صفقة وتحتضر واستهدافاتها تُنفَّذ!

ذهبنا في مقال سبق إلى أن “صفقة القرن” هي في طور الاحتضار، وإن أطرافها في توافق ضمني بإيداعها غرفة غموض العناية الفائقة تأخيراً متعمَّداً للحظة دفنها. ما زلنا عند ما ذهبنا إليه، وكنا فصّلناه ولسنا بصدد عودة إليه، لكنما، واستكمالاً، يجرنا لغط التطورات التهدوية الغزّية الأخيرة لما يقتضي وجوب الإشارة إليه، وهو أن احتضارها، وحتى دفنها، لا يعنيان بحال إلا الجانب التفاوضي لتمريرها، أو فرضها، كطرح تصفوي مكتمل الأوصاف للقضية الفلسطينية، ذلك لاستحالة قبوله فلسطينياً، وبالتالي استحالة تبنيه، أقله علناً، من قبل الأطراف العربية المتورّطة في ترويجة توسُّطاً وتمريره ضغطاً على الطرفين الفلسطينيين النقيضين اللذين يرفضانه، وكل من موقعه، والأمر الذي كنا  قد بيَّناه.
الصفقة بمعنى الرؤية الاحتلالية ذات المرجعية الاستراتيجية الثابتة لحسم الصراع وتصفية القضية الفلسطينية، جار تطبيقها عملياً دونما حاجة لأبرامها، يسهّله وجود إدارة أميركية لا تتبنى كسابقاتها مع بعض من رتوش لهذه الاستراتيجية، وإنما بتوجهات أكثر صهيونيةً من الصهاينة أنفسهم، وكنا مراراً قد أشرنا إلى أن الفريق الموكل إليه أمرها في هذه الإدارة قد تم اختياره بالكامل من غلاة اليهود وداعمي التهويد الصهاينة…يوميات واحدهم مثلاً، وهو السفير لدى الكيان الاحتلالي فيلدمان، والمتعلِّقة بحركته ومواقفه، يبدو فيها وكأنما هو من ينوب وحده عن الإدارة الأميركية ووزارة خارجيتها ومعهما الكنيست، وقد يحسده عليها من هم على شاكلة ليبرمان وبينت!
فإذا كانت تصفية القضية وحسم الصراع في المفهوم الصهيوني تعني تهويد كامل فلسطين والقضاء على ما يؤشر للوجود الوطني المادي والمعنوي للشعب الفلسطيني فيها، وانتزاع القبول العربي الرسمي بالكيان الاستعماري الغاصب فيها والقلب من الوطن العربي، وتزايد وتائر التطبيع معه، فإن هذا الأمر الآن، في ظل الراهن العربي والدولي والفلسطيني، هو الجاري وقيد التنفيذ.
كان من أولى أولويات ترامب إيفاءً بتعهُّداته الانتخابية الاعتراف بالقدس عاصمةً أبديةً لمحتليها، وتبعه بنقل سفارة بلاده إليها، والحقه بشرعنة التهويد وسرقة الأرض من تحت أقدام أهلهاً. وهي خطوات مدروسة من شأنها أن طوَّحت بالضربة القاضية بكافة الأوهام التسووية التي نمت في أوحال مستنقعات اوسلوا وغذَّتها الانهزامية العربية، من مثل، “حل الدولة الواحدة”، ثم جاء قانون “القومية اليهودية” ليجهز على خليفته “حل الدولة الواحدة” في مهده…اوليس هذا كله يعني التنفيذ العملي للصفقة دونما حاجة لإعلانها أو التفاوض بشأنها؟!
عزز هذه الأولويات الحرب الأميركية المعلنة على “الأنروا” استهدافاً لجوهر القضية الفلسطينية وهو حق العودة، بمعنى  الإجهاز على رمزية الاعتراف الأممي باللجوء الفلسطيني إثر النكبة، أو ما يذكّر العالم بوجود القضية الفلسطينيةً…ناهيك عن أن شطب حق العودة، وخنق “الأنروا”ً، وقانون “القومية اليهودية”، أمور ترانسفيرية متضافرة لإيصال فلسطينيي الداخل فيما بعد النكبتين إلى لحظة التحوّل إلى روهينغا عربية مستقبلية يبصم عليها سلفاً الصمت العربي تواطؤاً أو عجزاً، وتكتمل التراجيدا بإطروحة “ناتو عربي” يتحالفٍ مع عدو الأمة الأصيل لمواجهة عدوها الموهوم البديل!
تقرير مجلة “فورين بولسي” الأميركية، المعنون، “ترامب وحلفاؤه يسعون إلى إلغاء وضع اللاجىء لملايين الفلسطينيين”، أوردت جملةً من رسائل الكترونية وجهها مستشار ترامب وصهره جاريد كوشنر، الموكل إليه أمر “صفقة القرن”، تفضح ما تدبّره إدارته لإنجاز الحل النتنياهوي الذي تتبناه. جاء فيها، وقد وجّهت إلى مسؤولين، إن “المهم أن يكون هناك جهد صادق ومخلص لتعطيل اونروا”…لماذا؟ يقول لأن “هذه الوكالة تسعى إلى إدامة الوضع الراهن”، بمعنى حفظ  القضية، و”ولا تساعد على السلام” وفق الرؤية الترامبوية النتنياهوية، وعليه، يفتي كوشنر بأنه “لا يمكن أن يكون هدفنا الإبقاء على الأمور مستقرة، كما هي عليه”، إذ “أنه في بعض الأحيان عليك أن تخاطر استراتيجياً بكسر الأشياء من أجل الدخول هناك”!
الآن، وفي كل من المحتلين ما بعد النكبتين، 1948، و1967، تجرى الأمور واقعاً بمقتضى مرامي الصفقة، ويشذ نتوء غزة المقاوم، وهنا لا بد من استغلال الحال المريعة التي حشر في أتونها مليونا فلسطيني في جحيم حصار ممتد يدخل عامه الاثني عشر، ويشارك في احكام خناقه الأعداء والأشقاء لتركيع العناد الفلسطيني، بمعنى مسخه في مجرَّد حاله إنسانية لا علاقة لها بوطن مغتصب وحق شعبه في العودة إليه محرراً، وحلها وفق مقولة “السلام الاقتصادي”، على غرار وصفة طوني بلير، وخطة سلام فياض، واللتين امتياز براءة اختراعهما عائدة في الأصل لبنيامين نتنياهو.
..حديث الهدنة طويلة الأمد، المشروطة بعودة سلطة أوسلو ومعها تمكينها الأمني إلى القطاع، أو إنشاء سلطة أخرى فيه، أو ما ترمي إليه مساعي ملادينوف غير الحميدة مقابل تحسين شروط الجحيم الغزي، هو بداية تشييع للخط المقاوم، وتحويل المقاومين في غزة إلى ما فعلته اوسلوا بسابقيهم المتقاعدين في رام الله…هناك ازمة عمل وطني، الخروج منها لا يكون بمهادنة العدو، وإنما فقط بنفض الغبار عن الثوابت الوطنية والقومية وإعادة الصراع إلى كلمته الأولى، بغيره الكل يشارك في تنفيذ صفقة كوشنر ولو رفضها…بل وحتى لو تخلى صاحبها عنها  .

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى