسؤول السابق في شعبة “الإسلام المتطرف” بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، غراهام فولر، ذهب إلى أكثر من ذلك عندما حذر من استبعاد الإسلاميين المعتدلين من أيّة عملية تحوّل ديمقراطي في العالم العربي، وقال بأنّ ذلك لن يعود بالفائدة إلا على المتطرفين.

ويعتبر الموقف من الديمقراطية وحقوق الإنسان والبرلمان ومن المشاركة السياسية عموما الحد الفاصل بين ما هو معتدل وما هو متطرف.

ويعتقد الخبراء في مقاومة الارهاب الدولي إنّ التركيز على المواجهة الأمنية والعسكرية وحدها لا تكفي، وإنما يجب أن تمتد المواجهة على كافة الأصعدة، وأن تشمل في البداية الجانب الثقافي الديني من خلال العمل على مقاومة الفكر الجهادى بالفكر المعتدل الوسطى وإجراء تحليل ثقافي معمق لظاهرة الإرهاب، لأن طرق مواجهة “داعش” و”جبهة النصرة” الأنسب تتمثل في رفع الوعى الثقافي الديني في المجتمعات العربية، وإصدار قانون مكافحة الإرهاب، وتكوين جبهة عربية فكرية قوية صلبة عمادها وزارات الأوقاف والشؤون الاسلامية العربية لمواجهة الإرهاب و تبادل الخبرات والعلم والدعاة عبر المؤسسات الدينية الرسمية وفى هذا تأكيد على فكرة المواجهة الثقافية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى