التضليل المبرمج في تفسير التخلف العربي

 

طوال عقود جرت وتجري مناقشات وتعقد ندوات ومؤتمرات وتروج نظريات خصوصا في الغرب لتشخيص اسباب تخلفنا وتقدم الاخرين رغم ان نظرة ولو سريعة تكتشف الاسباب الجوهرية لتخلفنا وتخلف العالم الثالث ،ومع ذلك فان الدراسات لم تتوقف والجدل لم ينتهي حول الامر وكان المغيب الاعظم عمدا هو الاسباب الحقيقية لتخلفنا في هذه الجهود الاكاديمية ! ومع الاسف يقع العديد من المثقفين العرب في هذا الفخ فيروجون لنظريات الغرب حول اسباب تخلفنا.

وفي مقال كتبه امريكي من اصل مصري هو د.مأمون فندي ( لماذا تخلفنا؟جريدة الشرق الأوسط ١٣ آب ٢٠١٨م ) يستعرض بعض الاراء التي قيلت في تخلف العرب ويقول ( … ربما كان أهمها نظرية المرحوم هشام شرابي عن المجتمع الأبويpatriarchal society الذي عزا أسباب التخلف العربي إلى سيادة القيم الأبوية، التي انعكست على النظام الاجتماعي والسياسي لتصل بِنَا إلى حالة الـpatrimonial society أو مجتمع الكفيل، الذي تكون فيه الدولة أو النظام كله كما الأب في المنزل حاكماً ومعطلاً للمبادرات الفردية خالقاً حالة من الانسداد الاجتماعي والسياسي. ) . في هذه النظرية الهدف واضح وهوادانة النظام المركزي والقوي وتحميله مسؤولية التخلف !وهشام شرابي امريكي من اصل عربي فلسطيني .

ويقول فندي: ( أما النظرية الثانية فهي للدكتور مايكل هادسون، الذي كان يرى أن أزمة الأنظمة العربية وعدم قدرتها على الدفع بالتنمية يعود إلى عجز في الشرعية ) ومايكل هدسن هو امريكي من اصل لبناني .واخيرا يقول ( البعد الثقافي كأساس لتخلف العالم العربي وأن التعليم كعماد للثقافة هو العلة الأولى. ) . في هذه النظرية ينسب التخلف لنظام التعليم والثقافات السائدة ! اين يكمن الخطأ في هذه النظريات الغربية ؟ وهل هو خطأ ناتج عن مستوى متدن من الوعي ؟ ام انه جزء من ترويج ملفق وغير صحيح ؟

نقد هشام شرابي لنظرية المجتمع الكفيل خاطيء لعدة اسباب جوهرية :

1- ابوية اليابان لم تمنع تقدمها بل بالعكس كانت من اهم عوامل تقدمها فالبوشيدو او اخلاق الفرسان وهي تقاليد اقطاعية تحكمت باليابان مئات السنين كانت من اهم اسباب نهضة اليابان قبل وبعد الحرب العالمية الثانية لان المجتمع الياباني كان منضبطا ومنظما بطريقة تفتقر لها النظم الرأسمالية ولهذا حشدت الطاقات في حزم فعالة جدا نجحت في تغيير المجتمع وازالة عقبات التقدم ،وكانت مصلحة الجماعة هي المحرك وليس مصلحة الفرد حيث تتشتت الجهود وتصبح في المقام الاول تجميع ملفق للمبادرات الفردية ، واهم عوامل النهضة اليابانية الحديثة وتميزها عن كل نظام رأسمالي اخر هو دمج ايديولوجيا البوشيدو وهي تقاليد اقطاعية بالرأسمالية اليابانية.

2- وابوية الصين عبر نظام شمولي للحزب الشيوعي كانت اهم اسباب نهضة الصين السريعة والمذهلة والتي لولاها لبقيت الصين اسيرة مشكلة عددها الضخم جدا والذي استعصى على اي نظرية تنمية ليبرالية ،بل ان الليبرالية في حالة الصين تعني تفكيكها وانهاءها.فنهضة الصين تعود لعاملين هما العقيدة الشيوعية المطعمة بافكار قومية صينية خاصة والنزعة الابوية التي تميز نظام الحكم فيها اي سيطرة الدولة مركزيا . فلا الرأسمالية حققت نهضة الصين ولا الديمقراطية بل نظام شمولي ومركزي قوي جدا وفعال جدا ضمن للجميع الحقوق الاساسية للحياة بروح ابوية واضحة .

3- الثقافة ليست عاملا مستقلا بل هي نتاج بنية تحتية قائمة تفرزها وتديمها وهي ليست فقط الموروث بل ايضا المكتسب من العالم الخارجي الذي يحطم اهم عوامل التنمية وهو الاستقرار الاجتماعي في حالة تناقض البيئة الصانعة للثقافة . فالثقافة غير منفصلة عن محيطها وتتأثر به ولهذا كانت الثقافة العربية السائدة في الدولتين الاموية والعباسية هي قاعدة نشوء الدولة القوية وهي ثمرة مجتمع ابوي نشأ في مجتمعات صحراوية قاسية المناخ ففرضت انماطا من السلوك الجماعي والابوي لمواجهة البيئة القاسية جدا ، ومع ذلك فان الحضارة التي نشرها العرب وكانت منطلق النهضة الاوربية الحديثة لم تكن ثقافتها تعرقل قيام وتوسع الدولة الابوية العالمية العربية في العهدين الاموي والعباسي .اما عندما اختلطت المؤثرات الثقافية وظهر عامل خارجي يحمل ثقافة مناقضة لثقافة الامة – الثقافة الفارسية ذات الاصول الزردشتية مثلا- فقد تخلخلت بنية المجتمعات العربية وانهارت عمليات التنمية بعد ان تعددت المؤثرات المتناقضة بحدة ،كذلك فان قيام الثقافة الغربية على الفردية والليبرالية بينما الثقافة العربية تقوم على نزعة جماعية وروح ابوية ولهذا لم يكن ثمة مجال للتوفيق بينهما، والدمج القسري لهذين النمطين يؤدي الى اضطرابات خطيرة ابرزها الافتقار للقدرة على تحديد الخيارات الواضحة لتحقيق النهوض والتقدم فيسود التراجع .

4- اما نظرية عجز الشرعية كسبب للتخلف فانها ايضا خاطئة لان من فرض الشرعية او الانظمة العربية هو الغرب بعد سايكس بيكو الاولى ولم تكن ثمرة ارادة شعبية والغرب هو الذي وضع قواعد تطور هذه النظم وجعلها نظم طفيلية تعتاش على منتجات الغرب دون السماح لها بالانتقال من التقليد الى الابداع كما فعلت اليابان والصين وكوريا ، وهذه الطفيلية تحكمت بها عدة عقود ونشأت اجيال في بيئة دولة طفيلية ونظام تابع ، وتميزت تلك الاجيال عموما بانها بلا تأهيل وظيفي مخطط وكان التخلف والفساد والاستبداد من اهم نواتج ممارسات الدولة الطفيلية ، وهي نتائج متعمدة ومخططة وليست ثمرة عجز عربي عن النهوض . بدليل انه عندما وصلت انظمة وطنية واسقطت الانظمة الطفيلية في مصر والعراق وسوريا ارادت بجدية النهوض وتجاوز التخلف ولكن من منعها كان الخارج ،اولا وقبل اي عامل داخلي ، مستثمرا تكوينات اجتماعية قديمة اضافة لخلق الازمات والحروب لاستنزافها ومنع تراكم راس المال الضروري للتنمية ، وهذه الحقيقة تفسر لم تعرض العرب عندما حاولوا النهوض وتحقيق التقدم لكل تلك الازمات الخارجية بينما حينما كانوا تحت ظل انظمة طفيلية كان الهدوء سائدا تقريبا دون تقدم نوعي حقيقي .

5- ونسب التخلف كما فعل دوستو الى عدم ظهور الرأسمالية في الوطن العربي يكشف الهدف وهو فرض نمط الانتاج الرأسمالي مع انه هو بالذات مصدر اخطر الازمات ليس في العالم الثالث فقط بل عقر داره : اوربا الغربية وامريكا الشمالية ،فالرأسمالية نتاج مجتمع تطور صناعيا واقام الدولة الوطنية التي تجاوزت صلات ما قبل الوطنية كالعشائرية والاقطاعية والطائفية والمناطقية والعائلية …الخ ، لذلك ففرضها على مجتمعات مازالت تتأثر واحيانا بقوة بعلاقات ما قبل الوطنية لن يؤدي الا الى تدمير الاستقرار النفسي والثقافي ويحطم فرص التقدم والنهوض وهو ما حصل في الوطن العربي فادى ذلك الى خلخلة المجتمع والفرد ووضعهما تحت ضغوط تناقضات قاسية بين قيم ما قبل الوطنية وقيم ما بعد نشوءها .

6- واخيرا نظرية ان التعليم هو العلة في التخلف هذه النظرية تضليلية لسبب واضح جدا وهو ان التعليم في العراق ومصر مثلا كان ممتازا ويضاهي التعليم في بريطانيا وغيرها من مراكز التقدم ولكن هذه الاقطار تخلفت عندما حاولت النهوض ،وتجاوز الخطوط الحمر التي وضعها الغرب وتوابعه ،ومنعها من تحقيق نهضة حقيقية فعالة كما فعلت الصين واليابان وكوريا ،لان العامل الخارجي كان العامل الحاسم في اجبار العرب على خوض صراعات تدمرفرص التنمية واول ضحاياها كان التعليم في مصر ثم في العراق .

واطروحة ان النظم الثورية هي التي تسببت في انهيار المنظومة التعليمية السابقة لها خاطئة لان جمال عبدالناصر مثلا واصل الاعتماد على نفس القاعدة التعليمية مع اضافة مكونات اخرى لها تعززها ولا تضعفها ، اما في العراق فقد نهض التعليم على نفس الاسس القديمة الممتازة والتي تشبه اسس التعليم في بريطانيا فاعترفت الامم المتحدة في السبعينيات من القرن الماضي بان النظام التعليمي في العراق كان يضاهي ارقى النظم التعليمية في العالم خصوصا في اسكندنافيا،وكانت الشهادة العراقية معترف بها في كل دول العالم المتقدم ،وهذا النظام التعليمي خرّج ما اسماه ضابط المخابرات الامريكية ديفيد كي رئيس فريق التفتيش النووي ب ( جيش العلماء والمهندسين ) والذي وصفه بانه ( اخطر من اي اسلحة دمار شامل ) ! فالعراق حقق قفزة نوعية في كل شيء ،لكن الخارج هو الذي دمر النظام التعليمي مباشرة او بصورة غير مباشرة. ولهذا لم يكن غريبا ولا صدفة تنفيذ عمليات اغتيال جماعية لمئات العلماء والمهندسين والمهنيين في العراق وخطف الالاف منهم بعد الغزو اضافة لتولي المخابرات الاسرائيلة والغربية تصفية كل عالم يبرز عربيا .

اذا لم تروج الاوساط الغربية هذه النظريات وهي تعرف انها خاطئة ؟ الغرب الاستعماري واسرائيل ليس من مصلحتها نهوض العرب بعد غفوتهم لعدة قرون لاسباب عديدة جعلت الغرب يعادي نهضة العرب بعكس تعامله مع نهضة الصين وكوريا واليابان وبقية النمور الاسيوية .الحروب والحصارات والازمات المفروضة من الخارج على العرب كلما حاولوا النهوض هي العامل الاساس وما عداه عوامل فرعية وثانوية تمت السيطرة عليها وتحييدها في العراق بتحقيق قفزات نوعية تقدمية .

التقاليد العربية الكلاسيكية لم تكن هي العائق الرئيس بدليل ان التقاليد الاقطاعية في اليابان لم تصبح عامل تخلف بل على العكس كانت حافز تقدم جبار وكذلك في الصين ، ولكن الغرب كي يجعل التقاليد والثقافة العربية هي المسؤولة تعمد تنفيذ خطط كشفت الان لترويج نمط متشدد وساذج من التفكير وانتقى من الثقافة والتقاليد العربية كل ماهو سلبي ونماه وغذاه ليسود ويطمر العناصر الايجابية فيهما .

النظام الابوي او ( المجتمع الكفيل ) عندما يحركه نظام تقدمي يصبح الرافعة الجبارة للتقدم والضامن الاساس للنجاحات الجذرية في تغيير الناس والمجتمع وتجربة العراق اثبتت ذلك واكدت ان الابوية والشمولية كانا اهم عوامل نهضة العراق التي اقلقت الغرب والصهاينة لانها تولت حشد الطاقات الشعبية في انساق ابداعية نقلت العراق الى مستوى راق بين دول العالم .

من هنا نؤكد بان هذه النظريات وضعت عمدا لمنعنا من اكتشاف الاسباب الحقيقية لتخلفنا وزجنا في متاهات الاختيارات الخاطئة واجبارنا على تجربة نظم راسمالية ليبرالية غريبة على بيئتنا وتقضي على ما تملكه مجتمعاتنا العربية من تماسك وديناميكات خلاقة اصلها المجتمع الابوي والذي كان وراء الحضارات العراقية والمصرية والهندية والصينية واليابانية .ولو اتبعت اليابان نمط الانتاج الرأسمالي الغربي دون دمجه بالبوشيدو لبقيت متخلفة وكذلك الصين واكثر من اليابان بحكم عددها الضخم .

كي يسيطر الغرب ويواصل سيطرته ونهبه وكي تتواصل عملية تعزيز قوة الكيان الاسرائيلي كان لابد من قيام هذه الاطراف بزج العرب بازمات تولد احداها الاخرى بلا انقطاع حتى الانهيار التام. وليس ثمة دليل حاسم افضل من تدمير العراق المنهجي دولة ومجتمعا وانسانا وعمرانا بعد ان نهض وتقدم وصار انموذجا ناجحا جدا للتنمية غير النمطية والذي قام على ( مجتمع الكفيل ) حيث تتولى الدولة ضمان العمل والطب والتعليم والامن والامان والنظام والعدالة للجميع…الخ، وذلك اعظم اسباب التقدم والنهضة وليس العكس كما تروج النظريات الغربية فالتخلف العربي ليس خيار العرب بل ستراتيجية الغرب الاستعماري والاسرائيليتين الشرقية والغربية .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى